جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣

يردِّد بعض إخواننا الإسلاميين، بشكلٍ غير منصفٍ وغير نزيه، أنَّ اليساريين والقوميين كانوا مع الحريَّة والديمقراطيَّة إلى أنْ بلغ الأمر سوريَّة فانقلبوا على أفكارهم ومبادئهم. وهذا طبعاً ينطوي على إيحاء ضمنيّ بثبات الإسلاميين في مواقفهم وتوجّهاتهم، وتقلّب اليساريين والقوميين. فهل هذا هو فعلاً واقع الحال؟

لا أريد أنْ أقدِّم هنا مرافعة بلاغيَّة فارغة؛ بل سأسرد بعض الوقائع التي تتحدَّث مِنْ تلقاء نفسها:

لقد تحالف الإسلاميّون مع الأنظمة ومع الغرب ضدّ اليسار والقوميين لأكثر مِنْ خمسين سنة، وعندما استغنى الغرب والأنظمة التابعة له عن العلاقة معهم، في أواخر تسعينيَّات القرن الماضي، لم يجدوا سوى اليسار والقوميين مَنْ يتحالف معهم ضدّ الإمبرياليَّة والصهيونيَّة والأنظمة التابعة.

ولقد وقف اليساريّون والقوميون والإسلاميون معاً ضدّ العدوان الإمبرياليّ الأطلسيّ على أفغانستان التي كانت تحكمها طالبان رغم أنَّ نظام طالبان لم يكن نظاماً ديمقراطيّاً؛ ووقفوا معاً بعد ذلك ضدّ الغزو الإمبرياليّ الأنجلوسكسونيّ للعراق، رغم أنَّ النظام الذي كان يحكم العراق لم يكن نظاماً ديمقراطيّاً، ووقفوا معاً إلى جانب المقاومة اللبنانيَّة المتمثِّلة بحزب الله، ضدّ العدوان الإسرائيليّ عليها وعلى لبنان، رغم أنّ حزب الله لم يكن حزباً يساريّاً أو قوميّاً بل إسلاميّاً؛ ووقفوا معاً إلى جانب حماس، رغم أنَّ نظام حماس في غزَّة ليس نظاماً ديمقراطيّاً وأنَّها ليست يساريَّة أو قوميَّة؛ ووقفوا معاً ضدّ التدخّل الإمبرياليّ في شؤون السودان، رغم أنَّ نظام البشير – الترابيّ افتتح عهده باضطهاد اليساريين والقوميين وأعدم بعضهم، وألغى النقابات والأحزاب واتّحادات الطلّاب وقيّد الحريّات. لقد اتَّهم الغرب الرئيس عمر البشير بقتل عشرات الألوف مِنْ شعبه واستصدر قراراً مِنْ مدّعي عامّ المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة بملاحقته وإلقاء القبض عليه، وكان الثمن الذي طلبه الغرب منه لقاء تركه لحال سبيله هو الموافقة على تقسيم السودان، ومع الأسف فقد وافق على ذلك مقابل إنقاذ نفسه ونظامه. ولا يجد إخواننا الإسلاميّون حتَّى الآن غضاضة في مواصلتهم الدفاع عنه وتوثيق علاقتهم به.

فما الذي جرى، إذاً، عندما وصلنا إلى سوريَّة؟ ومن الذي غيَّر وبدَّل؟

ليس صحيحاً، بالطبع، أنَّ اليساريين والقوميين ضدّ الحريَّة والديمقراطيَّة في سوريَّة أو في أي بلدٍ آخر. ولكن عندما تكون حريَّة بلد عربيّ بكامله مهدَّدة بالسلب مِنْ قوى إمبرياليَّة غاشمة، فبوصلة اليساريين والقوميين تقودهم حتماً إلى إعطاء الأولويَّة لمواجهة القوى الإمبرياليَّة. لأنَّه لا حريَّة لشعب إذا ما سُلبتْ حريَّة وطنه. وهذا ما حَكَمَ موقف اليساريين والقوميين في الحالات التي أشرنا إليها. كما أنَّ في بوصلتهم مؤشّراً آخر ثابتاً يحكم مواقفهم أيضاً؛ ألا وهو العداء العميق للإمبرياليَّة والصهيونيَّة. وقد اعتقدوا في السنوات الأخيرة أنَّ الإسلاميين أصبحوا يشاطرونهم ذلك؛ ولكنَّهم اكتشفوا، آسفين، أنَّه ما أن فكَّر الغرب في تجديد تحالفاته القديمة لاحتواء نتائج الاحتجاجات العربيَّة التي أطاحت بالأنظمة التابعة له، ولتعديل التوازنات في المنطقة لصالح "إسرائيل" عن طريق ضرب سوريَّة وتحويلها إلى دولة تابعة، حتَّى انقلب الإسلاميون مائة وثمانين درجة وغيّروا تحالفاتهم وراحوا يعطون التطمينات العلنيَّة للغرب و"إسرائيل" بالجملة.

فمن هو الثابت في مواقفه ومبادئه؟ ومَنْ هو الذي يغيّرها حسب المصلحة والطلب والحاجة؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مع الاعتذار لأدونيس الذي استعرنا منه عنوان هذا المقال.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال