سعود قبيلات ▣
أعاد مقال شقيقي ياسر "الأب والابن وروح نيسان"، الذي تحدّث فيه عن بعض ذكرياته المشتركة مع معتقلي انتفاضة نيسان 1989 في سجن "سواقة"، إلى ذاكرتي، العديد مِنْ ذكريات تلك المرحلة التي أصفها بالصعبة والمجيدة في الوقت نفسه.
انطلقتْ شرارة الانتفاضة – كما هو معروف – مِنْ مدينة معان، ثمَّ انتقلتْ إلى الكرك والطفيلة ومادبا. ولم يكن لأحزاب المعارضة، التي لم تكن مرخَّصة آنذاك، دورٌ مباشر في إثارتها، ومع ذلك قام النظام بحملة اعتقالات واسعة شملتْ معظم قيادات وكوادر تلك الأحزاب، في إطار ما كان يُسمَّى آنذاك بالاعتقال الاحترازيّ. وقد أدَّى هذا إلى انخراط أعضاء الحزب الشيوعيّ الأردنيّ في الكرك ومادبا (خصوصاً في بلدة مليح) في الفعاليّات الاحتجاجيَّة والعمل مِنْ أجل إدامتها لأطول مدَّة ممكنة.
تمَّت الاعتقالات في الصباح الباكر مِنْ يوم الجمعة التالي لاندلاع شرارة الانتفاضة؛ وكنّا، أنا وأخي سليمان، قد غادرنا عمَّان مساء الخميس للمبيت عند الأهل في "مليح"، كما هي عادتنا كلّ خميس، ولم يكن قد خطر ببالنا أنَّ ثمَّة حملة اعتقالات واسعة كان يجري الإعداد لها في تلك الليلة، وأنَّنا كنّا في عداد مَنْ تقرَّر إلقاء القبض عليهم ونقلهم إلى سجن "سواقة" لولا أنْ حالتْ صدفةٌ بسيطة وتدبيرُ شقيقنا ياسر وشجاعتُه دون ذلك. فعندما قرَّرنا أنْ نأوي إلى الفراش، رأتْ والدتنا أنْ ننام في غرفة تقع في الجهة الأخرى من البيت، معزولة عن مدخله الرئيس، ولها باب منفصل، لكي يُتاح لنا أنْ نتأخرَ في النوم قليلاً في الصباح ومِنْ دون أنْ يزعجنا أحد عندما يستيقظ الآخرون. وفي الصباح، وبعد أنْ شبعنا نوماً، جاءت أمّي وقالت إنَّ المخابرات جاءوا وسألوا عنّا، فقلنا مستغربين: أين هم؟! قالت: أخذوا ياسر وذهبوا.
كان ياسر، آنذاك، شابّاً فتيّاً في مقتبل العمر، وكان نائماً في غرفة محاذية للمدخل الرئيس، وعندما داهم رجال المخابرات البيت في الصباح الباكر، بطريقة من المفروض أنْ تثير الرعب في نفوس أهله، وقف ياسر بوجههم محتجّاً وقال لهم إنَّه من المعيب أنْ يداهموا الناس بهذه الطريقة الفظَّة ومِنْ دون إذن أو إشعار، خصوصاً مع وجود نساء (والدتي وشقيقاتي) نائمات في البيت. ثمَّ تعمَّد أنْ يشتبك معهم بالأيدي وبالكلام الحادّ؛ وعندئذٍ قرَّروا اعتقاله، رغم أنَّه لم يكن مطلوباً. دخل ليبدّل ملابسه، فطلبتْ منه إحدى شقيقاتي أنْ يهرب مِنْ بابٍ آخر، ولكنّها فوجئتْ به يقول لها: أنا فعلتُ ذلك عمداً لكي ألهيهم عن سعود وسليمان. وبالفعل، فقد تمكَّن مِنْ صرف انتباههم عن الغرفة التي كنّا ننام فيها، وأصبح اعتقاله هو الأمر الأهمّ بالنسبة لهم.
نهضنا، أنا وسليمان، مِنْ فراشينا، متضايقين لأنّهم أخذوا شقيقنا الصغير بدلاً منّا؛ خصوصاً وأنَّه لم يكن قد أُعتُقِل مِنْ قَبْل بينما كنّا نحن قد تعوّدنا على ذلك. ولكن الجميع كان متماسكاً، وراحوا يحدّثوننا عن تفاصيل عمليّة المداهمة وتعامُل ياسر الشجاع مع المداهمين. ثمَّ تناولنا فطورنا، وبقينا هناك حتَّى حلّ الليل، حيث جاء خالد إبراهيم ورّاد، الذي كان – آنذاك – شيوعيّاً من شباب مليح ومن عائلة نزحتْ إليها من الضفّة الغربيَّة عام 1967. وكان يملك صهريج ماء ينقل به الماء ِمِنْ منطقة القسطل الواقعة بين مادبا وعمّان، واقترح أنْ يصطحبنا معه في الصهريج ليجنّبنا الاعتقال مِنْ قبل مفارز الأمن التي كانت قد انتشرتْ على مداخل المدن. ركبنا إلى جانبه ومضينا، وعند مدخل مدينة مادبا الجنوبيّ أوقفتنا دوريّة للشرطة، وطلبوا التحقّق مِنْ هويَّة خالد فأعطاهم بطاقة هويّته، ثمَّ سألوه عن وجهته، فقال إنَّه ذاهب إلى القسطل لنقل الماء مِنْ هناك. عندئذٍ، سألوه عنّا، فقال، بنبرةٍ واثقة، إنَّنا شقيقاه، وإنَّه أتى بنا معه لكي يتسلَّى معنا في الطريق. فطلبوا هويّتينا، فادّعينا أنَّنا نسينا أنْ نحضرهما معنا. وبعد تردّدٍ قليل سمحوا لنا بالمضيّ.
كان رفيقنا وليد الهلسه قد استأجر شقّةً صغيرة في جبل الحسين لتكون مقرّاً لبعض الأعمال الحزبيَّة السريَّة، فذهبنا إليها وأقمنا فيها. وسرعان ما التحق بنا صديقنا ورفيقنا عصام التلّ، وقريبنا ورفيقنا محمَّد زعل قبيلات، وشقيقنا سالم. كنّا جميعاً مطلوبين. وقرَّرنا أنْ لا نصرف جلّ جهودنا ووقتنا على تدابير إخفاء أنفسنا عن أعين الأمن وإنَّما أنْ نركِّز، أكثر مِنْ ذلك، على مشاغلة السلطات وإشعارها أنَّ حملة الاعتقالات الواسعة، التي قامت بها، بلا جدوى؛ بل إنَّها أدَّتْ إلى نتائج معاكسة لتلك التي كانت تريدها؛ فتعاونّا، عصام وأنا، على كتابة بعض البيانات التحريضيَّة، وبعد ذلك اشترك جميع مَنْ في الغرفة في توزيعها، بالإضافة إلى عددٍ من الأصدقاء ممَّن لم يكونوا مطلوبين، كما أرسلنا نسخاً من تلك البيانات إلى المحافظات. ولا أزال أذكر، على سبيل المثال، أنَّني تشاركتْ مع صديقي ورفيقي القديم خالد مساعدة في توزيع أحد تلك البيانات في وسط البلد في عمّان. ومن المصادفات الطريفة أنَّ البيت الذي كنّا نقيم فيه كان يبعد حوالي ثلاثمائة متر عن بيت المسؤول الأمنيّ المعني باعتقالنا. وثمَّة تفاصيل أخرى كثيرة طريفة عن تلك المرحلة، ولكنّ هذا ليس مقام الحديث عنها.
عرفنا سريعاً أنَّهم نقلوا ياسر إلى سجن سواقة ليكون أصغر المعتقلين الحزبيين هناك والوحيد بينهم الذي اُعتقل مِنْ دون أنْ يكون مطلوباً. وكانوا قبل ذلك قد نقلوه إلى مادبا، وأدخلوه على مدير فرع المخابرات هناك، فوجده جالساً وقد وضع قدميه على طاولة مكتبه، وشرع يستجوب ياسر وهو على تلك الحال، فقال له ياسر بهدوء وحزم: لن أتكلّم معك وأنت تضع قدميك على الطاولة.
عندئذٍ أمر مدير الفرع بنقله بسرعة إلى سجن سواقة، وبقي هناك ثلاثة أشهر إلى أنْ خرج آخر معتقل. وبعد فترة قصيرة مِنْ وجوده في المعتقل، افتعلوا معه مشكلة، واجتمعوا عليه وضربوه ضرباً مبرحاً، ثمَّ وضعوه في زنزانة انفراديَّة، ولكنّه لم يئنّ ولم يشكو ولم تلن صلابته ولم تضعف عزيمته. عندما سمعنا بما تعرّض له مِنْ أذى، كتبنا رسالة باللغة العربيّة وباللغة الإنجليزيّة، باسم والدي، ووجّهناها إلى بيريز دي كويار، أمين عام هيئة الأمم المتَّحدة، آنذاك، نشرح له فيها بلسان أبي ما وقع على أسرتنا من اضطهاد وقمع؛ حيث ثلاثة من الأبناء مطلوب اعتقالهم (سعود، وسالم، وسليمان) والرابع (ياسر)، وهو يصغر أشقاءه الثلاثة، أُعتُقل مِنْ دون أنْ يكون مطلوباً، وتمّ الاعتداء عليه بالضرب المبرح في السجن ووُضِع في زنزانة انفراديّة. كما تجري محاكمة إحدى بناتنا (منى) أمام المحكمة العسكريَّة لأنّها شاركت في مظاهرة نسائيَّة أمام رئاسة الوزراء للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين. وبعد ذلك قمنا بتوزيع تلك الرسالة على عدد كبير من ممثّلي المجتمع المدنيّ والشخصيّات العامّة. وقد تمَّ نشرها في مطبوعة هيئة الدفاع عن الحريّات في الأردن التي كان مقرّها في قبرص، كما نشرتْ المطبوعة، نفسها، إضافة إلى ذلك، خبراً منفصلاً عن الضرب الذي تعرَّض له ياسر في السجن ووَضْعه في زنزانة انفراديّة. ومعظم الوثائق المتعلِّقة بهذه الحوادث موجودة لديّ، ولدى بعض الأصدقاء، حتَّى الآن.
وشجاعة ياسر وصلابته وروحه القتاليّة لم تظهر فجأة؛ فعندما كان طفلاً في الخامسة مِنْ عمره، تعثّر وهو يركض حاملاً بيده كاس شاي، وسقط على الأرض، فجاءت كسرة من الكأس تحت أنفه وشقّته نصفين، تقريباً. وعندما رأت شقيقتي (إصرار) المنظر المهول، ارتعبتْ وأخذتْ تبكي، فما كان منه إلا أنْ راح يطمئنها على حاله برباطة جأش ويطلب منها أنْ تهدأ وتكفّ عن البكاء. وأذكر، عندما أخذناه إلى الطبيب وراح ينظّف جرحه ويخيطه، ظلّ ياسر هادئاً ومتماسكاً، ممّا أثار استغراب الطبيب وإعجابه.
وبعد هذا وقبله، فياسر لا يُباع ولا يُشترى، ولا يخوض معركة أحد بالنيابة، كما أنَّه لا يخوض معركةً مقابل أجر.. حتَّى ولو كانت تنسجم مع مبادئه وآرائه.. وحتَّى لو كانت ضدّ خصومه وأعدائه.