سعود قبيلات ▣
سعدتُ جدّاً باستقالة الدكتور محمَّد البرادعيّ؛ مِنْ أجله
ومِنْ أجلنا جميعاً. فقد كان واضحاً، طوال فترة تولّيه منصب نائب الرئيس المؤقَّت،
أنَّه كان يحلِّق خارج سربه وبغير رغبةٍ منه؛ بل على مضض شديد. فلربَّما تاهتْ
بوصلته واختلطت الاتّجاهات أمام ناظريه، فوجد نفسه في غير سربه (هذا إذا أحسنَّا الظنّ)؛
أو أنَّه كان يقوم بدور حصان طروادة في قلاع الخصم لضربه من الداخل وتحطيم تماسكه (إذا
أسأنا الظنّ). لذلك، فإنَّ استقالته هي أفضل ما قام به مؤخَّراً (لنفسه وللشعب
المصريّ).
لقد بذل الدكتور محمَّد البرادعي، خلال فترة تولّيه
منصبه الرفيع، ذاك، جهداً كبيراً لإنجاح زيارات المسؤولين الأميركيين والأطلسيين وأتباعهم
التي انهالت على مصر بعد الثلاثين مِنْ حزيران (يونيو). وكان واضحاً أنَّ نجاح تلك
الزيارات يعني، تحديداً، السماح بتحوّل المشاركين بها إلى أعضاء فرق تفتيش جديدة تدرس
(وتراقب)، بصورة حثيثة، الكيفيَّة التي يمكن أنْ تبني بها الحياة السياسيَّة الجديدة
في مصر؛ فيرفضون بعض تفاصيلها، ويقبلون بعضها، ويفرضون بعضها الآخر، بما يخدم خطط الدوائر
الأميركيَّة والأطلسيَّة لبناء الشرق الأوسط الجديد على أساس تمكين التيَّار السياسيّ
الوهّابيّ، المرتبط بقطر وتركيا، من السيطرة على السلطة في معظم البلدان العربيَّة.
الأمر الذي يذكِّر بالزيارات المماثلة التي أعقبتْ 25 كانون الثاني (يناير)،
وأدَّت إلى تواطؤ "الإخوان" والمجلس العسكريّ السابق بقيادة المشير
طنطاويّ، على إيقاف الحياة السياسيَّة المصريَّة على رأسها بدلاً مِنْ رجليها؛ حيث
أصرّوا على إجراء الانتخابات النيابيَّة أوَّلاً، ثمَّ الرئاسيَّة، وبعد ذلك
اهتمّوا بصياغة الدستور الجديد وإقراره. وكان الهدف مِنْ ذلك هو الحفاظ على النظام
التبعيّ الفاسد كما هو، وأنْ لا يتجاوز التغيير فيه أسماء ووجوه القائمين عليه.
ونعود، الآن، إلى الدكتور البرادعيّ، فنقول إنَّ إصراره
على فتح الباب واسعاً أمام جميع المسؤولين الأطلسيين لزيارة مصر وزجّ أنوفهم في
شؤونها الداخليَّة، أدخل البلاد في حالة طويلة وضارَّة من البلبلة والمراوحة، على
نحوٍ هدَّد بالإطاحة بكلّ المكاسب التي حقَّقها الشعب المصريّ في 30 حزيران
(يونيو). بل وبدأت تتسرَّب، في أثناء ذلك، أحاديث متواترة عن مطالبات أميركيَّة
وأطلسيَّة بضرورة إعادة صياغة الحياة السياسيَّة بالطريقة السابقة الفاشلة نفسها؛
انتخابات نيابيَّة، ثمَّ رئاسيَّة، ثمَّ صياغة الدستور!
بالمقابل، كان من الواضح، هذه المرَّة، أنَّ اقتراحات
ومطالبات الغرب لا تجد أذاناً صاغية لدى معظم المسؤولين المصريين الحاليين.. بخلاف
ما كان عليه الحال في المرَّة السابقة. وهنا، بدأت الأنباء والتسريبات، تتواتر عن
حرد الدكتور البرادعيّ ومحاولاته ابتزاز زملائه في الحكم والحكومة والجيش، ملوّحاً
بنيَّته الاستقالة ما لم يخضعوا جميعاً لشروطه، ويسمحوا بعودة فرق التفتيش السياسيّ
إلى مصر لتتحكَّم بقرارها السياديّ وترسم ملامح مستقبلها السياسيّ.
في النهاية، حُسِمَ الأمر، كما رأينا، ووجد البرادعيّ
أنَّه غير قادر على القيام بدوره الطبيعيّ الذي كان يرغب بالقيام به. لذلك، لم يكن
أمامه سوى الإقرار بفشله والانسحاب مِنْ موقعه. أمَّا قصَّة قلبه الرهيف ونصرته
لحقوق الإنسان، التي تذرَّع بها لتبرير استقالته، فلم نسمع عنها شيئاً البتَّة عندما
وقع الاحتلال الأميركيّ الغاشم على العراق في أعقاب جولاته (البرادعيّ)
التفتيشيَّة الظالمة على الأسلحة النوويَّة المزعومة وتقاريره التي سوَّغت العدوان؛
حيث بقي بعد ذلك على رأس عمله حتَّى نهاية مدّته. وفي أثناء ذلك، كما نذكر، زاره
القياديّ "الإخوانيّ" عصام العريان في فيينا لإقناعه بالترشّح لرئاسة
مصر.
وهكذا، يمكننا، الآن، ببساطة، أنْ نهنئ الدكتور
البرادعيّ بعودته للانتظام في سربه الطبيعيّ القديم مع الأميركان، والأطلسيين، والليبراليين
الجدد، وأشتون، وماكين، وبرنار هنري ليفي، والآيباك، و"الإخوان" وجماعتهم
من "المش إخوان".. الخ.
يبدو لي كما لو أنَّ المفتِّش الدوليّ السابق عاد، مرَّةً
أخرى، إلى وظيفته السابقة على رأس منظَّمة الطاقة الدوليَّة (في فيينّا) ليمارس عمله
في التفتيش، مجدّداً، تمهيداً للغزو الأميركيّ!
وهنا، نقول: العالم تغيَّر كثيراً يا دكتور- لسوء حظِّك وحظّ
جماعتك – ولم يعد تحت الهيمنة الأميركيَّة الأحاديَّة.