صادق
مجلس
الشيوخ الأميركيّ بالإجماع يوم الجمعة الماضي على
قرارٍ بتخصيص 225 مليون دولار لتجديد القبة الحديدية «الإسرائيليَّة»
لزيادة فعاليَّتها في حماية الكيان الصهيونيّ مِنْ صواريخ المقاومة.
وكانت
وزارة الدفاع الأميركيَّة "«البنتاغون»
قد أعلنت، قبل ذلك بيوم، اعتزامها إرسال شحنات ذخيرة إلى «إسرائيل».
وهذا
في حين قال الرئيس الأميركيّ، باراك أوباما، «إنَّ
إسرائيل لديها الحقّ في الدفاع عن نفسها، ولا يوجد دولة في العالم يمكنها تحمّل ما
تفعله حماس والقسام مِنْ ضرب صواريخ كلّ 20 دقيقة على الأراضي الإسرائيليَّة،
بالإضافة إلى حفر الأنفاق تحت الأراضي الفلسطينية».
(نذكِّر، هنا، بحماس أوباما، نفسه، الشديد لدعم وتسليح
المجموعات التي تقاتل ضدّ سوريَّة).
وبعد
ذلك، راح أوباما يتباكى على «الإسرائيليين»
(المساكين) الذين باتت حياتهم مشلولة تحت وطأة الخوف، وعلى وقف إطلاق النار الذي خرقته
«حماس»
- بحسب زعمه – والذي كان سيمنح «إسرائيل»
فرصةً لتدمير الأنفاق.
وطالب
بالإفراج الفوريّ غير المشروط عن الضابط «الإسرائيليّ»
المخطوف هدار چولدن، قائلاً إنَّه إذا كانت حركة «حماس»
لديها رغبة في حلّ الصراع الدائر، فعليها أنْ تفرج عن الضابط «الإسرائيليّ».
وهذه
مجرّد نماذج للمواقف التي اتَّخذتها الإدارة الأميركيَّة خلال اليومين الماضيين
فقط. ويجدر أنْ
نتذكَّر هنا أنَّه حين أرادت الولايات المتَّحدة البحث عن مخرج لـ«إسرائيل» من الورطة التي ورَّطت نفسها بها في غزَّة، دعت قبل
أسبوع تقريباً إلى اجتماعٍ عاجلٍ في باريس شاركتْ به – بالإضافة إليها – فرنسا
وبريطانيا وألمانيا وتركيا الأطلسيَّات، وقطر حاملة قاعدتي السيليَّة والعيديد
الأميركيَّتين.
وفي المقابل اصطفّ اليسار في العالم كلّه، وخصوصاً في
أميركا اللاتينيَّة، إلى جانب الشعب الفلسطينيّ في غزَّة وضدَّ العدوان «الإسرائيليّ» عليه. وقام عددٌ مِنْ دول أميركا اللاتينيَّة بطرد
سفراء «إسرائيل» مِنْ عواصمه، وأعلنت فنزويلا عن استعدادها لعلاج الجرحى مِنْ غزَّة.
لا شيء جديد في هذا الأمر؛ فالولايات المتَّحدة وحلف
الأطلسيّ كانوا دائماً ضدّ العرب في كلّ طموحاتهم للتحرّر والتقدّم والعدالة
الاجتماعيَّة، وفي القضيَّة الفلسطينيَّة بشكلٍ خاصّ.. في حين وقف اليسار،
والبلدان المؤيِّدة للاستقلال، وتلك التي تعارض الهيمنة الأميركيَّة والأطلسيَّة، دائماً
(ولا يزالون) إلى جانب الحقوق والقضايا العربيَّة، وفي مقدِّمتها القضيَّة
الفلسطينيَّة.
ويجدر بنا هنا أنْ نلاحظ أيضاً أنَّ مَنْ يقفون الآن ضدَّ
غزَّة ويتآمرون عليها لصالح «إسرائيل» هم أنفسهم مَنْ وقفوا ضدَّ سوريَّة وتآمروا عليها طوال السنوات الأربع
الماضية؛ وأنَّ مَنْ يقفون الآن ضدّ العدوان «الإسرائيليّ» على غزَّة هم أنفسهم مَنْ وقفوا ضدَّ الحرب
الإمبرياليَّة الرجعيَّة بالوكالة التي شُنَّتْ على سوريَّة.
ولا يظنَّن أحدٌ أنَّ موقف قطر وتركيا من العدوان على
غزَّة يختلف بالجوهر عن موقف السعوديَّة وسواها مِنْ أتباع واشنطن وأدواتها في
المنطقة؛ فما هي إلا أدوار تؤدِّيها كلّ دولة مِنْ هذه الدول تحت مظلَّة واشنطن
وحلف الأطلسيّ؛ حيث أُوكلتْ لقطر وتركيا مهمّة احتواء الجناح المقاوم في «حماس» عبر قيادتها السياسيَّة المقيمة في قطر؛ في حين كُلِّفَت
السعوديَّة وعددٌ من الدول العربيَّة التابعة بمهمّة احتواء مصر التي تقف الآن على
مفترق طرق. أمَّا الموقف مِنْ سوريَّة، فهو جامع وموحِّد لهذه الدول كلّها؛ بل إنَّ بعضها
يزايد فيه على بعضها الآخر.
مَنْ يشكّ بهذا الكلام، عليه أنْ يقول لنا ما إذا كانت
الصواريخ التي تدافع بها غزَّة عن نفسها هي صواريخ تركيَّة قطريَّة، أو ما إذا
كانت قطر وتركيا قد فعلتا شيئاً لغزَّة عدا الكلام الإنشائيّ الفارغ. فـ«أضعف الإيمان» بالنسبة لـ«أردوغان» – على سبيل المثال – هو أنْ يقتدي بدول أميركا
اللاتينيَّة، فيقوم بطرد السفير «الإسرائيليّ» مِنْ عاصمة بلاده، وهذا عدا عن أنَّنا لم نسمع منه شيئاً عن العلاقات
الاقتصاديَّة والعسكريَّة النشطة جدّاً بين بلاده وبين «إسرائيل».
قبل عقود قليلة، كانت خارطة الأعداء والأصدقاء واضحة
تماماً، وكان التضامن المتبادل مع مختلف شعوب العالم كبيراً وفاعلاً، وكانت
القضيَّة الفلسطينيَّة هي مركز حركة التضامن العالميَّة تلك. ولكن، في ظلّ الصعود
السياسيّ لـ«الإخوان المسلمين» والحركات التكفيريَّة التي انبثقت منهم، اختلطت الأمور كثيراً؛ فأصبح العدوّ
صديقاً والصديق عدوّاً في أغلب الأحيان. حيث – على سبيل المثال – تمَّ تجيير أوساط
واسعة من الرأي العامّ العربيّ للانضواء تحت لواء الولايات المتَّحدة وحلف
الأطلسيّ وأتباعهما في حربهم على دولتي أفغانستان والاتّحاد السوفييتيّ الصديقتين والحليفتين
للعرب، كما تمَّ تجييره أيضاً لصالح الحرب الأطلسيَّة على يوغسلافيا الصديقة، ثمَّ تمَّ
تجييره أخيراً للحرب على سوريَّة الشقيقة خلال السنوات الأربع الماضية.
وأصبح العالم، منذ ذاك، ينقسم إلى فسطاطين، هما فسطاط
الكفر وفسطاط الإيمان. ومن اللافت أنَّ فسطاط الإيمان كثيراً ما شمل، عمليّاً،
الولايات المتَّحدة وحلفاءها وأتباعها؛ في حين أنَّ فسطاط الكفر يشمل غالباً أعداء
هؤلاء ولا يستثني منهم حتَّى العرب والمسلمين.
وقد أصبحت ثقافة «الكفر والإيمان» هذه منتشرة – مع الأسف – في أوساط شعبيَّة واسعة. ومِنْ
طريف ما سمعتُ مِنْ نماذج هذه الثقافة المضلِّلة كلام شابّ غزَّاويّ في إحدى
الفضائيَّات الناطقة بالعربيَّة قبل أيَّام؛ إذ قال في معرض احتجاجه على الموقف
المتخاذل للدول العربيَّة من العدوان على غزَّة: «الكُفّار (ويقصد بذلك دول أميركا اللاتينيَّة) طردوا سفراء إسرائيل مِنْ بلادهم..
فماذا فعل العرب في المقابل؟»!
إنَّه يعتقد ضمناً أنَّ الأنظمة العربيَّة التابعة
للإمبرياليَّة الأميركيَّة أقرب له مِنْ شعوب أميركا اللاتينيَّة وأنظمتها
اليساريَّة؛ باعتبار الأولى من المسلمين، والثانية من الكفّار!
بهذا المنطق البائس (منطق الكفر والإيمان) أمكن تبرير
الحرب الإمبرياليَّة بالوكالة على سوريَّة والعراق وليبيا ومصر وتونس.. الخ،
وأصبحتْ تركيا (العضو في حلف الأطلسيّ) حليفاً، في حين أصبحتْ دول مثل كوبا
وفنزويلا ونيكاراغوا وبوليفيا والأكوادور والسلفادور وتشيلي والأرجنتين.. الخ، ليست
من الكفّار فقط؛ بل من الأعداء أيضاً.. لأنَّها وقفتْ مع سوريَّة ضدّ الحرب الإمبرياليَّة
بالوكالة عليها! ومثل هذا يُقال أيضاً عن الموقف من الدول المستقلَّة الصاعدة، مثل
روسيا والصين وسائر دول «البريكس» المعادية للهيمنة الأميركيَّة.
إنَّ أهمّ شرط مِنْ شروط المقاومة الجدّيَّة الواعية هو تمييزها
الأعداء من الأصدقاء بدقّة وموضوعيَّة ووفق رؤية علميَّة ومبدئيَّة صارمة؛ ثمَّ
بالاستناد إلى هذا، تحدِّد الخندق المحلِّيّ والإقليميّ والدوليّ الذي يجب أنْ تقف
فيه.
لقد قاتل الجيش المصريّ في حرب تشرين (أكتوبر) 1973
ببسالة نادرة وحقَّق إنجازاتٍ عسكريَّة مثيرة للإعجاب؛ لكنَّ القيادة السياسيَّة
المصريَّة، آنذاك، اختارت أنْ تنتقل بالبلاد مِنْ خندق إلى آخر، وأنْ تحوِّل الأصدقاء
إلى أعداء والأعداء إلى أصدقاء.. بشكلٍ يتنافى تماماً مع الشروط الموضوعيَّة لتحقيق
المصالح الوطنيَّة والقوميَّة. وعندئذٍ، تحوَّل النصر الذي أحرزه الجنود والضبّاط الشجعان
ودفعوا تضحياتٍ باهظة ثمناً له، إلى هزيمةٍ سياسيَّة ساحقة أين منها هزيمة حزيران
1967.
لكي نعرف الاتِّجاهات بشكل صحيح في البوصلة المغناطيسيَّة
العاديَّة نوجِّه مؤشِّرها نحو الشمال؛ ولكي نعرف الاتِّجاهات بشكلٍ صحيح في
البوصلة السياسيَّة العربيَّة (والعالميَّة أيضاً) يجب أنْ نوجِّه مؤشّرها نحو
فلسطين. فهل حان الوقت أخيراً لنأمل بأنْ ينجح العدوّ في تصحيح اتِّجاه بوصلة بعض
العرب؟