سعود قبيلات ▣
تعرَّض موقف الماركسيَّة من
المسألة اليهوديَّة للكثير من الالتباس طوال النصف الثاني من القرن العشرين؛ وقد
ساهم في خلق هذا الالتباس، وإبقائه، الماركسيُّون وأعداء الماركسيَّة على السواء.
وذلك رغم أنَّ لينين كان قد حارب بقوَّة فكرة قيام حزب اشتراكي ديمقراطي
يهودي(البوند) في روسيا، وقدَّم في سبيل ذلك مختلف الحجج والأسانيد الماركسيَّة.
وفي المؤتمر الثاني للأمميَّة الشيوعيَّة (الكومنتيرن) الذي عقد عام 1920، بقيادة
لينين، اكتشف المشاركون محاولة تسلُّل صهيونيَّة إلى الكومنتيرن كان هدفها الحصول
على تمثيل فيه لـ"حركة التحرُّر الوطني اليهوديَّة". كما أعلن حزب
عمَّال صهيون أنَّه حزبٌ شيوعيّ. غير أنَّ المؤتمرين رفضوا محاولات التسلُّل تلك
بحسم. واتخذ المؤتمر، من بين قراراته العديدة، القرار التالي بالإجماع: "إنَّ
المنشأة الفلسطينيَّة للصهاينة والصهيونيَّة بوجه عام التي تضع السكَّان الكادحين
في فلسطين، حيث يمثِّل فيها الكادحون اليهود أقليَّة لا تذكر، ضحيَّة فعليَّة
للاستغلال الإنجليزي تحت زعم إنشاء دولة يهوديَّة في فلسطين، لمثال ساطع على خداع
الجماهير الكادحة في الأمَّة المقهورة بواقع الجهود المشتركة لإمبرياليَّة الحلفاء
وبورجوازيَّة الأمَّة المعنيَّة" (يجدر التذكير بأنَّه في ذلك الوقت (1920)
كان كثير من العرب لا يدركون خطورة الحركة الصهيونيَّة ومشروعها في فلسطين). وقد أدان
المؤتمر الصهيونيَّة باعتبارها أداة للبرجوازيَّة اليهوديَّة الكبيرة الهادفة إلى
تحقيق أهدافها الإمبرياليَّة المغرضة. واعتبر تأييد الصهيونيَّة على أيِّ نحو،
مباشر أو غير مباشر، لا يعني سوى أن يصبح المرء عوناً للحاخامات والبرجوازيّين
والعمل لصالح الإمبرياليَّة في نهاية المطاف، التي تستغلّ الصهيونيَّة كأداة
لتحقيق أهدافها.
ولقد ناصبت الصهيونيَّةُ الثورةَ
السوفييتيَّةَ العداء منذ بدايتها؛ ففي الثاني من أيَّار 1918، أي بعد مرور بضعة
أشهر فقط على قيام الثورة، عُقد في موسكو مؤتمر سريّ لمنظَّمة "سيرة ـ
صهيون" الصهيونيَّة، طالب "بإقامة حكومة ائتلافيَّة لا يشترك فيها
البلاشفة". كما أصدر وثيقة تؤكِّد أنَّ "اليهود لم يشهدوا في كلِّ
تاريخهم الطويل عدوّاً لدوداً لأفكار الأمَّة اليهوديَّة كالاشتراكيَّة".
وشارك الصهاينة فيما بعد في كلّ
النشاطات والفعاليَّات المعادية للسلطة السوفييتيَّة، سواء أكانت سياسيَّة أم
عسكريَّة أم اقتصاديّة أم دعاويّة.. الخ. وكان من الطبيعي أن يفكِّروا ويتعاملوا
مع هذا الحدث المهمّ على هذا النحو؛ إذ أنَّ الثورة سحبت البساط من تحت أقدامهم
بدعوتها الأمميَّة إلى أخوَّة الشعوب، وعدم التمييز بينها، بينما تقوم المبادئ
والمصلحة الصهيونيَّة على التمييز ما بين اليهود والآخرين بهدف إقناع اليهود
بأنَّهم لن يستطيعوا الاستمرار في العيش بين
الشعوب الأخرى بصورة طبيعيَّة، وأنَّ عليهم، لذلك، إقامة دولتهم الخاصَّة.
وعدا عن ذلك فقد كانت المنظَّمات الصهيونيَّة كبيرة العدد في روسيا قبل الثورة،
وكانت تمدّ المركز الصهيوني في لندن بالكثير من الأموال، وقد أدَّت الثورة إلى
انقطاعها.
ويلفت النظر أنَّ وعد بلفور
بإنشاء "وطن لليهود" في فلسطين، قد صدر قبل ثورة تشرين أوَّل(أكتوبر)
1917 السوفييتيَّة بأيَّام. وفي عام 1919 قال عضو المحكمة العليا الأميركيَّة ل .
برينديس لوزير الخارجيَّة البريطانيَّة
بلفور بأنَّه قد شغف بالصهيونيَّة، وبالتحديد في البحث عن الطريق الذي من شأنه عرقلة
انتشار الأفكار الثوريَّة وسط اليهود. وردَّ بلفور قائلاً: "طبيعي أنَّ هذه
الأسباب بالذات تجعل منك ومنِّي صهيونيّين مندفعين".
وكتب ونستون تشرشل، عندما كان وزير
شؤون القوَّات البريَّة والجويَّة في بريطاينا عام 1920 بأنَّه يعتبر الصهيونيَّة
"ردّاً على الشيوعيَّة العالميَّة" في مجال المسألة اليهوديَّة، ولذلك
فإنَّ الصهيونيَّة "يجب أن تأخذ بلبّ الشعب اليهودي".
مجمل القول أنَّ الصهيونيَّة كانت
معادية للثورة منذ البداية، وأنَّها استمرَّت في عدائها لها بكلّ همَّة ونشاط إلى
أن انهار الاتِّحاد السوفييتي في أوائل تسعينيَّات القرن الماضي. وما أنْ تمَّ
ذلك، حتَّى خرج، فجأة، إلى دائرة السلطة والنفوذ ممثلوها الذين حازوا أيضاً على
مجمل الثروات في الاتِّحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقيَّة
"الاشتراكيَّة". ولنتذكَّر أنَّه في عهد يلتسين، على سبيل المثال، كانت
الطغمة الماليَّة اليهوديَّة تقرِّر كلّ شيء تقريباً في روسيا. وكان بيروزفسكي
الذي يحمل الجنسيَّتين الإسرائيليَّة والروسيَّة صاحب كلمة نافذة في بلاط يلتسين،
وخيدورفسكي كان ملكاً متوَّجاً للنفط الروسي حتَّى وقت قريب.. الخ. فبأيِّ منطق
نستطيع أن نصدِّق أنَّ هؤلاء ظهروا بين يوم وليلة ولم يكونوا حصيلة إعداد طويل
ومدروس؟!
والأهمّ من ذلك كلِّه هو أنَّ
الصهيونيَّة في نشأتها وطبيعة تكوينها وارتباطاتها وأهدافها كانت في موقف النقيض
التام للشيوعيَّة، ولا مجال لأيٍّ منهما أن تنجح في تحقيق برنامجها إلا على حساب
الأخرى.
يعيد جورجي فيدوروف نشأة
الصهيونيَّة إلى عدد من العوامل الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة
والدوليَّة ساعدت على ظهور الصهيونيَّة على نحوٍ منظَّم:
1. نمو وتزايد قوَّة التأثير
الاقتصادي للبورجوازيَّة اليهوديَّة التي تمثَّلت في أواخر القرن التاسع عشر
وبداية القرن العشرين في الجانب المنظَّم من البورجوازيَّة العالميَّة الوثيقة
الارتباط بها من حيث الأواصر الدينيَّة والسلاليَّة الجنسيَّة، وعلاقات القربى في
كثير من الأحيان، وطموحها إلى توسيع صلاتها الدوليَّة وتقوية مواقعها في المنظومة
الاقتصاديَّة للرأسماليَّة. ويوضِّح فيدوروف كيف تمكَّنت البورجوازيَّة اليهوديَّة
من احتلال مواقع راسخة في العالم الرأسمالي أثناء عمليَّة تطوُّر الرأسماليَّة.
قائلاً بأنَّه في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كان المموِّلون اليهود في
وسط أوروبا هم الوحيدون، تقريباً، الذين يملكون راس المال "الجاري"
السائل. ويفصِّل حقائق هذا الموضوع قائلاً بأنَّ اليهود لعبوا دوراً هامّاً في
ألمانيا والنمسا والمجر في مجالات مثل المصارف وتجارة التصدير والاستيراد. وتمتَّع
التجَّار اليهود في بولونيا وليتوانيا ورومانيا بحقّ احتكار جانب كبير من نشاط
التجارة والصناعة على امتداد القرون. وفي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن
العشرين كان 55% من تجَّار طائفتي الحرفيّين الأولى والثانية في روسيا من اليهود.
وكانت حصَّتهم تعادل 40% من إجمالي حجم دورة التبادل التجاري. وفي النصف الأوَّل
من القرن التاسع عشر قدَّمت شركة مصارف روتشيلد 44 قرضاً أجنبيّاً إلى مائتي بلد
من بينها بروسيا وفرنسا وروسيا والبرازيل واليونان. وبلغت قيمة هذه القروض 130
مليون جنيه إسترليني، وهو مبلغ ضخم جدّاً بمعايير ذلك الزمان. ويعبِّر كارل ماركس
عن الأبعاد السياسيَّة والاقتصاديَّة لهذا الوضع قائلاً: "إنَّ التناقضات بين
السلطة السياسيَّة لليهودي في الممارسة العمليَّة وحقوقه السياسيَّة، هي التناقض
بين السياسة وسلطة المال بوجه عام. وعلى حين أنَّه يجب أن تعتلي السلطة السياسيَّة
سلطة المال من حيث المبدأ، فقد أصبحت عبداً لها في واقع الأمر".
2. طموح البورجوازيَّة اليهوديَّة
إلى تقوية وتشديد الرقابة على جماهير الكادحين اليهود وإعاقة تقارب نضالها الطبقي
مع نضال البروليتاريا ككل. وقد بلغ التفاوت الطبقي بين البورجوازيَّة اليهوديَّة
والكادحين اليهود في أوروبا عموماً، في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن
العشرين، حدّ التفتت الطبقي، الأمر الذي جعل تيودور هرتزل (أبو الصهيونيَّة) يعترف
بضعف التضامن بين اليهود آنذاك. وعندئذٍ استخدمت البورجوازيَّة الكبيرة اليهوديَّة
حجَّة إنشاء "دولة يهوديَّة خاصَّة" لوقف النفوذ المتزايد لفكرة
الاشتراكيَّة بين الكادحين اليهود، والإبقاء عليهم تحت هيمنتها السياسيَّة.
3. ظهور الصهيونيَّة وثيق الصلة
بالتوسُّع الاستعماري للدول الإمبرياليَّة في الشرق الأوسط، وطموح هذه الدول إلى
استغلال الهجرة اليهوديَّة إلى فلسطين كأداة للسياسة الاستعماريَّة. كانت الدول
الإمبرياليَّة تبحث في أواخر القرن التاسع عشر عن أسواق جديدة لتصريف منتجاتها
ومصادر للخامات ومجالات لاستثمار رؤوس أموالها. لذا حاولت استغلال الفكرة الصهيونيَّة
لتهجير اليهود إلى فلسطين لتنفيذ استعمار الشرق الأوسط الغني بمصادر الخامات. وقد تمَّ
بناء تلك السياسة الاستعماريَّة بالاستناد إلى تطابق مصالح البورجوازيَّة
اليهوديَّة الكبيرة مع أهداف الجماعات الأخرى البورجوازيَّة في الدول
الإمبرياليَّة.
لذلك فقد كانت
الدول الإمبرياليَّة تتسابق وتتنافس في إبداء تأييدها ودعمها للمشروع الصهيوني في
فلسطين. فموقف قادة بريطانيا من هذا الأمر معروف جيّداً، ولكن قادة فرنسا وألمانيا
والولايات المتَّحدة لم يكونوا يقلّون عنهم حماساً. وقد وقف السلطان العثماني عبد
الحميد عقبة كأداء في وجه هذا المشروع رغم الإغراءات الماليَّة من الحركة
الصهيونيَّة ورغم ضغوط حلفائه وخصومه على السواء.
وكان قادة الحركة الصهيونيَّة على
وعيٍ تامّ بالدور المخصَّص لدولتهم المنشودة ولحركتهم العالميَّة في خدمة الأهداف
الإمبرياليَّة. وقد عبَّروا عن ذلك في حينه بكلّ وضوح. ففي رسالة بعث بها
هرتزل إلى س . رودس، أحد بناة
الإمبراطوريَّة البريطانيَّة الاستعماريَّة، كتب يقول: "برنامجي هو برنامج
استعماري". وأضاف قائلاٍ بأنَّ على الصهاينة أن يقيموا في فلسطين "نقطة متقدِّمة
للحضارة لمواجهة البربريَّة"، و"جزءاً من متراس قلعة أوروبا ضدّ
آسيا"، و"مركزاً للثقافة الغربيَّة" يوصلها بأقرب وقت إلى
آسيا.
وفي ضوء هذا كان من الطبيعي أن يكون الاتِّحاد
السوفييتي والحركة الشيوعيَّة العالميَّة في حالة تناقض وعداء مع الحركة
الصهيونيَّة ومشروعها الاستيطاني، ورأينا كيف أنَّ الصدام الفعلي حدث منذ البداية،
وأنَّ الكومنتيرن قد أدان الصهيونيَّة ورفض فكرة الاستيطان، غير أنَّ هذا الموقف الماركسي اللينيني الشديد
الوضوح شابه الارتباك، بل الانحراف عن المنطلقات الماركسيَّة، منذ الحرب
العالميَّة الثانية. وبلغ ذلك أوجه عام 1947 عندما صوَّت الاتِّحاد السوفييتي في
الجمعيَّة العامَّة لهيئة الأمم المتَّحدة لصالح قرار تقسيم فلسطين، بعدما كان
يدعو لقيام دولة ديمقراطيَّة علمانيَّة فيها. وبرَّر أندريه غروميكو، المندوب
السوفييتي في المنظَّمة الدوليَّة، آنذاك، هذا الموقف الغريب بأنَّ الاتِّحاد
السوفييتي تعامل مع التقسيم باعتباره أحسن الحلول السيئة المطروحة. وقبل التصويت
على القرار كان أندريه غروميكو قد صاغ الموقف السوفييتي في خطابه أمام الجمعيَّة
العامَّة على النحو التالي: ليس للاتِّحاد السوفييتي أيَّة مصالح مباشرة ماديَّة
كانت أم غير ماديَّة في فلسطين ولكنَّه قلق من الوضع الناشئ قي هذا البلد باعتباره
إحدى الدول الكبرى التي تتحمَّل مسؤوليَّة خاصَّة في حفظ السلام العالمي. وأشار
إلى أن من واجب هيئة الأمم المتَّحدة أن تتَّخذ قراراّ يتناسب مع الوضع القائم في
فلسطين. وقال: "إنَّ الاتِّحاد السوفييتي قد أشار عند بحث قضيَّة مستقبل
فلسطين في الدورة الخاصَّة للجمعيَّة العامَّة بهيئة الأمم المتَّحدة، إلى وجود
أقرب وجهين لحلّ تلك المسألة. الوجه الأوَّل: هو إقامة دولة عربيَّة ـ يهوديَّة
ديمقراطيَّة موحَّدة تتساوى فيها حقوق العرب واليهود. إذا اتَّضح أنَّ ذلك ليس
بالحلّ الواقعي، وإذا أعلن العرب واليهود أنَّ ليس بإمكانهما العيش معاً، نتيجة
للعلاقات المتدهورة بينهما، فإنَّ الحكومة السوفيتية تقترح بواسطة وفدها في
الجمعيَّة العامَّة تحقيق الوجه الثاني وهو تقسيم فلسطين إلى دولتين منفصلتين
مستقلَّتين ديمقراطيَّتين إحداهما عربيَّة والأخرى يهوديَّة".
وهنا يجب أن نوضِّح أنَّ قرار
التقسيم لم يكن القرار الوحيد المطروح للتصويت عليه في تلك الجلسة للجمعيَّة
العامَّة، بل كان هناك قرار آخر كانت تؤيِّده أقليَّة اللجنة الدوليَّة التي
اقترحت القرارين. وكان القرار الثاني ينص على إقامة دولة اتِّحاديَّة تضمّ العرب
واليهود.
وعندما أعلن قيام
"إسرائيل" عام 1948 بادر الاتِّحاد السوفييتي إلى الاعتراف بها. وقد
بُرِّر ذلك الموقف الغريب بالقول إنَّه ما دام الاتِّحاد السوفييتي قد وافق، بموجب
قرار التقسيم، على قيام دولتين، إحداهما عربيَّة والأخرى يهوديَّة، فمن الطبيعي أن
يعترف، إذاً، بالدولة اليهوديَّة ما دامت قد قامت بالفعل، وبأنَّه كان سيعترف
بالدولة العربيَّة لو كانت قد قامت هي الأخرى. وكان يقال أيضاً إنَّ الدول
العربيَّة التي كانت قائمة آنذاك كانت جميعها دول متخلِّفة وخاضعة مباشرة
للاستعمار ومعاديَّة بالنتيجة للاتِّحاد السوفييتي والحركة الشيوعيَّة العالميَّة،
كما إنَّ حركة التحرُّر الوطني الفلسطينيَّة نفسها أيضاً كانت خاضعة لقيادات
إقطاعيَّة، وإنَّ قيادتها تحالفت مع ألمانيا النازيَّة (الحاج أمين الحسيني). غير
أنَّ هذا كلّه لا يفسِّر الأمر، فإذا كانت الحكومات العربيَّة إقطاعيَّة ومتخلِّفة
وموالية للاستعمار، فما ذنب الشعوب، خصوصاً وأنَّ لينين كان منذ بداية الثورة
السوفييتيَّة قد توجَّه بوضوح للتحالف مع شعوب الشرق الطامحة للاستقلال والتحرُّر
من نير الاستعمار. وإذا كانت القيادة الفلسطينيَّة قد أخطأت في تحالفها مع
النازيَّة، فهل يعني هذا أنَّ قضيَّة
الشعب الفلسطيني لم تعد عادلة؟!
على أيَّة حال، لقد ألقت الحرب
العالميَّة الثانية، وتحالفاتها وخصوماتها، بظلالها على السياسة الدوليَّة بمجملها
في الفترة اللاحقة للحرب. فقد كان اليهود جزءاً من التحالف الدولي الذي واجه
ألمانيا النازيَّة ودول المحور؛ وقد أعطتهم الدعاية المضادّة للنازيَّة دوراً
مبالغاً فيه كواحدة من المجموعات التي تعرَّضت للاضطهاد النازي. وهذا مع أنَّ
الاتِّحاد السوفييتي نفسه خسر خمسةً وعشرين مليوناً من أبنائه في أثناء المواجهة
الشرسة مع ألمانيا. ويبدو أنَّه في إطار التوافق والتقارب والتسويات التي جرت بين
الحلفاء على هامش الحرب وبعد انتهائها، كانت القضيَّة الفلسطينيَّة هي الضحيَّة
التي تمَّ تقديمها قرباناً على مذبح المصالح المشتركة المؤقَّتة والطارئة لشركاء
الحرب الذين سرعان ما عادوا إلى الانقسام إلى
جبهتين جديدتين متعاديتين، في حرب عالميَّة جديدة، باردة، هذه المرَّة، في
مراكز النظام الدولي وملتهبة في أطرافه.
وللإنصاف فقد جرى تعديل جذري على
الموقف السوفييتي بعد ذلك؛ ففي العام 1956 قام الجيش الإسرائيلي بالهجوم على غزَّة
وسيناء، وتدخَّلت فرنسا وبريطانيا في 31 تشرين أوَّل وفقاً للخطَّة المتَّفق
عليها. وفي الخامس من تشرين الثاني 1956 أنذرت الحكومة السوفييتيَّة المعتدين
بأنَّ الاتِّحاد السوفييتي عازم على سحق المعتدين وإعادة السلام في الشرق الأوسط.
وحين يقرأ المرء نص الإنذار السوفييتي الآن فإنَّه يشعر بالمزيد من الأسف للوضع الدولي
المتردِّي وغير الأخلاقي الذي أصبح العالم يعيشه في ظلِّ هيمنة الولايات المتَّحدة
الأحاديَّة، حيث تصول الإمبرياليَّة الأميركيَّة وتجول وترتكب أبشع أنواع الجرائم
في العراق المحتل، ومثلها تفعل "إسرائيل" في فلسطين المحتلَّة، ولا أحد
يرمي المعتدين بـ"وردة" كما يقال.
قال الإنذار السوفييتي المشرِّف،
الذي سلِّم إلى رئيس الوزراء البريطاني، آنذاك، انطوني ايدن، وهو لا يخفي نبرة
التهديد القاسية للغزاة: "لا يمكن إيجاد أيّ مبرِّر لحقيقة أنَّ القوَّات
المسلَّحة لإنجلترا وفرنسا، وهما الدولتان الكبيرتان، العضوان في مجلس الأمن قد
هاجمتا بلداً حصل منذ وقتٍ قريب على استقلاله
السياسي وهو لا يملك الوسائل الكافية للدفاع عن نفسه" واستطرد قائلاً:
"ما الذي سيكون عليه وضع إنجلترا ذاتها، إذا هاجمتها دول أقوى منها تمتلك كلَّ
أنواع أسلحة الفناء العصريَّة؟ إنَّ بإمكان مثل تلك الدول الآن أن لا ترسل إلى
سواحل إنجلترا الأساطيل البحريَّة والجويَّة بل وسائل أخرى كالصواريخ، مثلاً. ولو
استخدمت الأسلحة الصاروخيَّة ضدّ إنجلترا وفرنسا لوصفتم ذلك بأنَّه عمل وحشيّ.
ولكن ما هو الفرق في ذلك عن الهجوم الوحشي الذي تشنُّه القوَّات المسلَّحة الإنجليزيَّة
والفرنسيَّة ضدَّ مصر التي تكاد لا تمتلك سلاحا؟". وفي الختام قال الاتِّحاد
السوفييتي: "إنَّنا عازمون كلَّ العزم على استخدام القوَّة لتحطيم المعتدين
وإحلال السلم في الشرق". وكان تأثير الإنذار على أطراف العدوان صاعقاً. فبعد
يومين، أي في السابع من تشرين الثاني، توقَّفت عمليَّات القتال تماماً. وفي الثاني
والعشرين من كانون الأوَّل غادرت آخر الوحدات الإنجليزيَّة ـ الفرنسيَّة أراضي
مصر. وفي آذار 1957 اضطرت "إسرائيل" إلى سحب قوَّاتها.
وفي عام 1967 وقف الاتِّحاد السوفييتي ضدّ
العدوان الإسرائيلي على الأردن ومصر وسوريا، وقطع علاقاته الدبلوماسيَّة مع
"إسرائيل" وكذلك فعلت "منظومة الدول الاشتراكيَّة"، وظلَّت
هذه العلاقات مقطوعة إلى أن انهار الاتِّحاد السوفييتي والمنظومة المتحالفة معه في
أوائل تسعينيَّات القرن الماضي.
وبعد هزيمة 1967 وقف السوفييت
وحلفاؤهم بقوَّة إلى جانب مصر وسوريا وأعادوا تسليح جيشيهما، بل وفي فترة حرب
الاستنـزاف، أرسل الاتِّحاد السوفييتي الكثير من الطائرات الحربيَّة بطيَّاريها،
إلى مصر، بناء على طلب من قيادتها، وقد شارك هؤلاء في حماية الأجواء المصريَّة في
أثناء حرب الاستنـزاف، وأستشهد بعضهم في أثناء مشاركتهم في القتال. وفي عام 1975،
وفي الدورة الثلاثين للجمعيَّة العامَّة للأمم المتَّحدة، ساهم الاتِّحاد
السوفييتي و"المنظومة الاشتراكيَّة" ودول عدم الانحياز في إصدار القرار
3379، الذي نصّ على اعتبار الصهيونيَّة أحد أشكال العنصريَّة. وهو القرار الذي
تمَّ إلغاؤه مع الأسف في التسعينيَّات، بعد غياب الاتِّحاد السوفييتي
و"المنظومة الاشتراكيَّة".
ولكن ظلَّ الموقف الغريب الذي حدث
عام 1947 وعام 1948 مثار جدل ونقاش دائمين بين الماركسيّين أنفسهم، من جهة، وبينهم
جميعاً وبين خصومهم السياسيّين، من جهة أخرى. والحقيقة أنَّ جوهر وحقيقة الموقف
الماركسي كان مغيّباً، عن أجواء الحوار، طوال الوقت. وأكثر ما تعرَّض للتغييب، في
هذا المجال، موقف ماركس نفسه من أساس المشكلة، كما تمَّ بناؤها في الغرب؛ أي
"المشكلة اليهوديَّة". وبالنسبة لنا كعرب، من المهمّ أن نعرف أبعاد هذه
المشكلة، خصوصاً أنَّها تحوَّلت إلى مشكلة عربيَّة منذ بدء تنفيذ المشروع الصهيوني
في فلسطين والمنطقة العربيَّة. ونلخِّص فيما يلي موقف كارل ماركس المهم والجريء من
المسألة اليهوديَّة التي ما زالت تلقي بظلالها على العالم كلّه، خصوصاً منطقتنا،
وبصورة أكثر تعقيداً وتأثيراً ممَّا كانت عليه في السابق:
يعبِّر ماركس عن موقفه من هذه
المسألة، بكلّ وضوح، في أطروحته: "حول المسألة اليهوديَّة"، التي كتبها
عام 1843، ونُشرت في باريس في الحوليَّة الألمانيَّة الفرنسيَّة، ويناقش فيها
أفكار برونو باور في "المسألة اليهوديَّة".
في مقدِّمة القسم الأوَّل من
أطروحته يقدِّم ماركس ملخَّصاً لبعض أفكار برونو باور في هذه المسألة الشائكة
والتي أثارت الكثير من النقاش في أوروبا، على النحو التالي: "يطالب اليهود
الألمان بالتحرُّر، فبأيّ تحرُّر يطالبون؟ التحرُّر كمواطنين، التحرُّر السياسي.
يجيبهم برونو باور: ليس ثمَّة من
هو متحرِّر سياسيّاً في ألمانيا. نحن أنفسنا لسنا أحراراً، فكيف نستطيع تحريركم؟
أنتم اليهود أنانيُّون حين تطالبون لأنفسكم كيهود بانعتاق خاص، عليكم أن تعملوا
كألمان من أجل انعتاق ألمانيا السياسي، وكبشر من أجل الانعتاق البشري، وألاّ
تشعروا أنَّ النوع الخاص لاضطهادكم ولذُلِّكم استثناء عن القاعدة وإنَّما هو تأكيد
لها.
أم ترى أنَّ اليهود يطالبون
بالمساواة مع أبناء الرعيَّة المسيحيّين؟ إنَّهم يعترفون بذلك بشرعيَّة الدولة
المسيحيَّة وطبقاً لذلك بسلطة الاستعباد العام. لماذا يستهجنون نيرهم الخاص إذا
كان النير العام يعجبهم! لماذا ينبغي للألماني أن يهتم بتحرُّر اليهود إذا كان
اليهودي لا يهتم بتحرير الألماني؟
لا تعرف الدولة المسيحيَّة إلا
الامتيازات، واليهودي يملك فيها امتياز كونه يهوديّاً. وله كيهودي حقوق ليست
للمسيحيّين. فلماذا يطالب بحقوق ليست له، يتمتَّع بها المسيحيُّون؟
حين يريد اليهودي التحرُّر من
الدولة المسيحيَّة فإنَّه يطلب أن تتخلَّى الدولة المسيحيَّة عن حكمها الديني
المسبق. فهل يتخلَّى هو اليهودي عن حكمه الديني المسبق؟ أفيكون من حقِّه أن يطلب
من غيره أن يتخلَّى عن الدين؟
لا تستطيع الدولة المسيحيَّة
تبعاً لجوهرها أن تعتق اليهودي، ولكن لا يستطيع اليهودي أيضاً من حيث جوهره أن
ينعتق، كما يضيف باور. طالما بقيت الدولة مسيحيَّة واليهودي يهوديّاً فإنَّ كليهما
على السواء غير قادر على منح التحرُّر أو تلقِّيه.
لا تستطيع الدولة المسيحيَّة أن
تسلك إزاء اليهود إلا بطريقة الدولة المسيحيَّة، هذا يعني بطريقة الامتيازات، أي
بأن تسمح بتمييز اليهود عن بقيَّة أبناء الرعيَّة، ولكنَّها تجعله يشعر بضغط
المجالات الأخرى المتميِّزة، وبصورة أشد حين يكون اليهودي في تعارض ديني مع الدين
السائد. ولكن اليهودي أيضاً لا يستطيع أن يقف من الدولة إلا موقفاً يهوديّاً، هذا
يعني أنَّه يقف من الدولة موقف الغريب، بأن يضع قوميَّته الوهميَّة مقابل
القوميَّة الحقيقيَّة ويضع قانونه المتوهَّم مقابل القانون الحقيقي بأن يظنّ أنَّ
من حقِّه أن يتمايز عن البشريَّة، بأن يحجم مبدئيّاً عن المشاركة في الحركة
التاريخيَّة، بأن يطمح في مستقبل لا يجمعه بالمستقبل العام للإنسان شيء، بأن يعتبر
نفسه عضواً في الشعب اليهودي ويعتبر الشعب اليهودي الشعب المختار.
إذاً فباسم أيّ شيء تطالبون
أيُّها اليهود بالانعتاق؟ أمن أجل دينكم؟ إنَّه الدين الأكثر عداء لدين الدولة.
كمواطنين؟ ليس في ألمانيا مواطنون. كبشر؟ لستم بشراً، شأنكم شأن من توجِّهون إليهم
نداءكم.
ويعقِّب ماركس على أفكار باور هذه
قائلاً: "طرح باور مسألة تحرُّر اليهود طرحاً جديداً بعد أن وجَّه الانتقاد
إلى الطروحات والحلول التي كانت قائمة حتَّى ذلك الوقت. إنَّه يتساءل: ما هي طبيعة
اليهودي الذي يريد التحرُّر والدولة المسيحيَّة التي يفترض أن تحرِّره؟ وهو يجيب
من خلال نقده للديانة اليهوديَّة، فهو يحلِّل التناقض بين اليهوديَّة والمسيحيَّة
ويوضِّح جوهر الدولة المسيحيَّة، وكلّ هذا بشجاعة ووضوح وظرافة وعمق، بأسلوب يتَّصف
أيضاً بالدقَّة والمتانة والحيويَّة.
ويمضي بعد ذلك في مناقشة جملة من
المفاهيم النظريَّة والسياسيَّة تتعلَّق بالتحرُّر السياسي وبالمواطنة وبالتحرُّر
الإنساني وحقوق الإنسان والملكيَّة الخاصَّة والعلاقة بين الدين والدولة.
وفي القسم الثاني مِنْ أطروحته
يناقش ماركس العلاقة بين المسيحيَّة واليهوديَّة والخلفيَّة الاجتماعيَّة
الاقتصاديَّة للدين اليهودي، وللمسألة اليهوديَّة، وما هو السبيل لإنجاز تحرُّر اليهودي
وتحرُّر الإنسان بوجه عام. ونقدِّم أفكاره على شكل نقاط فيما يلي:
·
لنتأمَّل
اليهودي الدنيوي الواقعي، ليس يهودي السبت كما يفعل باور، وإنَّما اليهودي العادي.
لن نبحث عن سر اليهودي في دينه وإنَّما عن سر الدين في اليهودي الواقعي. ما هو
الأساس الدنيوي لليهوديَّة؟ الحاجة العمليَّة، المنفعة الخاصَّة. ما هي العبادة
الدنيويَّة؟ التجارة. ما هو إلهه الدنيوي؟ المال.
حسناً! سيكون
التحرُّر من التجارة والمال، أي من اليهوديَّة العمليَّة الواقعيَّة، تحرير عصرنا
لنفسه.
·
إنَّ
تنظيماً للمجتمع يلغي التجارة، أي إمكانيَّة التجارة، يجعل وجود اليهودي مستحيلاً.
سينحلّ وعيه الديني مثل بخار باهت في هواء الحياة الحقيقيَّة للمجتمع. ومن جهة
أخرى: إذا أقرَّ اليهودي ببطلان جوهره العملي هذا وعمل على إلغائه، فإنَّه يعمل
انطلاقاً من تطوُّره حتَّى هذا الوقت، في التحرُّر البشري العام وينقلب ضدَّ أقوى
تعبير عملي للاغتراب الإنساني عن الذات.
·
لقد
تحرَّر اليهودي فعلاً على الطريقة اليهوديَّة. ويقتبس ماركس، هنا، من باور ما يلي:
"إنَّ اليهودي الذي لا يُقبل في فيينّا مثلاً إلا على مضض، يتحكَّم من خلال
سلطته الماليَّة بمصير المملكة كلّها. واليهودي الذي يمكن أن يكون بلا حقوق في
أصغر دولة ألمانيَّة يقرِّر مصير أوروبا. وبينما تبقى الطوائف المهنيَّة والروابط
مقفلة أمام اليهودي أو لا تميل إليه، تسخر شجاعة الصناعة من تعنُّت مؤسَّسات
القرون الوسطى". ويقول ماركس موضِّحاً: "ليست هذه حقيقة وحيدة. لقد
تحرَّر اليهودي على الطريقة اليهوديَّة، ليس فقط بامتلاكه سلطة المال وإنَّما
أيضاً بأن أصبح المال من خلاله أو بدونه سلطة عالميَّة، وأصبح روح اليهودي العملي
الروح العملي للشعوب المسيحيَّة. لقد تحرَّر اليهود بالقدر الذي أصبح فيه
المسيحيُّون يهوداً.
·
نعم،
لقد بلغت سلطة اليهوديَّة على العالم المسيحي في أميركا الشماليَّة التعبير
الطبيعي الذي لا لبس فيه حتَّى أنَّ التبشير بالإنجيل نفسه ووظيفة التبشير المسيحي
أصبحا بضاعة يتاجر بها، والتاجر المفلس في الإنجيل يفعل ما يفعله الإنجيلي الذي
أصبح ثريّاً في التجارة.
·
إنَّ التناقض بين السلطة السياسيَّة العمليَّة
لليهودي وحقوقه السياسيَّة هو التناقض بين السياسة وسلطة المال بشكل عام. فبينما
تحتلّ الأولى نظريّاً مكاناً فوق الثانية، فإنَّها في الواقع مستعبدة لها.
·
لقد
عاشت اليهوديَّة إلى جانب المسيحيَّة ليس فقط كنقد ديني للمسيحيَّة، ليس فقط كشكّ
متضمن في الأصل الديني للمسيحيَّة، وإنَّما أيضاً لأنَّ الروح العملي اليهودي،
لأنَّ اليهوديَّة بقيت في المجتمع المسيحي نفسه وحصلت حتَّى على أعلى نمو لها.
فاليهودي الذي يعتبر عضواً خاصّاً في المجتمع البرجوازي ليس سوى الظاهرة الخاصَّة
ليهوديَّة المجتمع البرجوازي.
·
لقد
بقيت اليهوديَّة ليس رغماً عن التاريخ وإنَّما من خلال التاريخ. فالمجتمع
البرجوازي يولِّد من أحشائه الخاصَّة اليهود دون انقطاع.
·
ما
هو أساس الدين اليهودي في ذاته؟ الحاجة العمليَّة الأنانيَّة.
·
ومن
هنا فإنَّ توحيد اليهودي هو تعدُّد الآلهة بتعدُّد الحاجات، هو تعدُّد يجعل من بيت
الخلاء نفسه موضوعاً للقانون الإلهي. الحاجة العمليَّة، الأنانيَّة، هي مبدأ
المجتمع البورجوازي، وتبرز على هذا النحو حالما يكون المجتمع البورجوازي قد أتمَّ
ولادة الدولة السياسيَّة. إنَّ إله الحاجات العمليَّة والمصلحة الذاتيَّة هو
المال.
·
المال
هو إله إسرائيل المتحمِّس الذي لا ينبغي أن يوجد أمامه إله آخر. يحطّ المال من
قيمة جميع آلهة الإنسان الأخرى ويحوِّلها إلى سلعة. المال هو القيمة العامَّة
القائمة بذاتها لجميع الأشياء. ومن هنا فقد نهب من العالم كلّه، عالم الإنسان
والطبيعة قيمته الخاصَّة. المال هو الجوهر الغريب عن الإنسان وعمله ووجوده، وهذا
الجوهر الغريب لا يسيطر عليه حسب، وإنَّما يجعله يعبده.
·
لقد
أصبح إله اليهود دنيويّاً، وصارت الصيرفة
هي الإله الحقيقي لليهودي. إلهه هو الصيرفة الوهميَّة حسب.
·
إنَّ
ما هو مجرَّد في الدين اليهودي هو احتقار النظريَّة والفن والتاريخ والإنسان كغاية
بحدّ ذاتها، هذا هو الموقف الحقيقي الواعي، فضيلة إنسان المال. أمَّا علاقة النوع
ذاتها، العلاقة بين الرجل والمرأة.. الخ فإنَّها تصبح موضوعاً للتجارة! تصبح
المرأة بضاعة يتاجر بها. إنَّ القوميَّة الخرافيَّة لليهودي هي قوميَّة التاجر،
إنسان المال بشكل عام. وقانون اليهودي الذي لا أساس له ليس سوى الكاريكاتير الديني
للأخلاقيَّة التي لا أساس لها وللقانون بوجه عام وللطقوس الشكليَّة حسب، تلك التي
يحيط عالم المنفعة الذاتيَّة نفسه بها.
·
نظريّاً،
لم تستطع اليهوديَّة كدين أن تتطوَّر لأنَّ نظرة الحاجة العمليَّة إلى العالم
ضيِّقة الأفق بطبيعتها، تستنفذ بعد وقت قصير.
·
لا
يمكن لدين الحاجة العمليَّة بطبيعته أن يبلغ الكمال في النظريَّة وإنَّما في
التطبيق، لأنَّ حقيقته هي حقيقة التطبيق.
·
لقد
انبثقت المسيحيَّة من اليهوديَّة ثمَّ عادت وذابت في اليهوديَّة. لقد كان المسيحي
منذ البدء هو اليهودي المنظِّر، واليهودي من هنا هو المسيحي العملي، وقد أصبح
المسيحي العملي يهوديّاً ثانية. لقد تغلَّبت المسيحيَّة على اليهوديَّة الواقعيَّة
في الظاهر فقط. وقد كانت أكثر سموّاً وأكثر روحانيَّة من أن تلغي فجاجة الحاجة
العمليَّة بطريقة أخرى غير تصعيدها إلى أثير. المسيحيَّة هي الفكرة النبيلة
لليهوديَّة، واليهوديَّة هي الاستخدام العادي للمسيحيَّة، ولكن هذا الاستخدام لم
يستطع أن يصبح عامّاً إلا بعد أن استكملت المسيحيَّة كدين ناجز اغتراب الإنسان عن
نفسه وعن الطبيعة نظريّاً. عند ذاك فقط استطاعت اليهوديَّة أن تصل إلى السيطرة
العامَّة وتبيع (تغيِّب) الإنسان والطبيعة المتخلَّى عنهما وتجعلهما قابلين للبيع،
وموضوعاً لعبوديَّة الحاجة الأنانيَّة والتجارة.
·
ولأنَّ
الجوهر الحقيقي لليهودي قد تحقَّق بشكل عامّ في المجتمع البورجوازي، وأصبح
دنيويّاً، يستطع المجتمع البورجوازي إقناع اليهودي بوهميَّة جوهره الديني الذي هو
ليس سوى المفهوم المثالي للحاجة العمليَّة. وهكذا فأنَّنا لا نعثر على جوهر يهودي
اليوم في الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم وفي التلمود حسب، وإنَّما نجده في
المجتمع الراهن، ليس كتجريد وإنَّما ككائن على أعلى درجة من العمليَّة، ليس فقط
كضيق أفق اليهودي وإنَّما كيهوديَّة المجتمع ضيِّقة الأفق.
حالما ينجح
المجتمع في التغلُّب على الجوهر العملي لليهودي، على التاجر وشروطه، يصبح وجود
اليهودي مستحيلاً، لأنَّ وعيه لا يعود يملك موضوعاً، ولأنَّ القاعدة الذاتيَّة
لليهوديَّة، وهي الحاجة العمليَّة قد اتَّخذت طابعاً إنسانيّاً، لأنَّ النـزاع بين
الوجود الفردي المحسوس وبين وجود النوع البشري قد ألغي.
·
إنَّ
التحرُّر الاجتماعي لليهودي هو تحرُّر المجتمع من اليهوديَّة.
·
إنَّ
تحرُّر اليهود هو في معناه الأخير تحرُّر البشريَّة من اليهوديَّة.
المراجع:
1. حول
المسألة اليهوديَّة ـ كارل ماركس.
2. أعداء
السلام والتقدُّم ـ جيورجي فيدوروف.
3. الصهيونيَّة
على لسان قادتها ـ ليونيل دادياني.
الصهيونيَّة
بلا قناع ـ إيفان دونيف.