سعود قبيلات ▣
يوم الأحد 25/12/2011 قمتُ
مع صديقي ورفيقي القديم أحمد جرادات،
الذي أمضى ثلاثة عشر شهراً في زنزانة انفراديَّة في سبعينيَّات القرن الماضي بسبب مطالبته
بإنشاء نقابة للمعلمين الأردنيين، بزيارة رفيقين غاليين لتهنئتهما بعيد الميلاد المجيد، هما: الرفيق
الدكتور يعقوب زيَّادين، والرفيق زكي الطوال.
ومنذ سنواتٍ طويلة لا أزور عداهما في
الأعياد سوى أهلي وأهل زوجتي.
وقد سبق ونشرتُ صوراً لي مع الرفيق
أبي خليل (الدكتور يعقوب زيَّادين) على صفحتي هذه، وهو الذي أمضى سنين طويلة في
السجون دفاعاً عن مصالح الشعب الأردنيّ وحقوقه، وانتُخب في خمسينيّات القرن الماضي
نائباً في البرلمان الأردنيّ عن منطقة القدس، مع أنَّه ابن قرية السماكيَّة في
الكرك ومِنْ أصول مسيحيَّة بدويَّة. وربَّما يعطي هذا فكرة عن الصورة الزاهية التي
كانت عليها الناس آنذاك.
واليوم أريد أنْ أنشر صوراً لي مع
رفيقيَّ القديمين: زكي الطوال وأحمد جرادات.
بالنسبة لزكي الطوال، هذا الإنسان
المادباويّ الشهم الشجاع المبدئيّ الذي لا يزال يتمسّك بأخلاق أهالي مادبا الجميلة،
أتذكَّر أنَّنا اجتمعنا في بيته، في جبل اللويبدة، عام 1986 للبحث في كيفيَّة الاحتجاج
على العدوان الأميركيّ على ليبيا، واتَّفقنا، آنذاك، أنْ ننظِّم مظاهرة احتجاجيَّة
رمزيَّة أمام السفارة الأميركيَّة. وكان ذلك، في ذلك الحين، يُعدّ مغامرةً جنونيَّة
بالنسبة للكثيرين ممَّن يستعرضون الآن شجاعتهم الزائفة بخفَّة وهم واثقون بأنَّهم لن
يدفعوا أيَّ ثمن؛ إذ كانت البلاد، آنذاك، تخضع للأحكام العرفيَّة، وتُمنع فيها أبسط
النشاطات السياسيَّة ممَّا لا يرقى بأيّ حال إلى مستوى التظاهر. وقد قصدنا مِنْ
تلك التظاهرة، بالإضافة إلى الاحتجاج على العدوان الأميركيّ، كسر طوق الأحكام
العرفيَّة وسطوة القمع وإرهابه.
ولأنَّنا توقّعنا أسوأ الاحتمالات، فقد اتَّفقنا على أنْ يتطوَّع عشرة من المشاركين في المظاهرة بالمخاطرة للوصول إلى السفارة الأميركيَّة،
في حال تعذّر وصول الجميع، مهما كان الثمن.. وأنْ يقوموا بحرق
العلم الأميركيّ هناك. ومِنْ ضمن العشرة الذين تطوّعوا لذلك أذكر الرفاق: النقابيّ
العمّاليّ الراحل عيسى خشَّان، وأحمد جرادات، والدكتور محمَّد الزعبيّ، وحسين
أبو غربيَّة، وعبد الله السريانيّ، وعصام التلّ، ويوسف السميرات، وكاتب هذه السطور،
وأرجو أنْ يعذرني الرفاق الآخرون الذين نسيت مساهمتهم في هذا الأمر، كما أرجو أنْ يذكِّرني
بذلك كلّ مَنْ لديه معلومة بشأن هذه الواقعة المجيدة.
المهمّ، وضعنا خطَّة دقيقة لجعل التظاهرة مفاجأة كاملة كي نضمن لها النجاح، ولحسن الحظّ نجح تخطيطنا
تماماً، ولم نحتج للتضحيات التي وضعناها في حسابنا، ولكنَّنا عندما تكامل عددنا القليل (الذي خطَّطنا بأنْ يكون رمزيّاً.. بحدود الخمسين شخصاً
فقط)، في موقع المظاهرة، اكتشفنا بأنَّنا لم نحسب حساب أشياء بسيطة ولكنَّها ضروريَّة؛ فعلى سبيل
المثال، أحضرنا معنا علماً أميركيّاً كنّا قد رسمناه على قماشٍ أبيض، ولكنَّنا عندما
أردنا أنْ نحرقه أمام السفارة الأميركيَّة، التي كانت تقع بالقرب من الدوّار الثالث، آنذاك،
لم نجد قدَّاحة نحرقه بها مع أيٍّ منّا، فشرعنا نسأل المارَّة والناس في السيّارات التي فوجئتْ بالمظاهرة
واضطرَّتْ للوقوف في الشارع عن قدَّاحة، وبصعوبة وجدنا واحدة مع أحدهم في النهاية.
فقد كنّا أفرغنا جيوبنا تماماً قبل المجيء للمظاهرة، لأنَّنا كنَّا نتوقّع اعتقالنا،
ولم نحسب حسابنا بقدّاحة لحرق العلم.
وقد كتب الأديب الأردنيّ الراحل مؤنس
الرزَّاز عن تلك الحادثة الطريفة مشهداً في روايته المعروفة "متاهة الأعراب في
ناطحات السراب".
ومن الأحداث الطريفة الأخرى التي
أتذكّرها في تلك المظاهرة أنَّنا عندما وصلنا إلى السفارة الأميركيَّة كان الرفيق الراحل
النقابيّ عيسى خشَّان يقف بجانبي، ومِنْ شدَّة انفعاله لنجاحنا في الوصول إلى السفارة بتلك
السهولة التي لم نتوقّعها، راح يهتف: ريغان.. ريغان يا عميل.
فأمسكتُ به وقلتُ له: ما هذا الهتاف
يا أبا محمَّد! ريغان عميل لمين؟
فقد كان ريغان، آنذاك، رئيس أميركا.
لقد تذكَّرتُ اليوم أولئك الرفاق
الشجعان وسواهم، وكيف كان كلّ واحدٌ منّا مستعداً لأنْ يدفع حياته مِنْ أجل أيِّ واحدٍ
منَّا ومِنْ أجل ما كان يعتقد أنَّه مصلحة وطنه والأمَّة العربيَّة والإنسانيَّة.
ويجدر بالذكر أنَّ الإعلام استذكر تلك المظاهرة، مؤخّراً، بمناسبة المظاهرة التي دعا إليها المتقاعدون العسكريّون أمام السفارة الأميركيَّة قبل أشهر قليلة؛ وقال بأنَّها المظاهرة الأولى أمام السفارة الأميركيَّة في الأردن منذ المظاهرة التي نظَّمها الشيوعيّون عام 1986.