سعود قبيلات ▣
للمفكر
الكبير الشهيد مهدي عامل كتابٌ مهمّ، صدر بعد استشهاده، هو «نقد
الفكر اليوميّ».
ويبدو أنَّ «عامل»،
بما عُرِف عنه مِنْ عمقٍ شديد في التفكير، واجتهادٍ كبير في البحث عن الأفكار
الجديدة المركَّبة، ونفورٍ تامّ من البديهيّات الساذجة والمواضعات البليدة، قد
اُستُفزَّ ممَّا كان يراه متداولاً، في زمانه، مِنْ أفكارٍ سطحيَّة تافهة، وما
كانت تلقاه تلك الأفكار مِنْ رواج كبير في وسائل الإعلام، وقبول واسع بين الناس.
والفكر
اليوميّ، كما شخَّصه مهدي عامل في كتابه ذاك، يتَّسم بأنَّه:
1.
لا يحبّ التعقيد؛ لأنَّه يرهقه. لذلك، فإنَّه يميل إلى الاختزال والتبسيط
والبداهة، ويتجنَّب الاقتراب من المفاهيم في حال تعبيرها عن الحركة والتناقضات؛
2.
يكره التحليل والفهم والوعي، ويحقد على العقل وكلّ معرفة وفكر. إنَّه فكر تجريبي
يقول «بضرورة ترك الكلام للوقائع، أو الأحداث، نفسها، حتَّى تنطق بلغتها التي هي
لغة تراكمها اليوميّ، مِنْ دون توسُّط من الفكر أو مِنْ أدواته....»؛
3.
يتجنَّب الوضوح؛ لأنَّه لا مصلحة له به؛
4.
يشنّ هجوماً مركَّزاً على العقل العلميّ في التاريخ والاقتصاد والسياسة، وفي الفكر
أيضاً والكتابة، باسم الخصوصيَّة أو تفاصيل الحياة، أو المعاش، أو الجزئيّ، أو
المصادفة والاحتمال.. الخ؛
5.
يتجاهل علاقات التناقض بين المصالح المختلفة، أو المواقع المختلفة؛ فيتعامل معها
كما لو كانت علاقات تماثل، مع أنَّه يعترف بالتناقض بين الأفكار، ولكن «حتَّى
التناقض هذا ليس فعليّاً، لأنَّه تناقض مجرَّد، يقوم بالفكر وحده، ويزول بالفكر
وفي الفكر أيضاً، في تصالح النقيضين في الفكرة المطلقة». ويصطنع، بدلاً مِنْ ذلك،
نقائض زائفة بين مصالح ومواقع لا أساس حقيقّياً لها؛
6.
تنقصه الشجاعة والمصلحة، لمواجهة الواقع كما هو ومِنْ دون تزييف أو تزويرٍ؛ لذلك،
فإنَّ الخَطَابَة تقوم فيه مقام البحث والتحليل. وعندما يحاول أن يحلِّل الأفكار
والظواهر، يرتبك؛ بسبب جهله بمعاني المصطلحات والمفاهيم؛ ما يجعله يستعملها بغير
دقَّة ووضوح، أو بما يغاير مضامينها الحقيقيَّة؛
7.
يتَّسم بالخفَّة، والارتباك، وعدم الاتِّساق، والتناقض. ويفتقر إلى الدقَّة
والصرامة والوضوح؛
8.
ينبهر بالأحداث الكبيرة انبهاراً يشلّ قدرته على التحليل؛ فيميل مع الحدث كيفما
يميل، ولا يحلِّل، بل يؤكِّد، لأنَّه في عجلة مِنْ أمره؛
9.
يشخصن ما لا يُشخصن، ويجوهر ما لا يُجوهر؛
10.
غيبيّ؛ يغيِّب التاريخ ويقيم الصراع بين ثنائيَّة الخير والشر.
أمَّا
«الفكر اليوميّ» في زمننا الحاليّ، فهو يشترك مع «الفكر اليوميّ» الذي كان سائداً
أيَّام مهدي عامل بالكثير من الملامح والسمات، لكنَّه أكثر منه انحداراً وأكثر
ضحالةً وفقراً؛ فآنذاك، كان العالم، لا يزال يملك مشروعاً أمميّاً مناهضاً
للرأسماليَّة والإمبرياليَّة. وهذا المشروع كان يملك فكراً ثوريّاً منتجاً، ومِنْ
ضمن رموزه، في ذلك الوقت، مهدي عامل، نفسه، بمشروعه الفكريّ الشموليّ والعميق. في
حين كان مشروع الليبراليَّة الجديدة (بالأحرى، الرأسماليَّة المتوحِّشة)، آنذاك،
في بداياته، وكان يواجه مقاومة وصدوداً، وأصحابه يروِّجونه بحذرٍ شديد وعلى استحياء،
ويتستَّرون بكلّ السبل على خططهم ومشاريعهم في هذا المجال.
على
أيَّة حال، ها نحن، الآن، نشهد وقائع فشل مشروع الليبراليَّة الجديدة، بعدما خرَّب
ودمَّر على نطاق واسع في الكرة الأرضيَّة كلِّها، وولَّد من الحروب والصراعات
الدمويَّة ما لم يشهده عصر مِنْ قبل، وأفقر وجوَّع جموعاً هائلة من البشر؛ وفي
مقدِّمة ضحاياه، الوعي والفكر؛ بل، أيضاً، الفنّ والأدب، وكذلك، السياسة، نظريَّةً
وممارسة.
وبالتالي،
فـ«الفكر اليوميّ»، الآن، فكر نمطيّ فقير، تصنعه الوجبات الإعلاميَّة السريعة،
والكسل الذهنيّ الشديد، والمصالح الطبقيَّة (والاستعماريَّة) الجشعة التي لا
يبرِّرها أيّ منطقٍ إنسانيّ سليم، والسياسات الانتهازيَّة بمناوراتها الهابطة
والرخيصة، و«مثقفو الشنطة» الذين يحترفون بيع «الأفكار» النمطيَّة الجاهزة (أو يؤجِّرونها)
بالقطعة وحسب الطلب. إنَّه فكر الهزيمة، والاستخذاء، والركوع الذليل لشروط
الأعداء، والبحث البهيميّ عن مكاسب صغيرة مغمَّسة بالخنوع والوضاعة، وسط الخراب
والدمار ومصادرة مستقبل الأمّة والتفريط بحقوقها ومصالحها. لذلك، فهو فكر تبريريّ،
ضحل، يغيِّب الجوهريّ في الصراع ويبرز الفروع والتفاصيل والمظاهر، ويعطِّل التحليل
والتفكير العميقين، ويحدّ مِنْ بُعد النظر، دافعاً الناس – بدلاً مِنْ ذلك – إلى
الغرق في سيل الأحداث اليوميَّة العابرة والمناورات السياسيَّة المخادعة. وتأخذه
العزَّة بالجهل بينما هو يكرِّر بلا ملل مقولاته السطحيَّة الفارغة؛ لأنَّه لا
يملك غيرها ولا يدرك مدى ضحالتها وفقرها.