سعود قبيلات ▣
يراد
لهذا العصر الذي نعيش في أكنافه أنْ يكون، على وجه الخصوص، عصر النهايات الحاسمة؛
نهاية التاريخ، نهاية الأيديولوجيا، نهاية دور المثقَّف العضويّ، نهاية دولة
الرعاية الاجتماعيَّة، نهاية عهد الاستقلال الوطنيّ.. الخ.
إلا
أنَّ هذه جميعاً، برأيي، نهايات زائفة ومدَّعاة، وهي في أحسن الأحوال نهايات مأمولة
مِنْ قبل القائلين بها. ولقد وفَّر انهيار الاتِّحاد السوفييتيّ وحلفائه في
أوروبَّا الشرقيَّة قدراً كبيراً من الضباب الذي ساعد على تغطية زيف تلك
الادِّعاءات المتهافتة وسواها، وجعلها في أعين الكسالى فكريّاً (الذين يستسلمون
بسهولة واستمتاع للتعميمات النمطيَّة الفارغة)، تظهر بمظهر الحقائق المطلقة.
لقد
دُشِّن، هذا العصر "النهائويّ"، في أوائل تسعينيَّات القرن الماضي؛ حيث أراد
المستفيدون بانهيار الاتِّحاد السوفييتيّ، تثبيت "اللقطة" الاستثنائيّة
المرتبطة به، لأطول وقتٍ ممكن، على شاشة التاريخ؛ فدقَّوا أوتاد
"نهاياتهم" في أطرافها وجلسوا يحرسونها بكلّ الإمكانات الهائلة لماكينة
البروباجندا المتوفِّرة لديهم، وبمختلف أنواع وسائل القوَّة الأخرى أيضاً. ولقد كان
أوَّل تلك الأوتاد هو ذاك الذي دقَّه منظِّر البنتاغون فرنسيس فوكوياما، بادِّعائه
أنَّ مسيرة التاريخ قد تسمَّرتْ إلى الأبد على الجدار الواهي للحظة الهيمنة الليبراليَّة. وهنا يبدو هتلر أكثر
تواضعاً عندما تحدَّث في بداية عهده عن ألف عام من السيطرة الألمانيَّة
(النازيَّة). وبديهيّ أنَّ انتهاء التاريخ لا يكون إلا بانتهاء الصراع، وانتهاء
الصراع لا يكون إلا بانتهاء أسبابه التي مِنْ أهمّها تناقض المصالح واتِّساع
التفاوتات والانقسامات الاجتماعيَّة على مستوى كلّ دولة على حدة، وعلى مستوى النظام
الرأسماليّ الدوليّ ككل. فهل انتهتْ كلّ هذه الأسباب والعوامل المثيرة للصراع؟ هل
انتهى الصراع نفسه فعلاً من العالم؟ أوَّل مَنْ قال بفكرة انتهاء الصراع، في العصر
الحديث، كان ميخائيل غورباتشوف في سياق كتابه الترويجيّ لسياسة البريسترويكا
والغلاسنوست الذي صدر، كما أقدِّر، عام 1988. لقد قال آنذاك بأنَّ العصر الحاليّ
هو عصر تبادل المصالح وليس عصر الصراعات. الأمر الذي أثار في حينه من الأسئلة أكثر
ممَّا قدَّم من الإجابات؛ فهل يمكن للمصالح، فعليّاً، أنْ تتحاور وتتفاعل بدون أيّ
مستوى من الصراع ولو حتَّى بحدوده الدنيا؟ وهل انتهتْ الانقسامات والتفاوتات التي
كانت تؤدِّي تاريخيّاً إلى الصراع؟ وهل الصراع الذي كان دائراً في السابق كان
يستند فقط إلى سوء تقدير المتصارعين؟ ثمَّ بعد ذلك، ونحن ننظر حولنا الآن ونرى
النتائج التي ترتَّبتْ على ذلك التوجُّه؛ هل توقَّف الصراع فعلاً منذ ذاك أم أنَّه
ازداد ضراوة وبشاعة واتِّساعاً؟
بخلاف
تلك الأفكار التي حاول غورباتشوف أنْ يشيعها، كان سمير أمين قد تنبأ في وقت مبكِّر
بأنَّ المرحلة التالية ستكون مرحلة فوضى عالميَّة؛ تشتدُّ فيها الصراعات في مختلف
أنحاء العالم، ويزداد حجم ومستوى العنف والدمار والخراب والأوبئة والمجاعات
والأزمات، ويلحق بالبيئة وبالطبيعة خراب كبير، ويزداد التفاوت الطبقيّ حدَّة على
المستوى الكوني وعلى مستوى كلّ بلد على حدة. ولا أظنُّنا نحتاج هنا أنْ نجهد
أنفسنا لكي نقرِّر أيّ التنبؤين (تنبؤ غورباتشوف أم تنبؤ سمير أمين) هو الذي تطابق
الواقع اللاحق معه.
ومِنْ
ناحية أخرى، فالادِّعاء بتوقّف التاريخ نهائيّاً في محطَّة الليبراليَّة المتوحِّشة
يتجاهل حقيقة أنَّ الليبراليَّة المتوحِّشة، نفسها، سبق وأنْ جرَّبت حظوظها طويلاً،
خصوصاً خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وأنَّها في النهاية وصلتْ إلى طريقٍ مسدود وقادتْ العالم
إلى أزمات اقتصاديَّة واجتماعيَّة وسياسيَّة هائلة (أبرزها أزمة 1929) وإلى حروب
دوليَّة طاحنة وويلات ودمار، وانَّ فكرة الاشتراكيَّة وُلِدَتْ، أساساً، مِنْ رحم
ظلمها وجورها وكردّ عليها. وأنَّها (الليبراليَّة) اضطرَّتْ في النهاية للتنحِّي،
إلى حدٍّ ما، بهدف الحفاظ على النظام الاجتماعيّ الاقتصاديّ الذي تمثِّله؛ حيث
حلَّ محلّها في أوروبَّا الغربيَّة (بعد الحرب العالميَّة الثانية) ما أسماه سمير
أمين سياسات "التحالف الاشتراكيّ الديمقراطيّ"، القائمة على تحسين شروط
وأجور العمل، والتوسُّع في التأمينات الاجتماعيَّة، وتأميم قطاعات الخدمة العامَّة،
وإعطاء دور كبير للنقابات العماليَّة. أمَّا في الولايات المتَّحدة فقد كانت
الكنزيَّة هي الوسيلة البديلة التي اتُّبِعتْ لمعالجة مشاكل الليبراليَّة المتوحِّشة.
ومعروف أنَّ الكنزيَّة اعتمدتْ على تطبيق سياسات اقتصاديَّة اجتماعيَّة مشابهة كثيراُ،
في خطوطها الأساسيَّة، لتلك التي اُتُّبعتْ في أوروبَّا الغربيَّة، ولكن مع فارق أنَّها
لم تستند إلى قاعدة سياسيَّة اجتماعيَّة مشابهة لتلك التي اعتمد عليها تنفيذ سياسات
"التحالف الاشتراكيّ الديمقراطي" في أوروبَّا الغربيَّة.
وفي
ظلّ المنافسة التي كانت محتدمة مع الاتِّحاد السوفييتيّ وحلفائه، وأيضاً في ظلّ
مواجهة مدّ حركة الاستقلال في العالم الثالث، دعم الغرب أيضاً وشجَّع، في
ستينيَّات وسبعينيَّات القرن الماضي، تطبيق سياسات شبه كنزيَّة في بعض بلدان
العالم الثالث الموالية له.
وما
يجري الآن هو محاولة للعودة بالعالم كلّه إلى العهد القديم لليبراليَّة المتوحِّشة،
ولكن مع الادِّعاء بأنَّ هذا عهد جديد ونظام جديد وبأنَّ الأفكار المصاحبة له هي
أفكار جديدة ومبتكرة وأنَّها تتناسب مع روح العصر.. الخ؛ فهل يمكن الآن فعلاً إعادة
عقارب الزمن إلى القرن الثامن عشر وما قبله، برغم كلّ التطوُّرات التاريخيَّة
المهمَّة التي مرَّ بها المجتمع البشريّ منذ ذاك؟ هل يمكن تجاهل الوعي الذي تراكم
في مجال حقوق الإنسان في مختلف أنحاء العالم؟ هل يمكن القفز فوق المكاسب التي حصل
عليها البشر طوال تلك المدَّة؟ هل يمكن تجاوز ما تراكم من المعرفة العلميَّة
والخبرة الإنسانيَّة؟ وفي ظلّ هذه الظروف والتطوُّرات، هل يمكن لليبراليَّة
(خصوصاً وهي مطروحة الآن بنفس صيغتها القديمة) أنْ تحقِّق ما لم تتمكَّن مِنْ
تحقيقه في الماضي، وأنْ تتغلَّب على مشكلاتها التي لم تتمكَّن من التغلّب عليها في
الماضي؟
برأيي
أنَّ ما سيحدث، فيما إذا استمرَّ السير في هذا الطريق، هو تفاقم الانقسامات
الطبقيَّة على المستويات المحليَّة في كلّ بلد وعلى مستوى النظام الرأسماليّ
الدوليّ ككلّ، بصورة غير مسبوقة؛ الأمر الذي سيقود بالتالي إلى اشتداد حدَّة
الصراع الطبقي على نحوٍ غير مسبوق أيضاً. وسيتبع ذلك بالضرورة ظهور موجة جديدة من
الحركات والمشاريع الاجتماعيَّة والديمقراطيَّة البديلة.
لقد
استجابتْ أمم وشعوب العالم للتحوّلات الكبرى التي تتابعتْ خلال العقدين الماضيين،
كلٌّ منها بطريقته وبما ينسجم مع مصالحه وظروفه. واستطاع معظمها أنْ ينجح في هذا
الامتحان الصعب، بينما أخفق البعض الآخر وأصابه الدمار وتمزَّق أشلاءً. أمَّا نحن
في العالم العربيّ فقد لحق بنا نصيب كبير من الويلات والمصائب كما هو معروف، إلا
أنَّنا لا نزال مع الأسف نتلمَّس رأسنا مِنْ هول الصدمة وقوَّة الضربة التي
تلقّيناها، ولم ننتقل بعد إلى مستوى ردّ الفعل الإيجابيّ الملائم. في حين يحذِّر
سمير أمين مِنْ أنَّنا في الواقع ننخرط في عمليَّة انتحار تاريخيّ بلجوئنا حتَّى
الآن لردّ الفعل الماضويّ الذي لا يجيب على تحدِّيات العصر، وإنَّما يكرِّس الحالة
الطرفيَّة الهامشيَّة التي نعيش في إطارها والتي تريدنا المراكز الرأسماليَّة
الغربيَّة أنْ نبقى في إطارها. فالأيديولوجيا الماضويَّة بأشكالها المختلفة توفِّر
للحالة الطرفيَّة الهامشيَّة غطاءً قيميّاً محليّاً (حتَّى وإنْ كان زائفاً)،
وتساهم في تثبيت ردود الفعل الشعبيَّة على التحدِّيات عند المستوى السلبيّ
الارتكاسيّ، كما أنَّها تُعدُّ سلاحاً فعَّالاً في مواجهة المشاريع والطموحات النهضويَّة
التحرُّريَّة الحقيقيَّة. وعدا عن ذلك فهي تتيح للغرب أنْ يعتِّم على حقيقة
الاستقطاب الحادّ في النظام الرأسماليّ الدوليّ ما بين مراكز تنعم بالنصيب الأكبر
من السلطة والثروة والرفاهية وبين هوامش وأطرف تعاني من الفقر والاستغلال
والاضطهاد، ليتحدَّث بدلاً من ذلك عن الانقسام، وفق معادلة التخلّف والتقدّم، كما
لو كان حالة قدريَّة، لا علاقة لها بطبيعة النظام الرأسماليّ الدوليّ.
ونعود
الآن إلى ما كنَّا قد بدأنا الحديث به عن فوكوياما، لنسأل: ترى ما الذي قدَّمه
فوكوياما، حقيقة، على المستوى الفكريّ، بطرحه لمقولة نهاية التاريخ، عدا عن مناكفته
لماركس؟
كان
ماركس قد قال بأنَّ الشيوعيَّة هي نهاية التاريخ.
-
كلا، قال فوكوياما،
الليبراليَّة هي نهاية التاريخ.
وعُدَّ
هذا ـ بواسطة ماكينة الإعلام الأميركيَّة المهيمنة ـ فتحاً فكريّاً مهمّاً!
ثمَّ
نأتي إلى "النهاية" الأخرى التي شاع الحديث عنها في هذا العصر؛ أعني
"نهاية الأيديولوجيا". والملفت أنَّ مَنْ يقولون بنهاية الأيديولوجيا هم
أنفسهم مَنْ يتبنّون في العادة أيديولوجيَّات متزمِّتة؛ مثل "الليبراليَّة
الجديدة"؛ حيث تصل مفاهيم حريَّة السوق والخصخصة لدى أصحاب هذا الاتِّجاه إلى
مستوى العقيدة الدينيَّة التي لا تقبل التشكيك أو المناقشة. ويقف إلى جانب هؤلاء،
في القول بانتهاء الأيديولوجيا، أيضاً، بعض أصحاب العقائد الماضويَّة التي يجري
أصحابها، في المسائل الدنيويَّة "العصريَّة"، في مجرى الليبراليَّة
نفسه. وهذا أسلوب، برأيي، يفتقر إلى النزاهة في الخصومة؛ فلو كان هؤلاء يتَّسمون
بالقدر الكافي من النزاهة والشجاعة والصدقيَّة لما عابوا على خصومهم أنَّهم
ينطلقون مِنْ منطلقات أيديولوجيَّة "في زمنٍ انتهتْ فيه الأيديولوجيا"،
كما يزعمون، بينما هم أنفسهم ينطلقون للهجوم على هؤلاء الخصوم مِنْ منطلقات
أيديولوجيَّة أكثر تشدُّداً؛ ولكانوا، بدلاً مِنْ ذلك، بحثوا عن نقاط ضعف أخرى
حقيقيَّة لدى خصومهم، أو عن مظاهر أخرى للخلاف معهم، وهاجموهم فيها. إنَّهم في
الواقع يتستَّرون على أيديولوجيَّاتهم ثمَّ يقدِّمونها على أنَّها حقائق عابرة
للتاريخ وتسمو على الواقع، وما عدا ذلك فأيديولوجيَّات باطلة وبائدة.
وفي
هذا السياق، نفسه، ظهرتْ "الأفكار" التي تتحدَّث عن ثقافة بلا ناظم
أيديولوجيّ، ولو حتَّى خفيّ، وعن أدب يخلو تماماً وبكلّ الصور من التأثيرات
الأيديولوجيَّة. بل وأكثر مِنْ ذلك (وهذه مفارقة كبرى)، عن أحزاب منزوعة
الأيديولوجيا (دايت)!
فهل
يمكن حقّاً الحديث عن ثقافة بذاتها ولذاتها؟ ثقافة غير منحازة وغير مرتبطة بواقع
معيَّن ولا تخدم مصالح معيَّنة ولا تسترشد بمنظومة فكريَّة معيَّنة؟ ما الغرض منها
إذاً.. خصوصاً وأنَّ منتجاتها ستكون في مثل هذه الحالة أشبه بآثار رجل يتخبَّط في الظلام؟
وبالنسبة
للأدب، فهل يمكن النظر إليه بوصفه معادلات رياضيَّة محايدة؟ (حتَّى المعادلات
الرياضيَّة لا معنى لها إذا هي لم ترتبط بما يعادلها في الواقع، أو إذا هي لم تعبِّر
عن قيم حقيقيَّة ملموسة). هل يمكن أنْ يكون الأدب حرفة مجرَّدة من المصالح
والأهواء وما يرتبط بهذه وتلك من اتِّجاهات وتصوُّرات وأفكار؟ لماذا يكتب الكاتب
وينشر ما يكتب إذا كان لا يريد أنْ يقول شيئاً للآخرين أو إذا كان لا يريد أنْ
يوصل رسالة ما لهم؟ وإذا ما أراد أنْ يقول شيئاً فهل يمكن أنْ يكون قوله منزَّهاً
عن الغرض؟ وإذا ما كان قوله يعبِّر عن غرض معيَّن، فهل يمكن أنْ يكون غرضه
منزَّهاً عن المصالح الطبقيَّة أو الفئويَّة أو الشخصيَّة؟ وبالنسبة لهذه المصالح،
فهل يمكن للإنسان أنْ ينظر إليها وإلى إمكانيَّة تحقُّقها بدون الاستناد إلى منظومة
من الأفكار والقيم والتصوُّرات التي تعرِّف حقوقه وحقوق الآخرين وتنظِّم العلاقة
بينه وبينهم وتوضِّح سمات وطبيعة النظام الاجتماعيّ الاقتصاديّ السياسيّ الملائم
كحاضنة لهذه العلاقات والمصالح؟
أمَّا
الأكثر غرابة، حقّاً، فهو أنْ يكون حزبٌ ما بدون أيديولوجيا! والاكتشاف العبقريّ لأصحاب
هذه الفكرة يصوِّر هذا الحزب بأنَّه حزب "برامجيّ" فقط! ولكن هل يوجد
حزب جديّ، أصلاً، بدون برنامج؟ ثمَّ كيف يختار هذا الحزب "البرامجيّ" برنامجه؟
ولماذا يركِّز فيه على موضوعات معيَّنة دون سواها؟ وإلى ماذا يستند عند تحديده
الأسلوب الذي ينوي استخدامه لتحقيق هذا البرنامج؟ ولماذا يختار حلّ المشاكل
المطروحة بهذا الطريقة وليس بسواها من الطرق؟ وما هي المصالح التي يريد تحقيقها
مِنْ خلال برنامجه ذاك؟ وما هي الفئات أو الطبقات أو الشرائح التي ستستفيد بذلك؟
في
الواقع إنَّ مَنْ يطرح مثل هذه الفكرة المتهافتة ينطلق بالأساس مِنْ توهُّمه بأنَّ
الآخرين على درجة كبيرة من الغفلة، وأنَّه بهذا الأسلوب الملتوي يستطيع أنْ يوهم أوسع
نطاق من الفئات والشرائح والطبقات باستعداده للعمل مِنْ أجل مصلحتها جميعاً، رغم
ما بين مصالحها من اختلافات وتناقضات. إنَّه بالنهاية هو نفسه الغافل لأنَّه يعتقد
أنَّ الإيهام باللاموقف واللاهويَّة واللاشخصيَّة يمكن أنْ يحلّ محلّ الموقف
ويؤدِّي إلى الانتشار الواسع والجماهيريَّة، لصاحبه. وهذا في النهاية نوع معلن، من
النفاق، واضح، ومكشوف، إلا أنَّ صاحبه يعتقد مع ذلك أنَّه غير مكشوف وأنَّه أكثر
ذكاءً من الناس جميعاً؛ يستطيع خداعهم بسهولة ويبيعهم بضاعته الرخيصة بأعلى
الأثمان ويقنعهم بعد ذلك بأنَّهم هم الرابحون. إنَّها ممارسة "فكريَّة"
"سياسيَّة" مِنْ مستوىً بالغ التدنِّي.
نأتي
بعد ذلك إلى الزعم بانتهاء دور المثقَّف العضويّ؛ وأصحاب هذه الفكرة يستندون في
فكرتهم، بالأساس، صراحة أو ضمناً، إلى مزاعم انتهاء زمن الأيديولوجيا وانتهاء
الصراع وانتهاء التناقضات والانقسامات
الاجتماعيَّة والفكريَّة وانتهاء القضايا والطموحات الوطنيَّة والإنسانيَّة. وقد
أوضحنا في السطور السابقة حقيقة تهافت هذه المزاعم، ولا نريد أنْ نكرِّر ذلك هنا
أيضاً. والخلاصة هي أنَّه لا يزال هناك دور حقيقيّ، وكبير، مرصود للمثقَّف العضويّ
لكي يقوم بصياغة المعادلة الصحيحة للخروج مِنْ المأزق العامّ الذي نعيشه. ولا أذكر
ما إذا كان بريخت، أم سواه، هو مَنْ قال: ما أتعس الشعب الذي يحتاج إلى أبطال!
بيد
أنَّ هذا ينطبق الآن على استمرار الحاجة إلى دور المثقَّف العضويّ.
أمَّا
الزعم المتعلِّق بنهاية زمن دولة الرعاية الاجتماعيَّة، فالردّ عليه يأتي، مِنْ
جهة، مِنْ تردِّي الأوضاع الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والصحيَّة والثقافيَّة
والبيئيَّة.. الخ، في مختلف أنحاء العالم؛ ويأتي، مِنْ جهة أخرى، مِنْ خلال تجارب
دولة الرعاية الاجتماعيَّة الجديدة التي تنهض الآن بصورة ديمقراطيَّة حقيقيَّة في
أميركا اللاتينيَّة وتحقِّق نجاحات ملفتة على صعيد تحسين حياة الناس وعلى صعيد إشراكهم
في تحمُّل المسؤوليَّة السياسيَّة، وهو اتِّجاه يتعاكس على طول الخط مع اتِّجاه مسيرة
الليبراليَّة الجديدة ومفاهيمها ومنطلقاتها وبرامجها ونتائجها، كما أنَّه يبعث
الحياة مِنْ جديد في أوصال مطلب الاستقلال الوطنيّ الحقيقيّ الذي يتطلَّب أيضاً أعلى
مستوى من التقارب وتوثيق العلاقات وتبادل المصالح والتعاون العادل والمتساوي بين
الدول والشعوب المختلفة، وخصوصاً في الأطراف.
وإذاً،
ففي ظلّ استمرار الحديث عن تلك النهايات المزيَّفة، والمأمولة مِنْ قبل القائلين
بها، ينفتح الباب واسعاً الآن أمام بدايات حقيقيَّة.. إنسانيَّة ديمقراطيَّة اجتماعيَّة
جديدة. وهذه هي ما يحاول الآن "أصحاب النهايات الحاسمة ومحبّوها" أنْ
يشكِّكوا بها ويقلِّلوا مِنْ شأنها.