يتأثَّر الإنسان بشخصيَّات معيَّنة في مراحل مختلفة مِنْ حياته، وقد تكون هذه الشخصيَّات مِنْ أقربائه أو مِنْ بلده؛ شخصيَّات معروفة في محيطها الاجتماعيّ المحدود فقط، ولكنّها ذات تأثير مميَّز في هذا المحيط.. وحتَّى لو كان تأثيرها على شخص واحد فإنَّ هذا لا يقلِّل مِنْ قيمته الإنسانيَّة؛ وشخصيَّات عامَّة ذات قيمة وطنيَّة أو إنسانيَّة.. ولها تأثير على عدد كبير من الناس.
أمَّا همنغواي، فقد سحرني أسلوبه المميَّز في كتابة الروايات والقصص، المعروف بـ "تكنيك جبل الجليد العائم"، حيث أنَّ ما يظهر مِنْ ذلك الجبل فوق سطح الماء هو خُمْسُه أمَّا الباقي فهو مختفٍ تحت السطح، ومن المفروض أنْ يوحي الجزء الصغير الظاهر بالجزء الكبير المخفيّ.
ولقد أثار همنغواي إعجابي وبهرني بأسلوبه، ذاك، منذ أوّل رواية قرأتها له وهي "لمن تُقرع الأجراس"، وكان ذلك في مرحلة مبكِّرة مِنْ حياتي.
وأعتقد الآن أنَّ ما تعوَّدتُ عليه مِنْ أسلوب جدّي في سرد الحكايات الذي يركِّز على الوصف الخارجيّ للحدث وأماكنه، وللشخصيّات، والظروف، والأحوال، والذي يضعك في الجوّ الشعوريّ للموقف الحكائيّ بدلاً مِنْ أنْ يحدِّثك عنه أو يصفه وصفاً مباشراً أو يكتفي بتسميته.
أمَّا غيفارا، فقد فُتِنتُ بإخلاصه الشديد لمُثُله الثوريَّة، وبمأثرته البطوليَّة، وبأمميَّته الحقيقيَّة، وبنكرانه لذاته، وزهده بالمناصب وبمغريات الحياة.
كان غيفارا، بعد انتصار الثورة، الرجل الثاني في الدولة الكوبيَّة، وواحداً مِنْ أبرز صانعي انتصارها. ومع ذلك ترك مناصبه الرسميَّة الرفيعة، وذهب إلى الكونغو (في إفريقيا)، بلد القائد التقدّميّ المعروف باتريس لوممبا، الذي اغتالته السي. آي - أيه ونصَّبتْ بدلاً منه عميلها الدمويّ (المجاهد الذي سينتصر ثمَّ ينتصر مِنْ دون أنْ يستطيع أحد إيقافه)، موبوتو سيسي سيكو.. الخ، ليشارك في الثورة هناك ضدّ الهيمنة الأميركيَّة وأدواتها.
وهكذا، فأنا لم أدخل الكتابة الأدبيَّة مِنْ باب ما كان يُسمَّى بـ"الواقعيَّة الاشتراكيَّة"، أو "الواقعيَّة الجديدة"، بل مِنْ باب واقعيَّة همنغواي، الأكثر رحابة والأكثر شكّاً ونقديَّة، وبالتالي، فقد كانت، برأيي، أكثر ثوريَّة في المجال الأدبيّ.
ولم أتعرّف في بداياتي على التفكير الماركسيّ مِنْ خلال صيغته الستالينيَّة، كما كان شائعاً، بل مِنْ خلال أطروحات اليسار الجديد، وخصوصاً أطروحات غيفارا وكاسترو.
وثمَّة قصَّة لي بعنوان "صدق حيويّ"، وهي موجودة في كتابي "الطيران على عصا مكنسة"، الصادر عام 2009، أتحدَّث فيها عن هذه الشخصيّات الثلاث التي كان لها تأثير حاسم في حياتي منذ طفولتي المبكِّرة.
سمعتُ بغيفارا لأوَّل مرَّة في طفولتي المبكِّرة في قريتي (مليح)، وهناك قرأتُ يوميَّاته التي تتحدَّث عن الثورة الكوبيَّة.. ابتداء مِنْ تجميع حلقاتها الأولى في المكسيك، ثمَّ انطلاق كفاحها في جبال السيرامايسترا وزحفها الظافر لاحقاً على بقيَّة الأراضي الكوبيَّة إلى أن استولت على العاصمة هافانا وطردت حاكمها الفاسد والمستبدّ، عميل الأميركان، باتيستا. كانت كوبا في عهد باتيستا عبارة عن وكر للدعارة والقمار للأميركيين، وأصبحتْ في عهد الثورة رمزاً للاستقلال والأمل بالنسبة لأميركا اللاتينيَّة كلّها وبالنسبة للعالم الثالث، الذي يعاني من التبعيَّة، بوجه عامّ.
ولذلك، ولأنَّه أصبح يمثِّل قيمةً إنسانيَّة تتجاوز حدود البلدان والثقافات والأعراق والجنسيّات، شنّ أتباع الليبراليَّة الجديدة هجوماً شرساً عليه وعلى ما يمثِّله. وقد نُشِر، لكاتب هذه السطور، قبل سنوات قليلة، مقالان في "الرأي الثقافيّ"، ردّاً على اثنين مِنْ هؤلاء (أدونيس، وماريو فارغاس يوسا)، ومنطق تفكيرهما الأحاديّ واللاتاريخيّ.