في
مقالٍ له بعنوان «غيمة في بنطال.. للشاعر فلاديمير ماياكوفسكي»، كان تيسير السبول
قد تحدَّث عن رأيه بالشاعر السوفييتيّ الشهير ماياكوفسكي وشعره. بيد أنَّ هذا
المقال لم يلفت نظر النقّاد والباحثين الكثيرين الذين درسوا كتابات تيسير السبول
وأشعاره وحياته؛ مع أنَّه بنظري يعطي الكثير من الإشارات المهمّة عن تيسير نفسه، ويكشف
عن حجم التوتّر العاطفيّ الكبير المختَزن داخله، وعن الحوار الصاخب الذي كان
يتفاعل في أعماق نفسه.
يبدأ
تيسير مقاله، ذاك، بصيغة محيِّرة؛ بين التعجُّب والإعجاب، فيقول: «سبعة وثلاثين
عاماً عاشها ماياكوفسكي على هذه الأرض، لينهي حياته بيده عام 1930 منتحراً وهو في
أوج شبابه».
بعد
ذلك يتقدَّم تيسير لإبداء رأيه في ماياكوفسكي من خلال قراءته لقصيدته الشهيرة «غيمة
في بنطال». يقول: «إنَّ فلاديمير (ماياكوفسكي) شأن كلّ الشعراء الكبار كان صوتاً
متفرِّداً».
ثمَّ
يقول عن القصيدة: «هي مزيج متشابك مِنْ رؤاه في الحب، والأدب، والناس».
ثمَّ
يعود للحديث عن ماياكوفسكي، قائلاً: «وهو في كلِّ رؤيا شاعر حتَّى العظم، متوثِّب
مليء بالشباب والحماسة ثائر على أشعار السلف الرومانسيَّة بكلّ ما تتصف به من
مشاعر الشفقة على الذات واستجلاب بهجة الأحزان».
وحين
نتأمَّل في هذه الكلمات نجد أنَّها لا تقف عند حدِّ وصف شاعريَّة ماياكوفسكي
وموقفه من الأدب، إنَّما تتعدَّى ذلك إلى وصف موقف تيسير، نفسه، أيضاً، من الأدب
والحياة والشخصيَّة الإنسانيَّة.
ويستدرك
تيسير قائلاً بعد ذلك: «ولكن هذا لا يجب أن يختلط علينا وما تحمل أشعار ماياكوفسكي
من قلق وألم».
وهو
– برأيي – ما يجب أن ينطبق أيضاً على موقفنا من أدب تيسير نفسه.
ولننظر
الآن ما هي المقاطع التي اختارها تيسير من قصيدة ماياكوفسكي الطويلة ليعلِّق
عليها:
«ليست
في روحي شعرة واحدة شائبة
ولا
فيه حنوّ الشيوخ،
أهزّ
العالم بجبروت صوتي
وأمشي
وسيماً
ابن
اثنين وعشرين عاماً».
ثمَّ
يقفز عن عدَّة مقاطع، لينتقي مقطعاً آخر، فيقدِّمه على النحوّ التالي:
«غير
أنَّ هذا الصوت الذي يهزّ العالم أو هكذا يعتقد سرعان ما يضطرب»:
«تظنُّها
الملاريا تجعلني أهذي
هذا
ما حدث
في
أوديسا حدث
سآتي
في الرابعة: قالت ماريا
الثامنة
التاسعة
العاشرة
أعرض المساء عن النوافذ
وغاص في الليل الكئيب
مقطباً مثل كانون».
ثمَّ
يقفز عن عدَّة مقاطع أخرى، وينتقي مقطعاً بعينه، ليقدِّمه على النحو التالي:
«يظلّ
الشاعر ينتظر ماريا التي لا تأتي ينتظرها تحت المطر حتَّى تدقُّ الساعة منتصف
الليل»:
«مرَّةً
بعد مرَّة
أدفن
وجهي في وجه المطر المنقر
وأنتظر،
ترشقني مياه المدينة المرعدة
فجأة
صُفق الباب
وكأنَّ
أسنان الفندق تصطكّ، ودخلتِ بفظاظة
وقلتِ
وأنتِ تنشبين أظافرك في القفَّاز الجلديّ
أتعرف:
سأتزوَّج.
حسن
تزوَّجي
أستطيع
تحمُّل ذلك
ترين
مقدار هدوئي
كنبض
جثَّة
تذكرين؟
كنتِ
تقولين: جاك لندن، المال، الحب، الهوى،
لكنَّني..
شيئاً واحداً رأيت
أنتِ
جيوكندا لا بدَّ أن تُسرق
وسُرقتِ».
ثمَّ
ينتقي المقطع التالي:
«هالو؟
من المتكلِّم؟
ماما
ماما
ابنك
مريض بروعة.
ماما
مصاب
بنارٍ في القلب
أخبري
أختيه ليودا وأدليا
أن
ليس له ملجأ يفيء إليه».
ثمَّ
ينتقي المقطع التالي:
«مجِّدوني
ليس
العظماء بأندادي
على
كلّ ما حدث
أقفل
خاتماً من العدم
لا
أبتغي أبداً
أن
أقرأ أيّ شيء
الكتب؟
ما
الكتب؟».
ثمَّ
يتحدَّث بعد ذلك عن غضب ماياكوفسكي على «غوتة» والشعراء الرومانسيّين:
«عنكم
أيُّها المنقوعون في الحب
والذين
يسيل دمعكم عبر القرون
سأبتعد
عنكم
واضعاً
الشمس نظَّارة مفردة
في
عيني الفاغرة».
ثمَّ
لايلبث أنْ يعود إلى لانكسار بغتة:
«ماريا
ماريا ماريا
دعيني
أدخل يا ماريا
لا
أستطيع أن أتحمَّل الشوارع».
(...)
«امنحيني
روعة شفتيك المزهرة أبداً
أنا
وقلبي لم نعش حتَّى أيَّار أبداً
وفيما
قضيت من حياتي
ليس
من نيسان إلا واحد من مائة».
ثمَّ
ينتقي مقاطع صغيرة تعبِّر عن غضب ماياكوفسكي على المذابح البشريَّة والجوع،
ويعقِّب عليها قائلاً: «في هذه القصيدة يتسلَّل الشعور الفردي لينفجر ضمن الهمّ
الجماعي، همّ الجوع والحب. كلّ ذلك ضمن رغبة محتدمة لحياة أجمل وأروع».
ويضيف:
«صحيح أنَّ القصيدة مليئة بالغضب ينبثق هنا وهناك مباغتاً وعنيفاً ولكنَّها تخلو
من الشعور بالحقد». ويقول أيضاً: «لقد حمل ماياكوفسكي مشاعر الناس جميعاً في قلبه
وعصرها في صوته الشعريّ العظيم».
وفي
خاتمة مقاله يقول تيسير: «ولكنَّنا سنلتقي به (ماياكوفسكي) بعد خمسة عشر عاماً من
القصيدة، يطلق الرصاص على نفسه، مخلِّفاً وصيَّة قصيرة، بضع كلماتٍ حزينة تتحدَّث
عن: (زورق الحب الذي تحطَّم على صخور الحياة اليوميَّة، ورجاء لأمِّه ألّا تبكي
وللناس ألّا يتقوَّلوا عليه).
ثمَّ
يتساءل (تيسير) قائلاً: «ما هي الخطوط التي نسجت فاجعة نهايته؟ هل تعاظم لديه
الشعور بأنَّ الكون أصمّ كما أعلن في ختام قصيدته؟ أم فاجعة حب كما قيل؟».
ويختم
قائلاً: «يظلّ الجواب معلَّقاً في سجف المجهول».
وهنا
نتأمَّل في هذا التساؤل، ثمَّ نعود إلى بداية المقال حيث نجد تيسير يتعجَّب مِن
انتحار ماياكوفسكي وهو في أوج شبابه (في السابعة والثلاثين مِنْ عمره)؛ كما نجده،
في الوقتِ نفسه، يبدي إعجابه غير المباشر بذلك. وعندئذٍ، نتذكَّر أنَّه هو نفسه
انتحر أيضاً وهو في أوج شبابه؛ في الرابعة والثلاثين من عمره.
والحقيقة
أنَّ هناك أوجه شبه عديدة أخرى بين تيسير وبين ماياكوفسكي؛ في حياتيهما وفي أدب
كلٍّ منهما وشخصيَّتيهما:
- وُلد تيسير في بلدة
الطفيلة، وهي بلدة أردنيَّة نائية محاطة بالجبال، لأب فلاح مرتبط بأرضه.
ووُلِد ماياكوفسكي في قرية «بغدادي» في جورجيا. وهي واقعة في وادٍ عميق محاط
بالجبال الشاهقة. وكان والده مشرفاً على الغابات؛
- انضمّ تيسير إلى
حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ وتبنَّى فكره وخطَّه السياسيّ، إلا أنَّه من
غير المعروف، مع الأسف، متى حدث ذلك ولا أين ولا كيف. لكنَّه ما لبث أن ترك الحزب،
وهناك إشارات في روايته «أنت منذ اليوم» إلى أنَّ «عربي» (بطل الرواية) فعل
ذلك بسبب انهيار الوحدة بين سوريَّة وبين مصر. أمَّا ماياكوفسكي، فالصورة عن
تجربته السياسيَّة أكثر وضوحاً، كما أنَّها أكثر تفصيلاً؛ إذ أنَّه تعرَّف
على الكتابات الثوريَّة في أجواء الانتفاضات الكبرى في العام 1905، وكان ذلك
عن طريق شقيقته «لودميلا» التي كانت تأتي بها من موسكو حيث كانت تدرس. وقد
انضمَّ إلى الحلقة الماركسيَّة في «المدرسة العليا» في «كوتايسي»، وشارك في
النشاطات الثوريَّة المختلفة. وفي العام 1906 توفِّي والده فجأة، فانتقلت
عائلته إلى موسكو. وكتب ماياكوفسكي في ما بعد: «كانت روسيا هي حلم حياتي. ولم
يمثِّل أيّ شيء آخر لديَّ مثل هذه الجاذبيَّة المرعبة». وفي موسكو التحق
بالمدرسة الثانويَّة، وانضمَّ إلى الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ (البلاشفة).
وأُعتقل عدَّة مرَّات، ابتداءً من اعتقاله الأوَّل في العام 1908 (كان في
الخامسة عشرة تقريباً) ولغاية اعتقاله الأخير في العام 1909، على إثر مشاركته
في تهريب ثلاث عشرة سجينة سياسيَّة من سجن «نوفسكايا». وفي السجن، اكتشف
«بايرون» و«شكسبير» و«دويستويفسكي» و«تولستوي»، فدفعته قراءاته تلك إلى حسم اتِّجاهه
نحو الأدب. وعندما خرج من السجن في أوائل العام 1910، انسحب من النشاط
الحزبيّ وانصرف إلى الدراسة والأدب؛
- تيسير أيضاً غادر
بلدته (الطفيلة) بعد الدراسة الابتدائيَّة وانتقل إلى مدينة «الزرقاء» حيث
أكمل دراسته الإعداديَّة، ثمَّ إلى عمَّان حيث أكمل دراسته الثانويَّة، ثمَّ
إلى بيروت ودمشق حيث أكمل دراسته الجامعيَّة. وهنا، نلاحظ التشابه بينهما في
التنقّل بين بيئات اجتماعيَّة وجغرافيَّة مختلفة؛
- كان ماياكوفسكي
أخاً أصغر لأختين، وكانت أمّه توليه اهتماماً خاصّاً بعد وفاة أبنائها الذكور
الآخرين، وإذا ما عرفنا أنَّها كانت تهوى الرسم والشعر في صباها، فإنَّنا
ندرك ولا شكّ مدى تأثيرها عليه. وكان تيسير أصغر أخوته أيضاً، ويبدو أنَّه
تلقَّى عناية خاصّة من والدته ومن شقيقه الأكبر؛
- كتب تيسير الشعر
والقصَّة والرواية والمقالة والدراسة والسيناريو الإذاعي والتلفزيوني. أمَّا
ماياكوفسكي فكان يرسم ويكتب الشعر والمسرح وسيناريوهات الأفلام ويؤدِّي
الأدوار الرئيسة في أفلامه وفي بعض مسرحياته التي أخرجها كبار المخرجين الروس
وخصوصاً المخرج الشهير المجدِّد ماير خولد؛
- أشعار تيسير تعبِّر
عن طاقة انفعاليَّة وعاطفيَّة كبيرة، لكنَّها لم تمثِّل ثورة في شكل القصيدة
السائد آنذاك، بينما خاض ماياكوفسكي ثورته الأدبيَّة من خلال قصائده
بالتحديد، حيث شنَّ هجوماً عاصفاً على الأدب الكلاسيكي وعلى الرومانسيَّة،
ومال إلى استخدام المفردات العاديَّة، اليوميَّة غير الشعريَّة، والصادمة،
وشكَّل بذلك نقلةً نوعيَّة هائلة في الأدب الروسي. لذلك، كان لقاؤه حارّاً
وقويّاً بالمستقبليّين الذين أصدروا بيانهم التأسيسيّ في العام 1912 ودعوا
فيه إلى الإطاحة بمهابة التراث الكلاسيكيّ. أمَّا ثورة تيسير الأدبيَّة
الحقيقيَّة فكانت في الرواية، حيث كانت «أنت منذ اليوم» أوَّل رواية حداثيَّة
عربيَّة أطاحت بجرأة عالية بالشكل الكلاسيكي للرواية العربيَّة، وبدا فيها
متأثِّراً بصورة خلاقة بالمنجز اللغوي المميَّز لوليم فوكنر الذي يحمِّل
الكثير من الإيحاءات النفسيَّة العميقة على كلمات بسيطة توحي أكثر ممَّا
تقول، وتبدو جُمَله ناقصة وغير مترابطة في الظاهر، لكنَّها تدفع القارئ دفعاً
لاستكمالها ولإعادة ترتيبها بالاستناد إلى مخزونه النفسي والثقافي. لكنَّ
تيسير تجنَّب شعريَّة فوكنر الطاغية، واقترب أكثر مِنْ حياديَّة همنغواي
الخادعة، وفق ما يسمَّى تكنيك جبل الجليد العائم. وذلك عن طريق استخدام
المفردة العارية المحايدة في الظاهر، بينما هي في الواقع تختزن طاقة
انفعاليَّة هائلة؛
- تحمَّس كلّ من
تيسير وماياكوفسكي للفكر الثوري لحزبه، فكان «عربي» في «أنت منذ اليوم» يحلم
بوشم دولة عربيَّة كبرى، كما تدعو إلى ذلك المبادئ الوحدويَّة لحزب البعث،
بينما شارك ماياكوفسكي في الكفاح الثوري للحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ
الروسيّ، وسُجن مراراً بسبب ذلك. بل إنَّه في قصيدته «غيمة في بنطال» التي
كتبها خلال العامين 1914-1915، تنبأ بوقوع الثورة في العام 1916، وقد وقعت
كما هو معروف في العام 1917.
«أنا،
من
يثير قهقهة القبيلة المعاصرة،
كنكتة
طويلة وفاحشة،
أرى
الآتي عبر جبال الزمن
أرى
ما لم يره بعد أحد.
وحيث
تتوقَّف عيون البشر، قاصرة،
عند
رأس الحشود الجائعة،
فإنَّني
أرى من بعيد
عام
1916 يقترب وئيداً
متوَّجاً
بأكاليل الثورة
وأنا
بينكم
لأكون
رسوله،
في
كلّ مكان حيث يكون الألم،
مع
كلّ قطرة دمع تسقط
متوهِّجة
بالخطر،
أُصلب
من جديد، من جديد».
ولكن
بينما كان حماس الأديبين (تيسير وماياكوفسكي) كبيراً، لمبادئهما وللثورة التي ترفع
لواءها، فإنَّهما برهافة حسِّهما الشديدة كانا يشعران بقدر كبير من الغربة إزاء
واقعيَّة رفاقهما السياسيّين المحترفين وحزمهم وصرامتهم، بل وفظاظتهم أحياناً.
فالمواطن «عربيّ» (بطل «أنت منذ اليوم»)، يقوده رفاقه، بعدما أصبحوا في السلطة،
للشهادة ضدّ صديقه القديم «الشعوبيّ»، فيتألَّم كثيراً إلى حدّ أنَّه يتمنَّى
الموت لنفسه. أمَّا ماياكوفسكي، شاعر الثورة الاشتراكيَّة، فقد ووجهت ثورته
الأدبيَّة بالاستنكار وعدم التفهُّم، ليس من قبل الأدباء التقليديّين فقط، إنَّما
أيضاً من قبل القادة السياسيّين الثوريين. فقد كتب لينين في العام 1921 إلى
لوناتشارسكي، مفوَّض الثقافة (وزير الثقافة) في حكومته، قائلاً: «ألا تشعر بالخزي
من نفسك وأنت تقترح طبع 5 آلاف نسخة من قصيدة ماياكوفسكي (150000000)؟ إنَّها
لحماقة وتصنُّع هرائي مطبق. أعتقد أنَّ عُشر الكميَّة فقط هو الذي يستحق الطباعة
على أن لا يزيد عن 1500 نسخة، من أجل المكتبات والمهاويس. ويستحق ماياكوفسكي
التأنيب على مستقبليَّته».
وكان
لوناتشارسكي، نفسه، واحداً من مثيري المتاعب، فهو من جهة (إلى جانب بوجدانوف) كان
مشهوراً بحماسه لدمج مذهب النقد التجريبيّ الفلسفيّ بالفلسفة الماركسيَّة، وقد كتب
لينين أطروحته الشهيرة: «الماديَّة ومذهب النقد التجريبيّ» تفنيداً لهذا
الاتِّجاه. ومن جهة ثانية كان لوناتشارسكي من مؤسِّسي جماعة الثقافة
البروليتاريَّة، وقد كتب لينين أيضاً ينتقد هذا الاتِّجاه بما مفاده أنَّ روسيا
بلد شبه آسيويّ، وأنَّ جلّ ما يطمح إليه الشيوعيُّون في ظلّ هذا الوضع هو الوصول
بالبلد إلى نوع من الثقافة البرجوازيَّة.
المهمّ،
إذا كان هذا هو الوضع في ظلّ وجود لينين الذي اعتاد رفاقه على الاختلاف معه ومحاورته
في قضايا أساسيّة، عبر مختلف المنابر الإعلاميَّة والسياسيَّة، فلنا أن نتخيَّل،
إذاً، كيف أصبح وضع شاعر الثورة بعد وفاة لينين ورجحان كفَّة البيروقراطيَّة التي
كان ماياكوفسكي يجهر بعدائه لها وسخريته منها، منذ البداية، في العديد من قصائده
المعروفة؛
- العلاقة بالمرأة
كانت مضطربة لدى كلّ من الأديبين، وقد تنقَّلا فيها مِنْ فشلٍ إلى فشل.
بالنسبة لتيسير، لا توجد عن هذا الموضوع، مع الأسف، سوى إشارات غامضة في بعض
المقالات وبعض الدراسات، ولكنَّها تكفي لتؤكّد هذا الانطباع. وما يهمُّنا هنا
هو هذا الشعور العميق بالحاجة إلى الحب الذي لا أَمَلَ بإشباعه لدى الشاعرين.
يقول
تيسير:
«مرَّ
أحباب بنا ألقوا بنظرة
وأشاحوا
الوجه عنّا
فدعوناهم
بذعر والتياع:
أبرياء
نحن لكنّا ضحايا الوحدة
الخرساء
والخوف المردى والضياع،
يا
أحبَّانا تعالوا
ليضمَّ
الواحد الآخر منَّا
بدِّدوا
الوحشة عنَّا
ردَّت
الدعوات في أعماقنا السفلى
وتاهت
في مداها
ونكصنا
نتمنَّى:
ليتنا
عدنا صغاراً
نبني
في الشاطئ الرملي بيت
ليت،
ومتى
تنفع ليت؟!».
أمَّا
ماياكوفسكي فكانت علاقاته النسائيَّة أكثر وضوحاً، وقد أُشتهر منها: علاقته بليلي
بريك شقيقة الشاعر أوسيب بريك، وهي في الوقت نفسه شقيقة إلزا زوجة الشاعر الفرنسي
الشهير أراغون، شاعر المقاومة الفرنسيَّة، وصاحب الكتاب الجميل «مجنون إلزا»، الذي
يحكي فيه بعطفٍ واضح عن أواخر عهد أبي عبد الله الصغير في الأندلس؛ وكذلك علاقته
(ماياكوفسكي) بماريا الكسندروفنا:
«أتعرف:
سأتزوَّج.
حسن
تزوَّجي
أستطيع
تحمُّل ذلك
ترين
مقدار هدوئي
كنبض
جثَّة
تذكرين؟
كنتِ
تقولين: جاك لندن، المال، الحب، الهوى،
لكنَّني..
شيئاً واحداً رأيت
أنتِ
جيوكندا لا بدَّ أن تُسرق
وسُرقتِ».
لقد
تزوَّجت ماريا مِنْ رجلٍ ثريّ، وعندما انتحر ماياكوفسكي صنعت له تمثالاً!
وعلاقته
بعد ذلك بتاتيانا ياكوفليفا التي تعرَّف عليها في باريس عام 1928، وهي من عائلة
روسيَّة كانت تعيش في الخارج.
كتبت
لأمِّها تتحدَّث عنه: «إنَّه إنسان رائع. والشيء الرئيس أنَّني كنت أتصوَّره بشكل
مختلف تماماً. علاقته بي مدهشة، فقد كان سفره من باريس منذ نصف عام تقريباً مأساة
كبيرة بالنسبة له. وكان يتَّصل بي مِنْ برلين، وكان حديثه عبارة عن نواح. وهاأنا
أتسلَّم كلَّ يوم برقيَّة منه، وقد أوصى بإرسال باقة زهور لي صباح كلّ أحد، إلى أن
يعود.. لقد بدا لي أنَّني أعيش في روسيا، عندما كنت معه، وبعد سفره، أحسست بالحنين
أكثر إلى روسيا».
وفي
العام 1929، كتب لها قائلاً: «العمل وانتظارك هما فرحتي الوحيدة في الحياة». وعرض
عليها المجيء إلى روسيا والعمل كمهندسة هناك. لكنَّها تردَّدت لأسباب وارتباطات
خاصَّة. وقرَّر السفر إليها في باريس لكنَّ البيروقراطيَّة رفضت السماح له بذلك.
وما لبث أن عرف، بعد حين، بأنَّ تاتيانا قد تزوَّجت عندما علمت بمنعه من السفر؛
- كلاهما مزَّقه
البون الشاسع ما بين حلم الثورة الجميل وبين بلادة وقائع الحياة اليوميّة التي
تعقب الأحداث الكبيرة في العادة، وانسدَّ أفق الأحلام البديعة التي كانت تبعث
الأمل أمام عينيْ كلٍّ منهما؛
- كلاهما انتحر في النهاية بالطريقة نفسها؛
بإطلاق رصاص المسدَّس على الرأس. وكلاهما ترك رسالة حزينة لا تنبئ بالكثير
حول أسباب انتحاره. فقد عُثِرَ مع تيسير بعد انتحاره على قصيدته الوداعيَّة
الشهيرة (بالإضافة إلى مقاطع مكملة لقصيدته «مرثاة الشيخ» التي يرثي فيها والده):
«أنا
يا صديقي
أسيرُ
مع الوهم، أدري.
أُيمِّمُ
نحو تخوم النهاية
نبيّاً
غريبَ الملامح أمضي إلى غير غاية
سأسقط،
لا بدَّ يملأ جوفي الظلام
نبيّاً
قتيلاً وما فاه بعد بآية.
وأنت
صديقي..
وأعلمُ،
لكن قد اختلفتْ بي طريقي
سأسقط،
لا بدَّ
أسقط
يملأ جوفي الظلام
عذيرك
بعد
إذا
ما التقينا بذات منام
تفيق
الغداة وتنسى..
لكم
أنت تنسى..
عليك
السلام».
أمَّا
ماياكوفسكي فترك الرسالة التالية:
«إلى
الجميع، إنَّني أموت الآن. ولا أتَّهم أحداً.. ولا أريد أدنى ضجَّة، فالموتى
يبغضون ذلك. يا أمِّي، يا إخواني، يا رفاقي، سامحوني إنَّ ما فعلته ليس مخرجاً ولا
أنصح به أحداً، ولكنَّه كان مناسباً لي، ولا حلّ آخر غيره كان يلائمني.
يا
ليلي.. أعطني حبَّكِ..
إلى
رفاقي في الحكومة.. إنَّ أسرتي هي ليلي بريك، وأمِّي وأختاي. فإذا كنتم تستطيعون
تسهيل حياتهم ولو قليلاً، فالشكر لكم..
لقد
ابتدأت الأشعار، فأعطوها إلى آل بريك، فسيجدون أنفسهم فيها..
وكما
يقال
"لقد
انتهى أمر تافه"..
وقارب
الحب
قد
تحطَّم على صخرة الحياة اليوميَّة.
لقد
زهدت الحياة.
وعجزت
عن أن أعبِّر عن أحزانها
وعثراتها،
وأخطائها المشتركة.
ولتنعموا
بالسعادة».
قال
لوناتشارسكي عن انتحار ماياكوفسكي: «لسنا كلّنا نظراء لماركس، الذي قال إنَّ تجربة
الشعراء تحتاج إلى الكثير من الحنان. لسنا كلّنا نفهم ذلك، ولم نفهم أنَّ
ماياكوفسكي كان في احتياج إلى الحنان الكثير، ذلك أنَّه لم يكن محتاجاً لشيء قدر
حاجته إلى كلمة حنونة، ربَّما كانت أبسط الكلمات».
الكلام
نفسه ينطبق على تيسير السبول أيضاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
1.
ماياكوفسكي
(غيمة في بنطال وقصائد أخرى) – ترجمة وتقديم رفعت سلام.
2.
تيسير
السبول: الأعمال الكاملة.
3.
الشاعر
القتيل – د. سليمان الأزرعي.
4.
لوحات
ثوريَّة – لوناتشارسكي.