سعود قبيلات ▣
الوضع الذي مررتُ به الأسبوع الماضي كان بالنسبة لي وضعاً غريباً جدّاً؛ إذ قام مندوب إحدى الصحف المحليَّة بفبركة تصريحٍ كاريكاتيريّ على لساني بشأن الأوضاع في سوريا، رغم أنّني لم أدلِ بأيّ تصريح له! فبادرتُ إلى نشر توضيح مختصر في الجريدة نفسها كشفتُ فيه حقيقة تزوير ذلك الصحفيّ لكلامي؛ ولكنّني فوجئتُ برسالة مفتوحة، وصلتني بواسطة بريدي الإلكترونيّ، مِنْ صديقي الكاتب والناقد السوريّ صبحي الحديديّ، المقيم في لندن، وقد ثبّتَ فيها "التصريح" المنسوب إليّ وصاغ بالاستناد إليه عدداً من الأسئلة الاستنكاريّة الموجّهة لي. ثمَّ كتب صديقي الأديب أمجد ناصر، المقيم في لندن أيضاً، مقالاً في جريدة "القدس العربيّ"، بعنوان "مع الإصلاح في الأردن وضدّه في سوريا"! فتلقّف المقال العديد من المواقع الإلكترونيّة، وكرّرتْ نشره بعض صفحات الفيس بوك مرّات عديدة، كما انهالت عليّ التعليقات التي كان بعضها مسيئاً ومتجنّياً، وأحياناً مسفّاً، وراح البعض، ممّن لم أسمع لهم يوماً عن موقفٍ جدّيّ تجاه أيَّة قضيَّة، يتطوّع بإعطائنا دروساً في المواقف والمبادئ، وأكثر مِنْ ذلك، راح يحدّد لنا كيفيّة الطريقة التي يجب أنْ نصوغ بها موقفنا، بل إنَّ بعضهم نصّب نفسه ناطقاً سامياً باسم التاريخ وأصدر حكمه النهائيّ عليَّ وعلى زملائي في الهيئة الإداريّة للرابطة.
والحقيقة أنَّ هذه الحادثة وذيولها سبّبت لي صدمة حقيقيّة؛ ليس فقط بسبب التجنّي على زملائي وعلى شخصي، ومحاولة الإساءة لهم ولي؛ ولكن، أيضاً، وأكثر مِنْ ذلك، بسبب بعض التصرّفات التي رافقتها والتي لم يكن يخطر في بالي أنَّ أحداً يمكن أنْ يبيحها لنفسه!
أوّلاً، سلوك مندوب الصحيفة المحليّة الذي سمح لنفسه بتوليف تصريحٍ صحفيّ مسيء (أو حتَّى لو كان غير مسيء) ووضعه على لساني، مع أنّني كنتُ واضحاً في رفضي الإدلاء له بأيّ تصريحٍ! الأمر الذي يتنافى تماماً مع ألف باء المعايير المهنيّة والأصول الصحفيَّة، ولم يسبق أنْ رأيت مثله مِنْ أيّ صحفيّ آخر على كثرة ما تعاملتُ مع الصحفيين والإعلاميين.
ثانياً، لجوء صديقيَّ، صبحي وأمجد، لهذا الأسلوب التشهيريّ الواضح في مخاطبتي، بحجّة الاستفسار عن موقفي، رغم أنّ خطوط البريد الإلكترونيّ مفتوحة بيننا، وليس نادراً ما أتلّقى رسائل منهما عبرها. وقد جعل أسلوبهما ،هذا، أيَّ توضيح يمكن أنْ يصدر عنّي مستقبلاً، مجرّد استجابة زائفة منّي للحملة التي أُثيرتْ ضدّي. أي أنّني أصبحتُ مداناً لدى البعض بحكم قطعيّ غير قابل للاستئناف، مهما فعلتُ ومهما تكلّمتُ!
ثالثاً؛ التجنّي الواضح على شخصي وعلى قوى الإصلاح الأردنيّة، في عنوان ومتن مقال صديقي أمجد. ولستُ أدري كيف استنتجَ أنّنا ضدّ الإصلاح في أيّ بلد عربيّ (بما في ذلك سوريا)؟ هل قرأ ذلك في بيانات صدرتْ عنّا أو مقالات كتبناها أو مواقف اتّخذناها؟ أين وجد مثل هذا الكلام؟ وبالنسبة لي شخصيّاً، لو كانت حقيقة موقفي هي كما صوّرها أمجد، لما تردّدتُ في إعلانها والدفاع عنها لحظةً واحدة؛ حتّى لو لم يكن ثمّة مَنْ يؤيّدها سواي. وبالتالي، فإنّني أتساءل عن الغاية التي يمكن أنْ تتحقّق من التشكيك بصدقيّة القوى والأشخاص العاملين مِنْ أجل الإصلاح في الأردن! ومَنْ سيكون المستفيد مِنْ هذا؟ وما هي القضيَّة التي يتمّ الانتصار لها، فعلاً، هنا؟ وما هي القضيَّة التي تُوجَّه لها الطعنات؟ (بغضّ النظر عن النيّة والقصد). ومِنْ ناحية أخرى، فإنَّ هذا الطرح يمثِّل قلباً تامّاً للمعايير والحقائق؛ فصدقيّة دفاع أيّ إنسان عن الحريّة والديمقراطيّة تقوم أساساً على مدى دفاعه عنها داخل بلده وليس العكس. وفي الكثير من الأحيان يلجأ بعض المثقّفين (والسياسيين، أيضاً) لاتّخاذ مواقف استعراضيّة من بعض القضايا الخارجيّة، بهدف التستّر على جبنه وعجزه عن اتّخاذ مواقف من القضايا الداخليّة لبلاده.
لقد كنتُ دائماً مع الحريّة والديمقراطيّة في كلّ مكان (بما في ذلك الأردن وسوريا)، والعديد من المثقّفين والكتّاب العرب شهدوا المواقف التي اتّخذتُها في هذا المجال في منابر عربيّة مختلفة، وأنّني لم أستثنِ نظاماً عربيّاً واحداً في يوم من الأيّام من المطالبة بالديمقراطيّة والحريّة وحقوق الإنسان. وفي هذا كلّه كنتُ أعمل انطلاقاً مِنْ مبادئي وضميري، ووفق رؤيتي وتحليلي، وليس بالوكالة عن أحد، أو ضمن خطط لا شأن لي بها ولا تتّفق مع مبادئي، ولا لكي يقول عنّي أحد أنّني جيّد وأنّه راض عنّي، ويتفضّل عليَّ بعد ذلك ويمنحني ما يتوهّم أنّه في حوزته مِنْ صكوك غفران لا أتشرّف بحملها.
البعض يتصرّف كما لو كانت معاناة الشعب السوريّ مجرّد مقاولة خاصّة به، وأنَّ مِنْ حقّه، بناء على ذلك، أنْ يحدِّد صيغة، بعينها، لتكون هي الصيغة الوحيدة المقبولة للتعبير عن تأييد الإصلاح ورفض القمع في سوريا؛ ومَنْ لا يلتزم بها فهو ضدّ الإصلاح ومع القمع والبطش. واللافت أنّ هذه الصيغة المطلوبة، نفسها، مدعومة مِنْ قوى ودول ارتكبت (ولا تزال) أبشع أنواع الجرائم ضدّ الإنسانيّة في مختلف أنحاء العالم (بما في ذلك وطننا العربيّ)، وبعضها ينتمي إلى العصور الوسطى في تعامله مع حقوق الإنسان وحريّاته (العامّة والشخصيّة)؛ ولكنّهم، مع ذلك، يجرؤون، جميعاً، الآن، على تنصيب أنفسهم ناطقين وحيدين باسم الحريّة والديمقراطيَّة وحقوق الإنسان (في سوريا طبعاً)! وأكثر شيء يزعجهم ويثير غضبهم أنْ ترد على لسانك في الموضوع السوريّ سيرة الممانعة والمقاومة؛ إذ يقفز واحدهم، عندئذٍ، كالملسوع، محاولاً التشويش على كلامك وإسكاتك! نحن نعرف، بالطبع، أنّ بعض هؤلاء مرتبط بقوى استسلمتْ منذ زمن طويل واستمرأت الاستسلام (وبعضهم متأثّر، على الأقلّ، بثقافة تلك القوى). وهم يعتقدون الآن أنَّ حراك الشعب السوريّ الشقيق يمكن أنْ يكون منصّة ملائمة لهم لكي يقفزوا منها نحو تصفية حسابهم القديم مع الممانعة والمقاومة. يا سادة، لولا الممانعة والمقاومة التي كشفتْ حدود قوَّة "إسرائيل" إبّان عدوانها على لبنان ومقاومته الباسلة في صيف العام 2006، لكانت منطقتنا تعيش الآن في ظلّ "الشرق الأوسط الجديد"، الذي بشّرتْ به كونداليزا رايس – أنذاك –، بدلاً من العيش في ضوء الانتفاضات والثورات العربيّة الديمقراطيّة التي نشهدها الآن.
يريدنا البعض - لغرض في نفس يعقوب - أنْ نهجر الديالكتيك وننظر إلى الأمور بمنظار ميتافيزيقيّ قاصر، وباللونين الأبيض والأسود (كما أوضح صديقنا الكاتب الصحفيّ أحمد أبو خليل في مقالٍ له حول الموضوع السوريّ). يريدوننا أنْ نحشر تعبيرنا عن تأييد الإصلاح في سوريا ورَفْض التعامل بالحلّ الأمنيّ العنيف مع الاحتجاجات هناك، في الخانة الملائمة للسياسة الأميركيّة (وتابعتها العربيّة) التي تركّز علناً على استغلال المناخ القائم الآن لتصفية حسابها مع الممانعة والمقاومة بالتحديد، وليس مع النظام السوريّ؛ وإذا لم نفعل فإنّنا في رأيهم مع القمع وضدّ المطالبة بالديمقراطيّة.
إذا كان البعض لا يساعده نظره على أنْ يرى هذا الجانب المهمّ للموضوع، فهذا شأنه وهذه مشكلته؛ أمّا إذا كان يرى ما نرى ويتعمّد أنْ يبني عليه موقفاً مناقضاً، فمن الواضح أنّنا لسنا وإيّاه في مركب واحد ولا طريقنا واحد.
وفي كلّ الأحوال، إذا كان الاستمرار في تطبيق معيارهم الميتافيزيقيّ على موقفنا يحسِّن شعورهم، فليفعلوا ذلك؛ ولهم أيضاً أنْ يفعلوا ما بدا لهم، كما لهم أنْ يصدروا ما يريحهم من الأحكام القاطعة الحاسمة بشأننا. ولكنّهم لن يدفعوني إلى اتِّخاذ موقفٍ أشعر بالخزي منه بيني وبين نفسي.
وفي نهاية الأمر، فإنَّ ما ينفع الناس يمكث في الأرض؛ وأمَّا الزبد، فيذهب جفاء. كما أنّه "لا يبقى في الوادي غير حجاره". كما قال الطاهر وطّار.
الله يسلم تمك ويقويك وتظل شامخ وقوي بقوة مواقفك ولو عكا خافت من هدير البحر لمى بقيت مكانها
ردحذف