سعود قبيلات ▣
يلتقي الواحد منّا بالكثير من الناس خلال مراحل حياته المختلفة؛ بعضهم، مهما طال لقاؤنا به وتعامُلنا معه، يختفي أثره مِنْ حياتنا بمجرّد غيابه عن عيوننا؛ وبعضهم، مهما كان مروره بحياتنا قصيراً، يستقرّ مقامه في نفوسنا.. حتَّى وإنْ باعدتْ بيننا وبينه المسافات والسنون.
مِنْ هؤلاء الذين لا يكون مقامهم عابراً، صديقتي القديمة والطيِّبة نسرين أختر خاوري، وهي مِنْ عائلة أردنيَّة بهائيَّة مِنْ أصل إيرانيّ. عرفتُ نسرين عندما كنّا طلّاباً في الجامعة الأردنيَّة في أواخر سبعينيّات القرن الماضي. كانت ضمن المجموعة الأقرب إلى نفسي مِنْ أصدقائي ورفاقي الشيوعيين مِنْ طلّاب الجامعة الأردنيَّة، ولكنّها لم تكن شيوعيَّة، بل لم تكن مهتمَّة بالسياسة، أصلاً، وإنّما كانت على عداءٍ عميق وراسخ معها، وكانت آراؤها إنسانيَّة عامَّة تدعو إلى التسامح بين البشر وتفهُّم خلافاتهم واختلافاتهم. وكنّا جميعاً نختلف مع آرائها، تلك، ونعتبرها طوباويّة، ولكنَّنا مع ذلك كنّا نعتبر صاحبتها واحدةً منّا.
وكانت مجموعتنا – آنذاك - مكوَّنة من المرحوم محمَّد طمَّليه، ومروان الشمَّاس، وخالد مساعدة، وكاتب هذه السطور، إضافة إلى بعض الأصدقاء والصديقات، ونسرين بطبيعة الحال.
ابتداء مِنْ ربيع العام 1979وحتَّى صيفه، جرتْ عمليَّة منسَّقة ومتواصلة لاعتقالنا جميعاً، وانفضَّ مِنْ حولنا العديد من الأصدقاء الذين كانوا قريبين منّا في السابق والذين كانوا يتّفقون معنا في الرأي، وكانت المفاجأة أنَّ نسرين، التي لم يكن رأيها يتَّفق مع رأينا، هي أكثر مَنْ استمرّ بالوقوف إلى جانبنا وتمسّك بصداقته معنا، بل إنّها راحت تعدّ العرائض المطالِبة بإطلاق سراحنا وتجمع التواقيع عليها؛ الأمر الذي كان يُعدُّ – آنذاك – مخاطرةً كبيرة.
تمَّ تحويل كاتب هذه السطور إلى سجن المحطَّة في صيف العام 1979 ليمضي هناك خمس سنوات، وفي هذه الأثناء انقطعتْ أخبار نسرين وأصدقاء آخرين عديدين. وعندما خرجتُ من السجن، كانت الدنيا قد تغيَّرتْ كثيراً والناس قد تبدَّلوا تماماً؛ فاحتجتُ إلى جهدٍ كبير ووقتٍ غير يسير للتكيّف معهم ومع نمط حياتهم الجديد الذي غلبتْ عليه آثار "الفورة النفطيَّة". ومرَّت سنوات طويلة، إلى أنْ رنَّ هاتفي الخلويّ ذات يوم، قبل سنتين، فإذا بالمتحدّث على الطرف الآخر امرأة تقول لي وهي ضاحكة: كيفك سعود! تعرف مين أنا؟!
وطبعاً لم أعرف؛ فلم أكن أتوقّع. قالت: أنا نسرين!
وعندئذٍ تداعتْ في ذهني كلّ الذكريات الجميلة لتلك المرحلة. أمَّا كيف عثرتْ علينا وعثرنا عليها، بعد كلّ هذا الغياب الطويل، فكان ذلك عن طريق الانترنت، حيث استعان صديقنا ورفيقنا القديم مروان الشمّاس بأولاده للبحث عنها عبر هذه الأداة السحريَّة العظيمة. وجاءت نسرين إلى عمَّان، وما أن التقت بمروان حتَّى طلبتْ منه أنْ تلتقي بي وبصديقتنا القديمة الدكتورة رفقة دودين. ولم نكن قد التقينا بمروان منذ زمنٍ طويل، فكان لنسرين الفضل في إعادة جمعنا به. وفي كلّ مرَّةٍ لاحقة جاءتْ فيها إلى الأردن، جمعتنا بأصدقاء وصديقات آخرين فرَّقتْ بيننا وبينهم الظروف والسنون. وعندما التقينا بها في المرَّة الأولى عرفنا أنَّ أسرتها هاجرتْ إلى الولايات المتَّحدة منذ تلك الأيّام البعيدة، وأنَّها الآن أستاذة جامعيَّة مرموقة في جامعة ديبول في شيكاغو وتترأس قسم الدراسات الشرقيَّة في تلك الجامعة، ومتزوِّجة مِنْ أميركيّ ولها أولاد.
ورغم كلّ هذه السنوات الطويلة التي مرَّتْ منذ أواخر السبعينيَّات، ورغم كلّ تلك التبدّلات التي جرتْ على حياتها وعلى العالم بمجمله، كانت نسرين لا تزال كما هي؛ بنفس طيبتها، وآرائها الإنسانيَّة، ووفائها لأصدقائها ومحبَّتها لهم، وصدقها، وعفويَّتها. والأمر الأكثر إثارة للإعجاب، حبَّها لبلدها الأصليّ (الأردن) وشعورها القويّ بالانتماء له وللبلاد العربيَّة عموماً. وهي مشغولة دائماً بالتفكير في الكيفيَّة الملائمة والناجعة لإيصال الثقافة العربيَّة (ومِنْ ضمنها النتاج الثقافيّ الأردنيّ) للأميركيين. ولذلك فإنَّها تحضر طلّابها إلى الأردن كلّ عام، وترتّب لهم لقاءاتٍ مع الناس، وتطلعهم على المعالم الأردنيَّة، وتشرح لهم مِنْ قرب خصائص الحياة الأردنيَّة. وكثيراً ما أصادف كتابات ومداخلات وأحاديثاً لها على الانترنت عن حريَّة الرأي وعن تجارب معتقلي الرأي في العالم العربيّ. وفي سياق ذلك، كثيراً ما تشير إلى تجربة سجن كاتب هذه السطور ورفيق سجنه الأديب هاشم غرايبة؛ مع أنَّها لم تلتقِ بهاشم ولم تعرفه مِنْ قرب.
في زيارتها الأخيرة للأردن طرحتْ العديد من الأفكار حول إيصال الإنتاج الثقافيّ الأردنيّ إلى الأميركيين؛ ولذلك فهي تفكِّر بترجمة العديد مِنْ أعمال الأدباء الأردنيين ونشرها في أميركا بصورة لائقة. كما أنَّها تقوم منذ سنوات بتدريس كتابي "مشي" لطلبتها الأميركيين باللغتين العربيّة والإنجليزيّة، وعلمتُ منها أنَّها تعدّه للنشر هناك باللغة الإنجليزيَّة. وفي الفترة الأخيرة، شرعتْ بترجمة رواية الأديب الأردني الراحل تيسير سبول "أنت منذ اليوم"، كما أنَّها تسعى لإقامة مركز ثقافيّ أردنيّ هناك.
نسرين، بالنسبة لي ولكلّ الأصدقاء الذين عرفوها جيّداً، مثال للإنسان الطيِّب المتحضِّر الذي يحترم آراء الآخرين، حتَّى وإنْ اختلف معها، أو حتَّى وإنْ تناقض معها، ولا يحول ذلك بينه وبين الاقتراب مِنْ أصحابها ومصادقتهم بمحبَّةٍ حقيقيَّة وصفاءٍ تامّ. وبالنسبة لي، أيضاً، فهذا هو نمط الناس الذي أرتاح له أكثر مِنْ سواه؛ فقد تشرّبتُ هذه الأخلاق والقيم والسلوكات مِنْ مجتمع القرية نصف البدويّ نصف الفلاحيّ؛ حيث كان الناس يتجادلون فيما بينهم ويختلفون جدّاً، ولكنَّ هذا لم يكن يُفسد ما بينهم مِنْ ودٍ وتآلف. وكانوا يتعاملون مع خلافاتهم وخصوماتهم بنزاهة وصفاء نفس وفروسيَّة. أذكر أنَّ جدّي اختصم في الستينيّات مع أحدهم على قطعة أرض بجوار "مليح"، وعندما اشتدَّ خصامهما لجآ إلى القضاء؛ فكانا يتقابلان، طوال سنوات، في المحكمة ويدافع كلٌّ منها عمَّا يعتقده حقّه، بلا هوادة، وعندما يخرجان مِنْ باب المحكمة يذهبان إلى مطعمٍ قريب ويتناولان غداءهما معاً بمودَّةٍ وصفاء، ثمَّ يتنافسان على دفع الحساب. وبعد انتهاء القضيَّة، بكسب جدّي لها، أصبحا صديقين إلى آخر حياتهما. في هذا المناخ الاجتماعيّ والثقافيّ نشأتُ وتربّيتُ؛ ولذلك، فقد كان من الطبيعيّ أنْ يكون الكثير مِنْ أصدقائي القريبين مِنْ نفسي، في مختلف مراحل حياتي، هم ممَّن أختلفُ معهم في الرأي، وأحياناً ممَّن أتناقضُ معهم فيه. وكنتُ (ولا أزال) أنفر مِنْ شيطنة الناس بسبب اختلاف آرائهم.
وأعود إلى نسرين؛ فهي، رغم أنَّها لم يعد لها أقرباء في الأردن، ورغم أنَّ زوجها وأولادها أميركيون، وأنَّ حياتها رُتِّبت بالكامل هناك، إلا أنَّها لا تكفّ عن الحنين إلى بلدها الأوّل (الأردن) والارتباط به بشدَّة.
في زيارتها الأخيرة للأردن، وبينما هي تستعد للعودة إلى أميركا، هاتفتْ زوجها، وقالت له مازحةً: فيها مشكلة لو بقيت على طول بعمَّان!