سعود قبيلات ▣
تتعرّض الثورة المصريَّة هذه الأيَّام لهجمة شرسة مِنْ بعض القوى الغريبة عن روحها والمعادية لمبادئها؛ تلك المبادئ التي رُفعت منذ بدايتها، وبالاستناد إليها أُطيح بحسني مبارك؛ وهي نفسها المبادئ التي سالت دماء الشهداء والجرحى مِنْ أجلها، وقاومتْ جموع الشباب الثائر تحت راياتها؛ إنَّها مبادئ الحريَّة والديمقراطيَّة والعدالة الاجتماعيَّة والدولة المدنيَّة.
يريد البعض أنْ يتحايل على الثورة فيعيد إنتاج النظام السابق، نفسه، مع تعديلاتٍ بسيطة على شكله ووجوه القائمين عليه وأسمائهم؛ أعني نظام التبعيَّة للإمبرياليَّة والصهيونيَّة والنهب والاستغلال البشع وتغييب الشعب ومصالحه وحقوقه.
ويريد آخرون العودة بمصر والعالم العربيّ إلى ما قبل قرون خلتْ، وشطب جميع الحقوق والحريَّات والمبادئ الأساسيَّة التي اكتسبتها الإنسانيَّة بعد نضالات عنيدة وتضحيات كبيرة، بل وشطب الديمقراطيَّة نفسها إذا ما تمكَّنوا من الوصول إلى السلطة على أكتافها ؛ الأمر الذي يعني إضعاف مصر (والعالم العربيّ) أكثر ممّا أضعفهما السادات ومبارك بكثير.
ولا نحتاج إلى جهدٍ عقليٍّ كبير لكي نعرف المصير البائس الذي يريد هؤلاء جرَّنا إليه؛ يكفي أنْ نشير إلى النموذجين الأفغانيّ والسودانيّ وما اتّسما به مِنْ ظلمٍ وقهر وما أدَّيا إليه مِنْ كوارث ونكبات.
وممّا يجعل الأمر جديّاً وخطراً أنَّ هذا الخيار، كما هو واضح، الآن، يلقى مساندة قويَّة من الولايات المتَّحدة والمراكز الرأسماليَّة والإمبرياليَّة الأخرى؛ إذ مع تهاوي نفوذ هؤلاء في المنطقة وفي العالم، واندلاع شرارة نهوض الشعوب العربيَّة بهذه القوَّة المذهلة، اقتنعوا بعبث العمل مِنْ أجل الحفاظ على الأوضاع القائمة كما هي، ووضعوا سيناريوهات متعدِّدة للتعامل مع الأوضاع الجديدة في المنطقة، فتوصَّلوا إلى أنَّ أفضل الخيارات بالنسبة لهم هو مدِّ يد العون لبعض قوى الثورة المضادَّة لكي تعمل مِنْ أجل حرف الثورات العربيَّة عن أهدافها النهضويَّة التنويريَّة الديمقراطيَّة، نحو نمط من الأنظمة الدكتاتوريَّة الثيوقراطيَّة المتخلِّفة، أشدّ قسوة وبطشاً وقهراً وتخلّفاً وظلماً مِنْ سواه من الأنظمة؛ مع فارق أنَّه مغطَّى بأقنعة قدسيَّة وتراثيَّة زائفة ولا تاريخيَّة. الأمر الذي سيضمن إدخال الشعوب العربيَّة، حتما،ً في طور جديد من الغيبوبة عن التاريخ والعصر وعن نفسها، أشدّ وطأةً وأكثر عتمةً، وسيقود بالنتيجة إلى تعزيز تخلّف أمّتنا وتبعيَّتها وهشاشة بلدانها وتشرذمها وتلاشي قوَّتها على نحوٍ أكبر بكثير وأخطر ممّا هو قائمٌ الآن. وقد حذّر سمير أمين، مبكِّراً، مِنْ مخاطر هذا الخيار ووصف اللجوء إليه بأنَّه نوع من الانتحار الجماعيّ للأمّة.
لذلك، فقد دأب شباب الثورة المصريَّة وأنصارها، في المدَّة الأخيرة، على الاعتصام في ميدان التحرير، للتأكيد على مبادئها الصحيحة، ولإبقاء شعلتها متَّقدة إلى أنْ تتحقَّق أهدافها، ولكي لا يجري اختطافها والالتفاف عليها وحرفها عن مسارها مِنْ قبل قوى الثورة المضادَّة.
إنَّ مصير الثورة المصريَّة ومآلها عامل حاسم بالنسبة لمستقبل العالم العربيّ كلّه، بل وبالنسبة لعدد كبير مِنْ دول العالم وشعوبه. ولكن، مع الأسف، الجميع لاهٍ الآن عن هذا الصراع الخطير، الذي يُهدِّد الثورات العربيَّة بالاختطاف والانتكاس على يد قوى الثورة المضادَّة، خصوصاً في ظلّ تعتيم وسائل الإعلام الرائجة عليه، وسعيها لشدّ الأنظار بعيداً عنه.
وفي ظل ما يجري في مصر وتونس وسواهما، فإنَّ مِنْ واجب جميع التيّارات الديمقراطيَّة والمستنيرة، في بلادنا، أنْ تطالب باشتمال التغييرات الدستوريّة، الجاري بحثها، على نصوص تضمن بوضوح عدم المسّ بالحريَّات العامَّة والشخصيَّة ومدنيَّة الدولة والديمقراطيَّة وحقوق المواطنين ومكتسباتهم. ويجب أنْ لا ننسى أنَّ هتلر وموسوليني وصلا إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع وأغلقاها بعد ذلك تماماً طوال فترة حكمها المأساويّ العنيف.
وتأكيداً على التضامن مع ثوّار مصر، ومع المبادئ العظيمة لثورتهم، أنشر هنا صوراً التقطتُها، أنا وأسرتي، لدى زيارتنا للقاهرة في الأسبوع الثاني بعد إسقاط مبارك. وكنتُ قد زرتها، قبل ذلك، في الأسبوع الأوَّل بعد الثورة، مع بعض رؤساء النقابات المهنيَّة الأردنيَّة، وأحضرنا معنا أعلاماً أردنيَّة قدَّمناها هديَّة لشباب الثورة؛ حيث اكتشفتُ في زيارتي الثانية (مع أسرتي) أنَّ شباب الثورة وضعوا هذه الأعلام في واجهات خيمتين مِنْ خيام الميدان، كما هو ظاهر في الصور. وبهذا كان العلم الأردنيّ هو العلم العربيّ الوحيد الذي حظي بهذا التقدير؛ لأنَّ الوفد الأردنيّ كان سبّاقاً في زيارة القاهرة والتهنئة بنجاح الانتفاضة.