سعود قبيلات ▣
مرَّتْ، يوم الجمعة الماضي، ذكرى ثورة 23 تمّوز (يوليو). وكنتُ، دائماً، أقول إنَّنا جيل محظوظ شهد أحوالاً تاريخيَّة كبرى، ومهمّة، وتختلف عمَّا ساد لاحقاً خلال عقود الانحطاط الأخيرة. يكفي أنَّنا شهدنا الزمن الذي كانت فيه مصر هي الشقيقة الكبرى، فعلاً، ليس للعالم العربيّ وحده وإنَّما لمعظم دول العالم الثالث، وكانت في طليعة الجميع في تصدّيها للمخطَّطات الإمبرياليَّة والصهيونيَّة، واجتراحها لعوامل استقلالها الحقيقيّ، وإرساء أسس تقدّمها الاقتصاديّ والاجتماعيّ.
في البداية كانت حركة 23 تمّوز (يوليو) مجرَّد انقلابٍ عسكريّ عاديّ، ولكنَّها ما لبثتْ أنْ تحوَّلتْ إلى ثورة حقيقيَّة غيَّرتْ مصر والعالم العربيّ، وتركتْ بصماتها الواضحة على مسار الأحداث في العالم الثالث بمجمله. وعندما حدث هذا التحوّل النوعيّ، ناصبها الغرب الإمبرياليّ و"إسرائيل" (وحلفاؤهما) العداء، وتوالت المؤامرات التي حاكوها بصورة مكثَّفة، ضدَّها، إلى أنْ تحوَّلت الثورة إلى ثورة مضادَّة شطبتْ جميع مبادئ الثورة ومنجزاتها ومكتسباتها.
لقد ضربتْ ثورة 23 تمّوز (يوليو)، بقوَّة، قوى الإقطاع التي كانت تتحكَّم بالشعب المصريّ، وتنهبْ خيرات بلاده، وتستغلّه استغلالاً بشعاً، وتضطهده، وأطلقتْ قوى الجماهير الكادحة والفقيرة والمهمَّشة؛ لتكشف عن طاقاتها الإبداعيَّة الخلّاقة في مختلف المجالات. إنَّ مَنْ يراجع أسماء أبرز الأشخاص الذين تألّقوا في تلك المرحلة في مختلف مجالات الحياة، يجد أنَّهم في غالبيَّتهم مِنْ أصول كادحة وفقيرة، وعلى ألأخصّ مِنْ أبناء الأرياف. آباء هؤلاء وأجدادهم لم يكن مسموحاً لهم سوى أنْ يكونوا أتباعاً مهانين وخدماً طيِّعين للسادة الإقطاعيين (وأشباههم). فجاءت الثورة الناصريَّة، وحرَّرتهم، عبر الإصلاح الزراعيّ، وفتحت الأبواب أمامهم ليعبِّروا عن أنفسهم، ويشعروا بكرامتهم، ويحصلوا على الكثير مِنْ حقوقهم.
كما بنت الثورة مشروعات اقتصاديَّة جبَّارة، مِنْ أبرزها السدّ العالي الذي بُني بدعمٍ سخيّ من الاتِّحاد السوفييتيّ.
وقد خلَّدتْ رواية الأديب المصريّ المعروف صنع الله إبراهيم (نجمة أغسطس)، العمل المشترك الرائع للسوفييت والمصريين في بناء ذلك السدّ العظيم، الذي يُعدّ حتَّى الآن مِنْ أعظم المشاريع التي أنجزها الإنسان. وبواسطة هذا السدّ، كما يقول الخبراء، تمَّت حماية الشعب المصريّ من المجاعة التي ألمَّتْ لاحقاً بالعديد مِنْ شعوب إفريقيا، وتمَّت الاستفادة من السدّ كمصدر كبير للطاقة.
ويُسجَّل لثورة تمّوز أنَّها خلَّصت مصر من الاستعمار البريطاني الذي كان يجثم على صدرها منذ أواخر القرن التاسع عشر، ومِنْ سيطرة المستعمرين الفرنسيين والبريطانيين على قناة السويس، وأنَّها أخرجتْ مصر مِنْ انغلاقها على نفسها لتنفتح على العالم العربيّ، وتؤكِّد بقوّة انتماءها له، وتقوده، وتعبِّر عن طموحاته وهمومه. بل إنَّها تعدَّتْ ذلك إلى الانفتاح على العالم الثالث بمجمله وأنحاء أخرى مختلفة من العالم.
وتحوَّلت القاهرة، في العهد الناصريّ، إلى داعم قويّ لحركات التحرّر من الاستعمار والتبعيَّة في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينيَّة.
ولا يزال بعض ملامح تلك المرحلة المجيدة موجوداً في القاهرة حتَّى الآن.. حيث نرى في شوارعها تماثيل بعض ثوّار العالم الثالث الكبار وأبطاله البارزين: سيمون بوليفار، وباتريس لوممبا.. الخ. وكانت إذاعات القاهرة وإعلامها مكرَّسين لخدمة قضايا الشعوب المضطهدة وكفاحها مِنْ أجل التحرّر والتقدّم.
ولقد حدثتْ، في تلك الفترة، نهضة ثقافيَّة كبيرة، في الأدب، والفكر، والفنون، والإعلام. وأنشئتْ إذاعات متخصِّصة بالموضوعات الثقافيَّة (إذاعة البرنامج الثاني، على سبيل المثال)، وازدهرتْ حركة النشر والتأليف والإبداع.
ولا أريد أنْ أعدِّد، هنا، جميع منجزات 23 تمّوز (يوليو)، وليس ذلك ممكناً في هذا الحيِّز المحدود. كلّ ما في الأمر أنَّني أردتُ فقط أنْ أقدِّم تحيَّة حارَّة لذكراها المجيدة.
بطبيعة الحال، لا يمكن تجاهل جوانب النقص والخلل التي اعتورتْ مسيرة الثورة، وخصوصاً غياب الديمقراطية السياسيَّة. وهذا الغياب، في ظنِّي، كان عاملاً أساسيّاً من العوامل التي سهَّلت لقوى الاستعمار والثورة المضادَّة الانقضاض على الثورة، وإجهاضها. ولكن يجب أنْ لا ننسى أنَّ ثورات ذلك الزمان، جميعها، قامت في ظلّ اشتداد معمعان الحرب الباردة، حيث المؤامرات والأحابيل الإمبرياليَّة كانت في أوجها، وجميع البلدان المستقلَّة في العالم الثالث كانت في وضع دفاعيّ صعب ودائم، والكثير منها ما لبث أنْ خسر استقلاله تحت وقع ضربات الإمبرياليين المتتالية.
لا أبرِّر بهذا الكلام غياب الديمقراطيَّة، آنذاك، ولكنَّني أحاول أنْ أرصد بموضوعيَّة ظروف ذلك الزمان.
هذه الصورة المعقَّدة، نفسها، كانت سبباً في صياغة موقف شديد التعقيد للمثقَّفين المصريين والعرب تجاه الثورة، ربَّما عبَّرتْ عنه بوضوح قصيدة أحمد فؤاد نجم في رثاء عبد الناصر. كان نجم، آنذاك، معارضاً ثابتاً للنظام الناصريّ، وعندما مات ناصر كان هو في السجن، فرثاه بقصيدته المؤثِّرة، تلك، ومِنْ ضمن ما قاله فيها:
"واِحنا نبيِّنا كِدَه
مِنْ ضلعنا نابتْ
لا مِنْ سَمَاهُم وِقِع
ولا مِنْ مَرَا شابتْ
ولا انخسف لُهْ القمر
ولا النجوم غابتْ
أبوه صعيدي وفهم قام طلَّعه ظابط
ظبط على قدّنا وع المزاج ظابط
فاجومي مِنْ جنسنا
ما لوش مَرَا عابتْ
فلّاح قليل الحَيَا
إذا الكلاب سابتْ
ولا يطاطيش للعِدا
مهما السهام صابتْ
عمل حاجات معجزة وحاجات كتير خابتْ
وعاش ومات وِسْطِنا
على طبعنا ثابتْ
وإنْ كان جَرَح قلبنا كلّ الجراح طابتْ
ولا يطولوه العِدا
مهما الأمور
جابتْ"
شعوري بأنَّنا جيل محظوظ، تضاعف في الأشهر الأخيرة ونحن نشهد الشعوب العربيَّة، وخصوصاً الشعب المصريّ الشقيق، تنهض مِنْ سباتها وتعبِّر عن أرادتها الجماعيَّة الجبَّارة. بيد أنَّ بعض قصيري النظر المحكومين بالمنطق الشكليّ (وأصحاب الغرض)، راحوا يضعون انتفاضات الشعوب الحاليَّة في سياق نظريّ مناقض لثورات وحركات مرحلة الاستقلال في خمسينيّات وستينيَّات القرن الماضي. ولكن ما يدعو إلى الاطمئنان هو أنَّ شباب ثورة 25 كانون الثاني (يناير) كانوا على النقيض مِنْ ذلك؛ إذ كثيراً ما رفعوا صور عبد الناصر، في اعتصاماتهم، وبثّوا الأغاني الثوريَّة والأناشيد الوطنيَّة لزمنه بواسطة إذاعاتهم الميدانيَّة. فما يحدث في مصر الآن ثورة حقيقيَّة تمضي في صيرورتها نحو استعادة استقلال البلاد وتخليصها من التبعيَّة ومِنْ تبعات السياسات الاستسلاميَّة، والاسترشاد بمبادئ العدالة الاجتماعيَّة، ووضع الأسس والآليَّات المتينة لتمكين الشعب المصريّ من التعبير عن إرادته، والإمساك بزمام أموره. وهذه كلّها أمور مترابطة متكاملة؛ لا يمكن الحديث عن ثورة بدونها، ولا عن حريَّة أو ديمقراطيَّة.