سعود قبيلات ▣
يبشِّرنا رئيس الحكومة الجديدة، الدكتور فايز الطروانة،
قبل انتهائه مِنْ تشكيل حكومته، بأنَّ أولى أولويَّاته هي تطبيق وصفة الليبراليين الجدد
المتمثِّلة برفع الدعم عن السلع والموادّ الأساسيَّة (الخبز خصوصاً)، كما لو كانت هي
الوصفة الوحيدة والسحريَّة لإصلاح الأحوال الاقتصاديَّة المتردّية؛ وبأنَّه لو عاد
به الزمان إلى الوراء، لعاد وشارك في صناعة اتِّفاقيَّة وادي عربة مِنْ جديد!
كما قلنا في مقالٍ سابق عن التغيير الحكوميّ الأخير،
فإنَّ أسماء رؤساء الحكومات ووزرائها، في بلادنا، هي وحدها التي تتغيَّر؛ أمَّا السياسات
والمناهج فهي نفسها منذ توقيع اتِّفاقيَّة وادي عربة. ومِنْ هنا نفهم هذا التلازم في
كلام رئيس الوزراء الجديد بين تأكيد إتِّباعه السياسات الاقتصاديَّة الليبراليَّة
الجائرة وبين إبدائه الاستعداد لتكرار وادي عربة مرَّةً أخرى.
لقد ترافقت سياسة التفريط بالحقوق الأردنيَّة الأساسيَّة
عن طريق وادي عربة مع سياسة تفكيك الدولة وبيع مواردها ومؤسَّساتها الاقتصاديَّة
الأساسيَّة وتحميل الفقراء ومحدودي الدخل كلفة هذه السياسة عن طريق إطلاق العنان لآليَّات
السوق واتِّخاذ سياسات ضريبيَّة مخالفة للدستور؛ تحابي الأثرياء وتجور على الفقراء
وذوي الدخل المحدود. وهذا، كلّه، شكَّل أرضاً خصبة للفساد الفاحش الذي تعاني منه
البلاد الآن.
وبالنتيجة، كرَّستْ معاهدة وادي عربة، تفريط المفاوض
الأردنيّ بمعظم الحقوق الوطنيَّة في المياه؛ والقسم الذي اُستُعيدَ منها، تمَّ وضعه
تحت رحمة "إسرائيل" وتحكّمها. وقد بلغ بها اللؤم حدَّ أنْ تعطينا، في
بعض السنوات، مياه المجاري المستخلصة من مستوطناتها، بدلاً من المياه النظيفة التي
يُفترض أنَّها وديعة لنا عندها. كما تنازلت المعاهدة عن الأراضي الأردنيَّة
المحتلَّة؛ وما أعيد منها، أعيد بالاسم فقط، وظلَّ فعليّاً في حوزة
"إسرائيل" تحت مسمَّى التأجير. وتنازلت المعاهدة، كذلك، عن الحقّ
الأردنيّ في عودة اللاجئين إلى أراضيهم السليبة.. كما تنصّ القرارات الدوليَّة؛ بل
إنَّها أهملت تماماً الأسرى الأردنيين في سجون العدوّ.. بخلاف كلّ الاتِّفاقيَّات
المماثلة التي تُعقد بين طرفين متعاديين. وفي المقابل، دقَّتْ "إسرائيل"
سفارةً لها في عمَّان لم يتورَّع طاقمها عن ممارسة الإرهاب العمليّ المباشر على
الأرض الأردنيَّة (كما في محاولة اغتيال مشعل).
الزمن لا يعود إلى الوراء؛ فما الذي يريد تكراره، إذاً،
الدكتور الطراونة لو عاد الآن إلى التفاوض مع الأعداء؟ ليس سرّاً أنَّ بلادنا
تتعرَّض لضغوط أميركيَّة و"إسرائيليَّة" (وعربيَّة، أيضاً) لإجبارها على
السير في مخطَّط تصفية القضيَّة الفلسطينيَّة على الأرض الأردنيَّة؛ ما يعني ضياع
الأردن وفلسطين معاً؛ فكيف يمكن أنْ يترجم الدكتور الطراونة حديثه عن نموذج وادي
عربة في الظروف الخطيرة الماثلة الآن؟ وكيف يمكن للأردنيين أنْ يطمئنّوا على
حقوقهم وعلى مصير بلدهم في ظلّ مثل هذا الكلام؟
على أيَّة حال، مثل هذا الكلام المعاكس للتيّار الشعبيّ
العامّ، والذي يتجاهل التحوّلات التاريخيَّة في بلدنا وحولنا، ويتذرَّع بعدم السعي
لكسب الشعبيَّة، سبق أنْ قاله رئيس وزراء آخر قبل أقلّ مِنْ عامين؛ ومع أنَّه بدا -
آنذاك - واثقاً جدّاً بما يفعل ويقول، وحصل على ثقة غير مسبوقة مِنْ مجلس النوّاب،
إلا أنَّ هذا لم يكفل لحكومته البقاء الطويل. يكفي أنْ نقول إنَّ الحكومة الحاليَّة
هي الرابعة بعد تلك التي جاهر رئيسها بعدم اهتمامه بكسب الشعبيَّة؛ أي عدم اهتمامه
برأي الشعب.
ما يقلق، الآن، في هذا التوجّه، لدى الدكتور الطروانة،
هو أنَّ الأوضاع في البلاد والمنطقة لا
تحتمل أيَّ سياسات تتصادم مع رأي الأغلبيَّة الشعبيَّة وتهدِّد حقوقها ومصالحها.
فثمَّة قوى دوليَّة وإقليميَّة ومحليَّة، تراقب ما يجري، وتتربَّص، وتضع
السيناريوهات المختلفة، ويمكن أنْ تستغلّ أيّ لحظة توتّر زائد للانقضاض على بلدنا
والعبث بأمنه واستقراره والإضرار بتماسكه وكيانه.