رغم
اشتهارها بنزعتها العلميَّة الصارمة، ورغم كثرة المعادلات الجبريَّة والمفاهيم
الاقتصاديَّة المتخصِّصة في العديد مِنْ أعمالها، فقد كانت روزا لكسمبورغ شديدة
الحساسيَّة تجاه جماليَّات أسلوبها ولغتها في الكتابة. بل إنَّها حدَّدتْ مقاييس
جماليَّة واضحة لكتابتها، وللكتابة العلميَّة عموماً، وللفن أيضاً؛ ففي إحدى
رسائلها من السجن إلى حبيبها هانز ديفانباخ، وفي سياق حديثها عن كتابها
"تراكم رأس المال.. نقد النقد" الذي ردَّتْ فيه على بعض منتقدي كتابها
"تراكم رأس المال"، تقول: "والحقّ أنِّي أفخر بهذا العمل، وأعتقد
جازمة أنَّه لن يندثر بموتي. إنَّه أكثر نضجاً من التراكم نفسه. الشكل مبسَّط
تبسيطاً مطلقاً ومجرَّد مِنْ كلِّ زخرفة، بلا أدنى تأنُّق أو إضافات تزيينيَّة،
مختصر إلى خطوطه الرئيسة، أستطيع القول، عارياً ككتلة من الرخام. إنَّ ذوقي الآن
يتَّخذ هذه الوجهة. بتُّ أثمِّن في الجهد العلميّ، كما في الفنّ، البساطة والهدوء
وعظمة المضمون".
إنَّها
مثل أيّ أديب صنع نصّاً جميلاً ويدرك في داخله حقيقة جمال نصّه، فيشعر بالسعادة
لهذا الانجاز ويعبِّر عن ذلك لأقرب الناس إليه. بل إنِّها لا تكتفي بذلك؛ إنَّما
تتيه فرحاً وفخراً بإنجازها "الفنيّ" والفكريّ، إذ تقول: "وبالطبع،
فإنَّ القارئ حتَّى يتمكَّن مِنْ تقييم "نقد النقد" تقييماً علميّاً،
يجب أنْ يلمّ بعمق بالاقتصاد السياسيّ بشكلٍ عامّ، والاقتصاد الماركسيّ بشكلٍ
خاصّ. كم من البشر الآن يمكنهم ذلك؟ ولا حتَّى نصف دزّينة! إنَّ أعمالي، بهذا المعنى،
منتجات فاخرة يمكن طباعتها على ورق صقيل. ولكن على الأقلّ، إنَّك ستفهم الكتاب
بالإجمال، فإنَّ "مهرنغ" كان يمتدح فيه، على الخصوص، (الوضوح البلوريّ
وشفافيَّة العرض)".
ثمَّ
تداعب ديفانباخ قائلةً: "اقرأه إذاً، وأعطِ تقييم "القارئ
المتوسِّط" الخارج مِنْ صفوف الشعب. أمَّا عن حكمك على الناحية الجماليَّة
للنصّ، فإنَّ له عندي القيمة الأكبر. ولكنِّي أرغب أيضاً في معرفة ما ستستوعب منه،
فجهِّز نفسك للعمل إذاً "انهض يا ولد"، وإذا استحال عليك ذلك، فاقرأه
ممدّداً، ولكن اقرأه على كلّ حال، واكتب لي انطباعك. على كلٍّ، لن تضرّك العودة
لدراسة الاقتصاد السياسيّ".
وهذا
الروح الأدبيّ (أو الفنيّ) الواضح، لديها، لا يتوقَّف عند نظرها إلى جماليَّات
أسلوبها في الكتابة، بل يتجاوز ذلك إلى نظرها للحياة وتعاملها معها، وللحبّ،
وللأشياء والكائنات مِنْ حولها، وللسجن، وللتفاصيل المحيطة بها، وحتَّى للسياسة
والكفاح.. الخ.
ففي
ما يتعلَّق بنظرها للحياة، كتبت ذات مرَّة لإحدى صديقاتها تصف المعاناة الشديدة
لبعض صديقاتهما المشتركات، في محاولة منها لتشجيع تلك الصديقة على التغلّب على
مشاكلها، ثمَّ ختمتْ رسالتها قائلةً: ".... لا أقول لكِ هذا لأحمل إليكِ
العزاء التافه بأنَّ آخرين يشاطرونكِ حزنكِ، أعرف أنَّه بالنسبة لكلّ إنسان، لكلّ
كائن حيّ، فإنَّ حياته هي الثروة الوحيدة التي يملكها، إنَّ نهاية العالم تحلّ،
لدى كلّ ذبابة صغيرة نسحقها دون انتباه. ففي العيون المنطفئة لهذه الذبابة، يبدو
موتها وكأنَّه انتهاءٌ لكلّ شكلٍ آخر من الحياة. كلا، أحدِّثكِ عن سائر النساء
حتَّى لا تقلِّلي مِنْ شأن ألمك، حتَّى لا تحتقريه، حتَّى لا تسيئي فهم نفسك
وتشوِّهي صورتها في نظركِ". ومِنْ ناحية أخرى، فقد كانت الحياة تبدو لروزا
لكسمبورغ، "رغم كلِّ شيء، قصَّةً حلوة".
وهذه،
بوجهٍ عامّ، نظرة الأديب (أو الفنَّان) للحياة وليست نظرة السياسي.
أمَّا
عن رؤيتها للحبّ، فقد كتبتْ لإحدى صديقاتها، أيضاً: "بالنسبة لي، كان الحبّ
على الدوام (ولا يزال؟..) أكثر أهميَّة وأكثر قدسيَّة من الموضوع الذي يحرِّكه.
لأنَّه يمنحنا القدرة على رؤية العالم وكأنَّه مِنْ قصص الجنيَّات المتألِّقة.
لأنَّه يخرج من النفس البشريَّة أجمل وأنبل ما فيها، لأنَّه يعملق الأشياء الأكثر
تواضعاً وعاديَّة، ويرصفها بالجواهر، ولأنَّه يسمح بالعيش في السكر والنشوة".
ومِنْ
خلال سردها لواقعة حدثتْ معها عام 1910، تلقي مزيداً من الضوء على موقفها من الحبّ
(ومن الأدب أيضاً)؛ إذ كانت قد قدَّمت، في المدرسة الحزبيَّة، بحثاً عن تولستوي
بمناسبة عيد ميلاده الثمانين، وفي اليوم التالي التقت صدفة، في المدرسة الحزبيَّة،
أيضاً، بأحد رفاقها الألمان "كورن"، وسألته ما إذا كان سينشر شيئاً في
"الأربايتر يوغند" عن تولستوي. قال: "كلا، لا أحبّ هذه المقالات
الاحتفاليّة والتذكاريَّة". فقالت له: "إنَّها ليست مقالات تذكاريَّة
ولكن ببساطة من الواجب تقديم تولستوي للشبيبة". وعندئذٍ، قال
"كورن": "هذا بالضبط ما لا يناسب". ثمَّ أضاف موضِّحاً سبب
اعتراضه على تولستوي: "لا يمكننا توصية الشبيبة بقراءة "أنَّا
كرنينا"؛ لأنَّ فيها الكثير من الكلام عن الحبّ". وهنا صاحت به روزا
غاضبة وهي تقول: "إنَّ مثل هذه الآراء قد لا تدهشني إنْ هي صدرتْ عن
متوحِّشين وليس عن أشخاص يعتبرون أنفسهم اختصاصيّين في الثقافة والفنّ". أجابها
ببرود وبلغة قاطعة: "تولستوي لا علاقة له بالثقافة والفنّ". وتقول روزا
معلِّقةً على هذا الموقف الغريب: "كيف لا أنفجر في هذه الحالة حينما أرى هذا
القناع من الخشب الأحمر وهذا المعطف الضخم على قامة قصيرة تشبه مِنْ فرط ثقلها
المبولة العامَّة في الشارع؟ أيّ قبيلة متوحِّشين ملعونة، ورثة الفلسفة
الكلاسيكيّة هؤلاء؟!".
وهذا
الروح الأدبيّ الفنيّ، نفسه، هو ما كان يجعلها تتمكَّن مِنْ رؤية يومٍ
جميلٍ في السجن: "مرَّ علينا هنا، اليوم أيضاً، نهارٌ جماله لا يُعْقَل ولا
يوصف (....) كانت غيوم هائلة، خارقة الأشكال، موضوعة في كلّ مكان على الأزرق
الصافي، وكنتَ ترى التماع السماء عند محيطها المخرَّم. وكان ضوء الشمس كأنَّه
حاشية تحلِّيها مِنْ كلّ الجوانب. كانت ناصعة البياض ولكنَّها في الوسط، كانت
تتلوَّن بلون رماديّ يتدرَّج من الفضيّ الشفَّاف إلى اللون الرماديّ. إنَّ فيه نبل
وهيبة ما وكثير من الإمكانات. ولكم هذه التلوينات الرماديَّة جميلة حينما تبرز على
الخلفيَّة الزرقاء الصافية للسماء. تماماً كما يلائم ثوبٌ رماديٌّ عيوناً زرقاء
غامقة. في الوقت نفسه كانت شجرة الحور الكبيرة في حديقتي تصدر حفيفاً، كانت
أوراقها ترتجف كما في رعشةٍ لذيذة وتلتمع في الشمس".
ولكن
مهلاً، ثمَّة أمرٌ واحد كان ينغِّص عليها هذه البهجة؛ هو أنَّها كانت تنعم لوحدها
بكلّ هذا الجمال. لذلك، تلتفتْ إلى الناس، قائلةً: "أودّ لو أصرخ بأعلى صوتي
مِنْ فوق الحائط: "آه أرجوكم، تأمَّلوا هذا النهار الجميل. لا تنسوا، وإنْ
كنتم مشغولين جدّاً، وإنْ كنتم لا تجتازون هذه الباحة إلا وانتم في عجلة مِنْ
عملكم اليوميّ، لا تنسوا أنْ ترفعوا رؤوسكم بسرعة وأنْ تلقوا ولو نظرة على هذه
الغيوم الفضيَّة الهائلة وعلى المحيط الأزرق الهادئ الذي تسبح فيه.
تأمَّلوا، إذاً، الهواء المفعم بالنفس الحارّ لآخر أوراق الزيزفون، والإشراق
والروعة التي تضيء هذا النهار؛ لأنَّ هذا النهار لن يعود أبداً. أبداً. إنَّه مهدى
لكم كما زهرة في أوج تفتّحها، ملقاة عند أقدامكم تنتظر أنْ تلتقطوها وتعتصروها على
شفاهكم".
وهي
تنتبه للتفاصيل، وللكائنات، مِنْ حولها بروح الأديب (أو الفنَّان)، وتتعامل معها
كما لو كانت بشراً، وتقيم معها أوثق الصلات؛ في حين أنَّها في مجمل رسائلها من
السجن (إلى ديفانباخ) لا تأتي بأيّ شيء عن أيّ سجين، أو عن طبيعة حياة السجناء
الآخرين، أو حتَّى عن السجَّانين، إنَّها تبدو كما لو كانت تعيش في وحدة تامَّة
على هذا الصعيد، باستثناء بعض الإشارات، أحياناً، إلى ما يتركه الآخرون، الذين
يُفترض أنَّهم موجودون في السجن، مِنْ أثر في أثناء ممارستهم لحياتهم اليوميَّة
كسجناء أو كسجَّانين. وإليكم هذا التفصيل الغريب الذي التقطته عينا روزا هناك:
"في الباحة شريطان ضيِّقان من العشب الضامر بسبب الدوس الدائم للمساجين
فوقهما أثناء نشرهم وجمعهم للغسيل. لذا، لا تجدهما في أحسن حال. ورغم ضمورهما، فقد
تعرَّفتُ على كافة الأنواع النابتة فيهما؛ هناك بعض "أخليات ذوات الألف
ورقة" القزمة التي بدأتْ بالتبرعم، ودزّينة مِنْ نبات "أذن الفأر"
(لا شكَّ أنَّك تعرفها دون أنْ تعرف اسمها العلميّ. إنَّها تشبه الهندباء البريَّة
ولكنَّها أصغر قليلاً) تطلّ برؤوسها الصغيرة الصفراء المشعَّة، تحطّ عليها بعض
الحشرات التي تطير بالآلاف... وهناك أيضاً بعض الحمامات كما في كلّ باحات السجون.
إنَّها من الجوار ولكنَّها تتصرَّف وكأنَّها في دارها؛ تتنزَّه بكلّ جسارة في
الناحية التي يفرغ فيها العسكريّون أكياس القمح. فلا بدَّ أنْ تسقط حبَّة قمح هنا
أو هناك. عدا ذلك، تجوب بعض عصافير الدوريّ الناحية، بصمت".
وتتحدَّث
في رسائلها إلى ديفانباخ كثيراً عن العصافير، واليعاسيب، والفراشات، والنباتات،
والأصوات المبهمة الرتيبة الخارجة ليلاً من المساكن القريبة، وكذلك عن المترو
"المارّ باستمرار هازّاً الزنزانة بعنف، ملقياً أضواء حمراء على الزجاج
المرتجف" للزنزانة التي لم تكن مضاءة.. الخ.
وأقتطف
هنا بعض ما كتبته عن أحد العصافير التي كانت تزور "حديقتها" في السجن،
أو تحطّ على نافذة "بيتها" هناك: "هذا العصفور طائر غريب غرابة
فريدة. إنَّه لا يغنِّي أغنية أو لحناً ما مثل سائر العصافير، ولكنَّه خطيب شعبيّ
بالفطرة. إنَّه يلقي على الحدائق محاضرات، بصوت قويّ ممزوج بحماس دراماتيكيّ. وهو يستعمل
عبارات انتقال فجائيَّة، وتصعيد موسيقيّ حزين، إنَّه يطرح الأسئلة الأكثر غرابة
ويسارع إلى الإجابة عليها بأجوبة عجيبة وهو يعلن التأكيدات الأكثر جرأة ويناقض
بحماس أقوالاً لم يعلنها أحد. يقتحم أبواباً مفتوحة، ثمَّ يصرخ فجأة "ألم
أقلها؟ ألم أقلها؟" وفجأة بعد ذلك ينذر كلّ مَنْ يريد أو لا يريد أن يسمع
"سترون، سترون" (وإنَّ عنده العادة الذكيَّة بأنْ يكرِّر كلمات مزاحه
مرَّتين). وهو لا يتوانى في هذه الأثناء عن السقسقة مثل فأر انحشر ذيله أو ينفجر
ضاحكاً ضحكة يريدها جهنَّميَّة ولكنَّها تترك أثراً هزليّاً إذ تصدر عن هذه
الحنجرة المتناهية الصغر. باختصار إنَّه لا يملّ مِنْ ملئ الحديقة بضجيج الحماقات
الأكثر زهوّاً. وفي الصمت الذي يخيِّم أثناء محاضرته، يتراءى لك أنَّ سائر
العصافير تتبادل النظرات وتهزّ الأكتاف. وحدي أمتنع عن هذه الحركة، ولكنِّي كلَّما
سمعته، صحتُ ضاحكة "أيُّها الحكواتي اللطيف".
(....)
اليوم عاد، بعد أسابيع صمتٍ عديدة، إلى إثارة نفس الضجيج، واقفاً على شجرة البندق
الصغيرة المقابلة لنافذتي. وحينما وجَّهت له تحيَّتي المعتادة "أيُّها
الحكواتي اللطيف"، أجابني صارخاً، بوقاحة، بما يمكن ترجمته على الشكل التالي
"أنتِ المجنونة". ووافقته على صحَّة رأيه وانفجرتُ ضاحكةً ممتنَّة،
وأحسستُ بالشفاء فجأة من الخبث والحزن والمرض".
وممَّا
يلقي مزيداً من الضوء على رهافة حسّها وعمق علاقتها بهذه الكائنات، التي تواظب على
زيارتها في السجن، أنَّها كتبتْ في إحدى رسائلها: "حين تنزلق نحلةٌ في
محبرتي، أغسلها ثلاث مرَّات بالماء الفاتر وأنشِّفها على شرفتي في الشمس لأعيد لها
شيئاً من الحياة".
ولكن
ما دامت بهذه الدقَّة من الملاحظة والانتباه لكلّ الأشياء والكائنات، فلماذا
تجاهلتْ، إذاً، وجود البشر الآخرين مِنْ حولها في السجن؟
إنَّنا
نلاحظ هنا أنَّ موقفها السلبيّ هذا لا ينطبق على جميع البشر، بل على الموجودين
منهم في السجن فقط؛ إذ كثيراً ما تحدَّثتْ في رسائلها عن أصدقائها، ورفاقها،
ومعارفها، وعن بعض جيرانها (خارج السجن)، وعن بعض النماذج الإنسانيَّة في الشارع
الذي تسكنه، بل، أحياناً، عن أشخاصٍ لا تعرف أسماءهم، ولا تعرف شيئاً عنهم، ولا
صلة لها بهم سوى أنَّها كانت قد قابلتهم، أو لمحتهم، أو لاحظتْ وجودهم في مكانٍ ما
ذات يوم. وأكثر مِنْ ذلك فهي تتحدَّث، مراراً، عن بعض النماذج الإنسانيَّة الملفتة
التي كانت تتخيَّل وجودها في المنازل القريبة من السجن.. الخ. وبتقديري، فهذا يشير
إلى تعلُّقها بالحياة الطبيعيَّة الحرَّة خارج السجن، ورفضها التكيُّف مع قيود
السجن والاندماج بصورة عاديَّة في حياته. لقد اختارت، بدلاً مِنْ ذلك، أنْ تتعامل
مع السجن باعتباره بيتاً آخر لها، عدا ذاك الذي كانت تسكنه بصورة معتادة في شارع
سودانت في برلين. وإذا نظرنا للأمر مِنْ هذه الزاوية فسنفهم سبب تسميتها الغريبة
لزنزانتها في السجن "بيتي" أو "غرفتي"، ولحديقة السجن
"حديقتي".. الخ، ونفهم أيضاً سبب تجنُّبها الإشارة إلى السجناء الآخرين
والسجَّانين في رسائلها؛ فهي لو سمحتْ بوجود هؤلاء في دائرة الوهم المريح التي
هيَّأتها لنفسها، فإنَّهم كانوا سيفسدونها.. ويعود بيتها الموهوم، عندئذٍ، إلى
حقيقته؛ ليصبح سجنها.
وبنفس
هذا الروح الأدبيّ والفنيّ، تعاملت هذه المرأة، القويَّة الصارمة في الظاهر، مع
السياسة والكفاح والمبادئ؛ إذ أنَّها حلَّلتْ الواقع الأوروبيّ السيئ الذي كان
يحيط بها، وبنتْ في ذهنها صورة جميلة للعالم البديل الذي كانت تنشده والذي ينسجم
مع قيمها وتصوُّراتها للعدالة والخير، ومع مبادئها الإنسانيَّة، ورفضتْ بحزم كلَّ
ما لا ينسجم مع هذه الصورة. ومِنْ ذلك أنَّها، على سبيل المثال، تبنَّت رأياً في
المسألة القوميَّة يختلف تماماً عن رأي كلٍّ مِنْ ماركس وأنجلز ولينين؛ ولكي
أوضِّح وجه الخلاف، هنا، أشير إلى موقف كلٍّ منهم مِنْ واقعة محدَّدة تتَّصل بهذه
المسألة؛ ألا وهي "القضيَّة البولنديَّة"؛ إذ أيَّد كلٌّ مِنْ ماركس
وأنجلز بحماس مطالب البولنديّين بالانفصال عن روسيا القيصريَّة، وكانا يريان أنَّ
روسيا القيصريَّة هي قاعدة الثورة المضادَّة في أوروبّا كلّها. ورفض لينين الحديث
عن القوميَّة بعموميَّة وبصورة مجرَّدة، مؤكِّداً، بدلاً مِنْ ذلك، على ضرورة
التفريق بين قوميَّة الأمَّة الظالمة وقوميَّة الأمَّة المظلومة، بين قوميَّة
الأمَّة العظمى وقوميَّة الأمَّة الصغيرة. في حين عارضتْ روزا (وهي البولنديَّة
الأصل) فكرة انفصال بولندا عن روسيا القيصريَّة، انطلاقاً مِنْ تغليبها المطلق
لفكرة الأمميَّة البروليتاريَّة، ورأتْ بأنَّ الانفصال يضرّ بكفاح العمَّال البولنديّين
والروس، معاً، مِنْ أجل الاشتراكيَّة، وأنَّه في حال انتصار قضيَّة الاشتراكيَّة،
فما الداعي، عندئذٍ، لانفصال البلدين كلٍّ منهما عن الآخر.
وفي
السياق نفسه، عندما اندلعتْ الحرب العالميَّة الأولى، عارضتها بقوَّة ودفعتْ ثمن
ذلك غالياً. وفي البداية كانت تكاد تكون وحيدة بين رفاقها في موقفها هذا؛ إذ
أيَّدت قيادة الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ الألمانيّ وكتلته البرلمانيَّة
الكبيرة، آنذاك، قرار الحرب، وظلَّ الأمر على هذا النحو لأشهر بعد ذلك، ثمَّ بدأ
الموقف المؤيِّد للحرب يتفكَّك، وبدأ بعض المناصرين السابقين له يميلون إلى تأييد
موقف روزا.
وعندما
اندلعتْ ثورة تشرين الأول (أكتوبر) 1917 السوفييتيَّة، ودعا لينين الطبقة
العاملة في أوروبّا للثورة على الأنظمة البورجوازيَّة، اندلعتْ في ألمانيا انتفاضة
كبرى، قادها حزب سبارتاغوس الذي كان قد قام بتأسيسه، قبل فترة قصيرة، روزا
لكسمبورغ، نفسها، وكارل ليبينيخت. وأخرجتْ الانتفاضة روزا من السجن، لتقف على شرفة
القصر الإمبراطوريّ الألمانيّ إلى جانب ليبينيخت ويعلنان معاً قيام الجمهوريَّة
الاشتراكيَّة الألمانيَّة. إلا أنَّ الانتفاضة ما لبثتْ أنْ هُزِمتْ ودفع قائداها
حياتيهما ثمناً لموقفهما ذاك، كما ضحَّى معهم، بأرواحهم، ألوف العمَّال الألمان.
وكلّ ذلك بينما كانت روزا مشهورة بمساجلاتها وخلافاتها في العديد من المسائل مع
لينين.
وبعد،
فإذا كنتُ قد تحدَّثتُ عن بعض الملامح لما أسميته الروح الأدبيّ والفنيّ لدى روزا
لكسمبورغ، فلم يكن ذلك في باب التقليل مِنْ أهليَّتها الفكريَّة والكفاحيَّة، كما
هو معتاد بالنسبة للتصوُّر النمطيّ السائد. ففي رأيي أنَّ كبار المفكِّرين
والمكافحين في التاريخ كانوا يتميَّزون بهذه الخاصيَّة بصورة أو أخرى، وبمقدار أو
آخر. كما أنَّه من المعروف أنَّ لينين قد تحدَّث عن أهميَّة الحلم بالنسبة للثوريّ
الحقيقيّ. إذ بدون حلم وبدون خيال يكون النشاط السياسيّ نوعاً من الممارسة
الميكانيكيَّة لمهمَّاتٍ يوميَّة بلا أفق. ويكون الفكر تسجيلاً قاصراً للوقائع
اليوميَّة المفصولة عن آفاقها المستقبليَّة المحتملة. لذلك، فالذين صنعوا التاريخ
كانوا دائماً أشخاصاً حالمين ويتمتَّعون بخيال واسع (وهاتان خاصيَّتان تنتميان،
أيضاً، للأدب والفن). ثمَّ يأتي، بعد ذلك، دور الأشخاص "الواقعيّين"؛
أي، في الواقع، الأشخاص الذين لا أحلام لهم ولا خيال، ليديروا دفَّة "الحياة
اليوميَّة"، وليقودوها في كثير من الأحيان إلى نهاياتٍ كارثيَّة.