سعود قبيلات ▣
نُشِرَتْ، قبل مدَّة، اثنتان مِنْ قصصي مترجمتين إلى
اللغة الإنجليزيَّة في مجلَّة «بانيبال» التي تصدر في لندن باللغة الإنجليزيَّة. القصَّتان
هما «السجين» مِنْ كتابي «بعد خراب الحافلة»، و«ضجيج قديم» مِنْ كتابي «كهفي».
وهما تتَّسمان بأنَّهما ليستا واقعيَّتين فقط؛ بل تسردان وقائع حقيقيَّة. أقول هذا
لأنَّ كثيراً من الناس اعتادوا على الخلط بين ما هو واقعيّ وما هو حقيقيّ، والحديث
عنهما كما لو كانا يعبِّران عن مفهومين متطابقين.
على أيَّة حال، كون هاتين القصَّتين تسردان وقائع
حقيقيَّة، هو، برأيي، ليس لصالحهما فنيّاً؛ لكن، ربَّما يشفع لهما أنَّ كلّاً
منهما جزء مِنْ عملٍ أدبيّ يمثِّل مغامرة فنيَّة «متمادية»، وأنَّهما تسجِّلان
وقائع إنسانيَّة تعكس بدقَّة صورة زمانها؛ أي أواخر سبعينيَّات القرن الماضي.
وأنا أرغب بنشر قصَّة «ضجيج قديم» (بنسختها العربيَّة)
هنا. وأريد أنْ أنبِّه إلى أنَّها مقتطعة مِنْ مسلسلة قصصيَّة هي كتابي «كهفي»؛ الأمر
الذي سيلاحظ معه القارئ أنَّ في هذه القصَّة بعض الإحالات على وقائع لم يجرِ الحديث
عنها فيها، وخصوصاً الإشارة في بداية القصَّة وخاتمتها إلى أعمال الصيانة
الجارية في كهف الراوي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ضجيج قديم..
لا أعرف أيَّ شيء عمَّا يجري حولي في عالم
كهفي الموضوع الآن قيد أعمال الصيانة، ولكنَّني أستشعره، ويبدو لي بأنَّه عمل شامل
وكبير. ومع أنَّني لا أسمع أيَّ قدر مِنْ أصوات العاملين أو المعدَّات بمختلف
أنواعها وأحجامها، إلا أنَّ ضجيج هذه الورشة الضخمة يملأ رأسي، مع ذلك، إلى حدّ
أنَّه أعاد إليَّ اليوم ذكرى ضجيج قديم اختزنته ذاكرتي منذ زمنٍ بعيد.
كنتُ آنذاك محشوراً في زنزانة ضيِّقة، موحشة،
ذات بابٍ حديديٍّ مصفَّح، ولها نافذة صغيرة في أعلى الجدار الواقع في الجهة اليمنى
بالنسبة للداخل مِنْ باب الزنزانة. وكانت ثمَّة أعمال بناء صاخبة في الخارج مِنْ
جهة النافذة الصغيرة، تلك، التي لم تكن تعلو عن مستوى الأرض من الجهة الخارجيَّة
إلا بما لا يزيد على نصف المتر تقريباً.
ومِنْ بين أعمال الصيانة الدؤوبة الصاخبة،
تلك، لم يكن ثمَّة ما يزعجني أكثر مِنْ صوت كمبريصة كانت تبدأ العمل في العادة
بصورة متواصلة من الساعة الخامسة صباحاً إلى الساعة الخامسة مساءً، وكانت موجودة
كما بدا لي آنذاك في مكانٍ قريبٍ جدّاً مِنْ نافذة الزنزانة.
وطوال الوقت الذي كانت فيه تلك الآلة المزعجة
تعمل، كان الضجيج الهائل الذي يسبِّبه صوتها البشع، ينحشر في زنزانتي، وبالأحرى،
في أذنيَّ ورأسي. وكان ضيق المكان وانغلاقه مِنْ كلّ الجهات، ما عدا تلك الفتحة
الصغيرة العالية في الجهة المجاورة للكمبريصة، يضاعف قوَّة الضجيج ويجعله يحيط بي
مِنْ كلّ الجهات ويسبِّب لي عذاباً حقيقيّاً لا يُطاق.
تحمَّلتُ الأمر بصعوبة في اليوم الأوَّل
والثاني، ولكنَّني في اليوم الثالث صرتُ أسمع أصواتاً عدائيَّة تتسلَّل إلى سمعي
وسط الضجيج، فتسخر منِّي وتوجّه لي الشتائم وتهدِّدني. كان كلامها أقرب إلى منطق
الكلام العدائي نفسه الذي كنتُ أسمعه قبل ذلك من المحقِّقين.
وذات ليلة استيقظتُ مِنْ نومي المضطرب، فإذا
بي أردِّد أسماء جميع أبناء قريتي، صغاراً وكباراً، مَنْ تربطني بهم علاقة وثيقة
ومَنْ لا تربطني بهم أيَّة علاقة سوى المعرفة مِنْ بعيد، الأموات منهم والأحياء،
الذين أحبّهم والذين لا أحبّهم، الذين يخطرون في بالي مِنْ حينٍ لحين والذين لم
يخطروا في بالي مطلقاً مِنْ قبل.
وبدا لي، عندئذٍ، أنَّه ثمَّة عمليّة غامضة
تجري للتلاعب بي بلا رحمة بحيث تقودني في النهاية إلى أحدى خاتمتين مأساويَّتين؛
فإمَّا الاستسلام لعالم الهلوسة بعمق وبصورة نهائيَّة، أو أنْ تنهار معنوياتي
دفعةً واحدة فأدلي بالمعلومات المطلوبة عن رفاقي في الحزب الذي أنتمي إليه وأتبرأ
مِنْ أفكاري ومبادئي التي سُجنتُ بسبب اعتناقي لها. فقلتُ لنفسي بأنَّني يجب أنْ
أضع حدّاً لهذا الخطر الداهم باستخدام أسلوب المقاومة السلبيَّة في مواجهته مهما
كانت النتائج. وقرَّرتُ أنْ أبلغ الحارس بأنَّني مضرب عن الطعام إلى أنْ يتمَّ
نقلي مِنْ تلك الزنزانة.
صادف، آنذاك، أنَّنا كنّا في شهر الصيام،
وكانوا يأتون بالطعام في العادة قبل موعد الإفطار بنصف ساعة ويضعونه على قطعةٍ
مربَّعة من الجلد الصناعيّ يفردونها على أرض الزنزانة، ثمَّ يغلقون الباب. وكنتُ
قبل إضرابي أشرع فوراً بتناول الطعام ما إنْ يوضع أمامي، حيث كان الحارس يصيح بي
في العادة قائلاً: لا تأكل؛ لم يحن موعد الإفطار بعد.
وكنتُ أقول له: لا تضع الطعام أمامي، إذاً،
قبل موعد الإفطار.
وعندئذٍ كان يدير ظهره لي، مِنْ دون أنْ
يعلِّق، ويغلق الباب خلفه ويمضي.
أمَّا يوم إعلاني الإضراب فما إنْ وضع الحارس
الطعام أمامي حتَّى طلبتُ منه أنْ يبلغ رؤساءه بأنَّي مضرب عن الطعام إلى أنْ
ينقلوني مِنْ تلك الزنزانة الموحشة التي كنتُ محتجزاً فيها. نظر إليَّ متفاجئاً
وبدا كما لو أنَّه كان يريد أنْ يقول لي شيئاً، ولكنَّه بدلاً مِنْ ذلك أدار ظهره
لي وأغلق الباب ومضى.
أصبحتُ بعد ذلك وحيداً مع الطعام الذي كان
مكوَّناً مِنْ قطعة لا بأس بها مِنْ لحم الضأن المطبوخ باللبن موضوعة فوق صحنٍ من
الأرز وإلى جانبه صحنٌ آخر مليء بمرق اللحم المطبوخ باللبن وقطعة من الخبز. فبدتْ
لي رائحة الطعام شهيَّةً جدّاً، ورحتُ أمسك نفسي عنه بصعوبة وأنا أعرف أنَّني قد
شرعتُ بمغامرة خطيرة لا أعرف كيف ستكون نهايتها ولا كم ستطول مدّتها.
بعد ساعة، فُتِحَ الباب ودخل العسكريّ كما هو
معتاد ليأخذ الأوعية الفارغة، ولكنَّه وجدها لا تزال ملأى كما هي هذه المرَّة.
وعندئذٍ تصنَّع عدم معرفته بالسبب الذي منعني مِنْ تناولها، وسألني بلهجةٍ
مستنكرة: لماذا لم تأكل طعامك؟!
قلتُ له: لقد قلتُ لك مِنْ قبل بأنَّني مضربٌ
عن الطعام إلى أنْ يتمّ نقلي مِنْ هذه الزنزانة.
قال بلهجةٍ حرص على أنْ تبدو واثقة: لن
تستفيد مِنْ هذا شيئاً.
وترك الطعام في مكانه وأغلق باب الزنزانة ومضى.
عند السحور جاء حارسٌ آخر وفتح باب الزنزانة
كما هو معتاد، وعندما رأى طعام الإفطار لا يزال كما هو تصنَّع المفاجأة، وقال
مستنكراً: لماذا لم تأكل طعامك؟!
قلت: لقد قلتُ لزميلك الذي كان مناوباً في
المساء بأنَّني مضربٌ عن الطعام إلى أنْ يتمَّ نقلي مِنْ هذه الزنزانة.
فكرَّر على نحوٍ ما كلام زميله قائلاً: لن
تستفيد مِنْ هذا؛ تناول طعامك أفضل لك.
ثمَّ شال صحون الطعام القديم، ووضع بدلاً
منها طعام السحور، وأغلق الباب خلفه ومضى، ليتركني وحيداً، مرَّةً أخرى، مع الطعام
الجديد. وكان عليَّ أيضاً أنْ أقاوم بصعوبة شهوتي المتفاقمة للطعام وجوعي الشديد.
وفي الصباح جاء حارسٌ آخر، وفتح باب
الزنزانة، كما هو معتاد، ليأخذ أوعية الطعام، التي كان من المفروض أنْ تكون فارغة،
والجلدة، ولكنَّه وجد الطعام على حاله؛ فتصنَّع الدهشة، وسأل مستنكراً: لماذا لم
تأكل سحورك؟!
قلتُ: لأنَّني مضربٌ عن الطعام.
قال وكأنَّه لا يعرف: ولماذا أنتَ مضربٌ عن
الطعام؟!
قلتُ: لأنَّني أريد أنْ أنتقل مِنْ هذه
الزنزانة.
قال ساخراً: يا سلام!
وما لبث أنْ أضاف: ولماذا تريد أنْ تنتقل
مِنْ هذه الزنزانة؟!
قلت: بسبب ضجيج هذه الكمبريصة الذي تسمعه
الآن.
لاحتْ على وجهه ابتسامة ساخرة، وأدار ظهره لي
وأغلق الباب ومضى.
بُعيد الظهر تقريباً، فُتِحَتْ الطاقة
الصغيرة الموجودة في أعلى الباب الحديديّ المصفَّح، وأطلَّ منها ضابطٌ برتبة نقيب،
وكان الحارس المناوب يقف خلفه، وقال لي بأنَّه مدير السجن، ثمَّ سألني عن سبب
امتناعي عن تناول الطعام. فقلتُ له بأنَّني أطلب نقلي مِنْ هذه الزنزانة لأنَّ
الكمبريصة التي تعمل بانتظام وبصورة متواصلة عند الطاقة القائمة في أعلى الجدار
ترهق أعصابي.
قال مستنكراً: وهل تظنّ نفسك مقيماً في فندق
لكي نعتني براحتك وراحة أعصابك ونضعك في الغرفة التي تعجبك؟ (ثمَّ أضاف موضِّحاً)
أنتَ معتقل، وإذا كنتُ تريد أنْ تخلِّص نفسك مِنْ هذه الورطة المزعجة فما عليك إلا
أنْ تتعاون مع المحقِّق كما يجب ومِنْ ثمَّ تذهب إلى بيتك وتواصل حياتك بالشكل
الذي تريده.
قلتُ: لا شيء عندي أقوله للمحقِّق، وأطلب
نقلي مِنْ هذه الزنزانة.
قال: قيل لي أنَّك طالب في الجامعة.. ماذا
تدرس؟
قلتُ: علم النفس.
قال: طيِّب! ما دام الأمر كذلك، فيجب أنْ
تكون إنساناً عاقلاً، إذاً، وواعياً، وتعرف مصلحتك فتكفّ عن هذه التصرّفات التي لا
تليق بطالب جامعيّ. إنَّك تعرف أنَّ إضرابك عن الطعام لن يفيدك؛ فلماذا تسبِّب
لنفسك متاعباً إضافيَّة فوق متاعبك الكبيرة مع التحقيق والاعتقال؟
قلتُ: سواءٌ أأفادني هذا أم لم يفدني، فلن
أتناول الطعام مجدَّداً ما دمتُ في هذه الزنزانة.
قال غاضباً: عمرك لا أكلت؛ أتحسب أنَّنا نهتم
لأمرك؟ أنتَ لن تحصل على شيء سوى أذى نفسك.
ثمَّ أغلق الطاقة ومضى.
قبل موعد الإفطار بنصف ساعة جاء الحارس
المناوب كالمعتاد وشال طعام السحور القديم ووضع طعام الإفطار بدلاً منه. وقال لي
ناصحاً: كل طعامك؛ هذا أفضل لك؛ فلن تستفيد مِنْ تجويع نفسك.
ولم أقل شيئاً، وأغلق الباب ومضى، وأنا
أتمزَّق من الجوع وأمسك نفسي بصعوبة عن الطعام.
بعد اليوم الثالث أصبح أمر الإضراب سهلاً
جدّاً؛ لم تعد نفسي تشتهي الطعام، وبالتالي لم أعد أبذل أيَّ جهدٍ في صدِّها عنه،
ولكنَّ جسدي كان قد أصبح واهناً وقدرتي على بذل أيّ جهدٍ أضعف.
استمرَّ الحال على هذا المنوال حتَّى اليوم
الخامس؛ إذ جاء الحارس المناوب وطلب منِّي أنْ آتي معه، وصعد بي إلى الطابق
الثاني، فمررنا بساحة التعذيب التي كانت تقع في الوسط بين عددٍ مِنْ مكاتب
التحقيق، طرق باب أحدها، وعندما سمع صوتاً في الداخل يقول له أدخل، فتح الباب
وأدخلني ثمَّ أغلقه خلفي ومضى.
وجدتُ المحقِّق جالساً وراء طاولة قديمة.
وطلب منِّي أنْ أجلس على مقعدٍ خشبيٍّ قديم أمامه. فجلستُ، وعندئذٍ رأيت أمامه على
الطاولة مجموعة مِنْ عصيّ الخيزران موضوعة إلى جانب بعضها البعض. ثمَّ راح ينظر
إليَّ بتمعّن وهو يحرِّك قدميه ويديه بحركاتٍ إيقاعيَّةٍ منتظمة على نحوٍ بدا لي
مريباً.
تصنَّعتُ عدم الانتباه لحركاته الغريبة تلك، فقال
لي متصنِّعاً نفاذ الصبر: وآخرتها معك! إلى متى ستواصل هذه التصرّفات الصبيانيَّة
التي لا تليق بك ولا بأيّ إنسانٍ عاقل؟!
ولم أقل شيئاً؛ فقد كان جسمي واهناً، كما
أنَّني لم أجد رغبةً في الردّ على كلامه ذاك ولا فائدةً.
قال: أتظنّ أنَّ الأمر يهمّنا؟! إذا كنت تظنّ
ذلك فأنت واهم وساذج. ستموت في النهاية إذا ما واصلتَ إضرابك وسنجرّك مِنْ زنزانتك
مثل الشاة الميتة.
قلتُ: إذا متُّ فلن يهمّني كيف تتعاملون مع
جثَّتي، ولكنَّني إلى ذلك الحين لن أقبل أنْ تُفقدوني عقلي وكرامتي.
قال: ولماذا تضع نفسك أمام خيارات غير صحيحة؛
فالحلّ بيدك؛ أرح نفسك وأرحنا ولن تعود هناك مشكلة. ألم ترَ زملاءك الذين باحوا
لنا بما لديهم مِنْ معلوماتٍ عنك وعن سواك واستنكروا الأفكار الهدَّامة التي تصرّ على
التمسّك بها.. ألم ترهم وقد أُطلِق سراحهم وعادوا إلى بيوتهم وإلى دراستهم وواصلوا
حياتهم بصورة طبيعيَّة؟ الأمر بسيط، كما ترى، ولا حاجة لكلّ هذا العناء، وفوق ذلك،
إذا تعاونتَ معنا، سنكافئك بعدما تنهي دراستك بوظيفةٍ جيّدة، وسيكون لك مستقبلٌ
مرموق في الدولة.
قلتُ: ليس الحلّ بيدي؛ لأنَّني لم آتِ إلى
هنا بإرادتي، بل أنتم جئتم بي.
قال: ولكنَّك تستطيع، بإرادتك، أنْ تخرج مِنْ
هنا، وأنْ تكون رابحاً أيضاً.
قلتُ: لو كنتُ فعلاً أستطيع الخروج مِنْ هنا،
لَمَا تردَّدتُ في ذلك لحظة واحدة.
قال غاضباً: تستطيع؛ ولكنَّك لا تريد. على
أيَّة حال، إذا كنتَ مصرّاً على عدم أخذ القدوة الحسنة مِنْ زملائك الذين كانوا
أذكى منك، وأدرى بمصالحهم وأكثر حرصاً عليها، فأنهوا ورطتهم سريعاً وبأقلّ قدر من
المعاناة والمتاعب؛ فعليك إذاً أنْ تتحمَّل تبعات موقفك الخاطئ هذا مهما كانت
وتتقبَّل وضعك الحاليّ كما هو؛ وأوَّل ما يجب أنْ تفعله هو أنْ تفكّ إضرابك فوراً،
وإلا سأطب من الحارس أنْ يأخذك إلى ساحة التعذيب، وسيكون ما واجهته فيها في اليوم
الأوَّل من اعتقالك هيِّناً مع ما ستواجه الآن. لن يحلّوا عنك إلا عندما تتعاون مع
التحقيق.
تذكَّرتُ بالطبع قسوة الألم الذي شعرتُ به في
ذلك اليوم المشؤوم، لكنَّني قلتُ لنفسي بأنَّه لا خيار آخر أمامي سوى الاستمرار
بالإضراب، إذا ما أردتُ الحفاظ على كرامتي، واحترامي لنفسي، وصيانة مبادئي، وثقة
وتقدير أصدقائي ورفاقي وكلّ الذين يحبّونني. ولم أعلِّق على كلام المحقِّق. فضغط
على زرٍّ كهربائيٍّ بجانبه، وسمعتُ صوت الجرس يرنُّ خارج الغرفة بصورة ملحَّة
وحادَّة. ثمَّ سمعتُ دقَّاتٍ خفيفة على باب مكتب التحقيق.
وقال المحقِّق: أُدخل.
ودخل العسكريّ ووقف أمامه منتصباً. فقال له:
حضِّروا الساحة.
قال العسكريّ: أمرك سيدي.
وغادر الغرفة وأغلق الباب.
وعندئذٍ قال لي المحقِّق: آ. ما رأيك؟ أتذهب
إلى ساحة التعذيب أم تفكّ إضرابك؟
قلتُ: لا خيار أمامي ما لم أُنقل مِنْ هذه
الزنزانة.
قال بعصبيَّة مفتعلة: ما الذي تعتقد أنَّك ستجنيه
مِنْ كلّ هذا الحركة الحمقاء؟
ولم أقل شيئاً.
وتابع كلامه قائلاً: ستخسر دراستك وستمضي أعزّ
سنوات عمرك، زهرة شبابك، خلف القضبان، بينما ينهي بقيَّة زملائك في هذه الأثناء
دراستهم، ويحصلون على وظائف جيِّدة، ويتقدَّمون في الحياة، ويترقّون في الوظائف،
ويصنعون بيوتاً وأسراً. أمَّا أنت فستكون لا شيء ولن تحصل على شيء، وستتركك فتاتك
إذا ما رأت أنَّ إقامتك في السجن ستطول.
ولم أقل شيئاً.
قال وقد بدا نافذ الصبر: الله لا يردّك.
وضغط الزر الكهربائيّ الموجود بجانبه، وسمعتُ
صوت الجرس الحاد خارج الغرفة، ورحتُ أفكِّر في الألم الفظيع الذي سأتعرّض له بعد
قليل والذي لا أستطيع أنْ أتجنَّبه مع ذلك.
دخل العسكريّ نفسه وانتصب أمام المحقِّق.
وعندئذٍ فوجئتُ بالمحقِّق يقول له: خذه إلى زنزانته.
انزاح عبءٌ ثقيلٌ عن كاهلي، وبالكاد كنتُ
أصدِّق أنَّني نجوت مِنْ حفلة العذاب البشعة تلك، وقمتُ مع العسكريّ، فنزل بي إلى
الطابق الأسفل وفتح باب الزنزانة، فدخلتها، وأغلق الباب عليَّ ومضى. كان طعام
السحور لليلة الماضية لا يزال في مكانه مِنْ دون أنْ يمسَّه أحد.
تمدَّدتُ على برشي بسكينة تامَّة. ولم يعد
صوت الكمبريصة يزعجني.
بعد دقائق قليلة فُتِحَ الباب مرَّةً أخرى
ودخل العسكريّ نفسه وطلب منِّي أنْ أرافقه. توقَّعتُ بالطبع أنْ يأخذني إلى ساحة
التعذيب أو أنْ يعيدني إلى مكتب التحقيق، ولكنَّه تجاوز الدرج الصاعد باتِّجاه
هذين المكانين، وخرج من المبنى القديم كلّه، وسرنا في فسحة صغيرة مفتوحة على
الفضاء الخارجيّ، ثمَّ هبطنا درجاً آخر باتِّجاه مبنىً كبيرٍ جدّاً قياساً بالمبنى
السابق، وأحدث منه. ومررنا بعد ذلك بساحة صغيرة مستطيلة، ودخلنا مِنْ بوَّابة
حديديَّة كبيرة، وسرنا في ممرٍّ مضاء إضاءة خفيفة يحاذيه من اليمين عدد كبير من
الأبواب، توقَّف العسكريّ عند أحدها وفتحه وطلب منِّي أنْ أدخل. وعندئذٍ رأيتُ
شابّاً ملتحياً يقف عند فراشٍ ليفيٍّ ممدودٍ على الأرض بجوار الجدار الأيمن للغرفة
الصغيرة، بينما مُدَّ فراشٌ آخر فارغ بجوار الجدار الأيسر. أغلق العسكريّ الباب
ومضى. ألقيت تحيَّةً حذرة على الشابّ الملتحي وردَّ عليَّ بالحذر نفسه. وجلس هو
على الفراش الليفيّ المجاور للجدار الأيمن بينما جلستُ أنا على الفراش الليفيّ
المجاور للجدار الأيسر.
سألني الشابّ عن التهمة التي أنا معتقلٌ
بسببها، فقلت له: شيوعيّ.
بدا مندهشاً، وقال لي بأنَّه للمرَّة الأولى
في حياته يلتقي بشيوعيّ.
وسألته عن تهمته، فقال بالعربيَّة الفصيحة:
يسمُّوننا جماعة التكفير والهجرة.
ثمَّ ذكر لي اسماً آخر يطلقه أنصار هذه
الجماعة على أنفسهم ولكنَّني نسيته بسرعة.
قلتُ له: لقد عرفتُ الآن لماذا أتوا بي إلى
هذه الزنزانة بالتحديد؛ يريدوننا أنْ ننوب عنهم في تعذيب بعضنا البعض. وأنا أرى
أنْ نفوِّت عليهم الفرصة ونحبط تدبيرهم. ومِنْ أجل هذا، فلنتَّفق على أنْ يسود
التفاهم والسلام بيننا ما دمنا موجودين معاً في هذه الزنزانة. أنا وأنت الآن
معتقلان، والذي يعتقلنا هو الطرف نفسه، فلنتفق إذاً على أنَّ أفكار كلٍّ منَّا هي
شأنٌ يخصُّه، وأنَّ هذا المكان ليس هو المكان المناسب للنقاش بشأنها والصراع بينها،
ويجب أنْ نتجنّب خوض مشاحنات عبثيَّة بسبب اختلاف آرائنا وتناقض مبادئنا.
بالمختصر، فلنتعاون معاً مِنْ أجل أنْ تكون حياتنا في هذه الزنزانة أقلّ مشقَّة وعناءً
ممَّا يريدون لها.
بخلاف ما خشيتُ، بدا مرتاحاً لاقتراحي، وقال
بلهجة لم تخلُ من الحماس: طبعاً.. طبعاً.
بعدئذٍ حدَّثني عن قصِّة اعتقاله في بلد
عربيٍّ آخر وقيام حكومة ذلك البلد بتسليمه لحكومة بلاده. ثمَّ قال لي فجأة بلهجة
متردِّدة: لطالما سمعتُ عن الشيوعيَّة، ولكن مِنْ خصومها فقط، وهذه هي المرَّة
الأولى التي أقابل فيها شيوعيّاً كما قلتُ لك، فهل ممكن أنْ تشرح لي ما هي
مبادئكم؟
قلتُ له: لا أريد أنْ أطرق مواضيع قد تثير
نقاشاتٍ حادَّة بيننا.
قال بلهجة بدت لي صادقة: لا؛ لن تكون هناك
نقاشات حادَّة؛ أنا فقط أريد أنْ أعرف، ولا أنوي إبداء رأيي بما سأعرفه.
فشرعتُ، عندئذٍ، أحدِّثه عن الشيوعيَّة،
وعندما أنهيتُ حديثي قلتُ له إنَّني أنا أيضاً أقابل للمرَّة الأولى في حياتي
شخصاً مِنْ جماعة التكفير والهجرة، واستدركتُ، قائلاً، «كما يسمّونهم»، وإنَّني
كنتُ دائماً أسمع وأقرأ عن هذه الجماعة ما يقوله عنها خصومها فقط، ولذلك فإنَّني
راغب في أنْ أسمع منه عن جماعته وأفكارها؛ ففعل.
وبعد ذلك سكتنا، وانفرد كلٌّ منَّا بالحديث
إلى نفسه. ولكنَّه ما لبث أنْ قال لي بعد قليل بلهجة مهذَّبة: أنا أحبُّ دائماً
أنْ أقرأ القرآن بصوتٍ مسموع؛ أيزعجك لو قرأتُ بعضاً منه الآن؟
قلتُ: لا؛ أبداً؛ بل سيسرّني أنْ أسمعك وأنتَ
تقرأ القرآن.
وعندئذٍ تناول مصحفاً مِنْ جانبه وشرع يقرأ.
وظللنا على هذا الحال؛ هو يقرأ وأنا أسمع، إلى أنْ فُتِحَ باب الزنزانة قبل
الإفطار بنصف ساعة. دخل العسكريّ المناوب ووضع قطعة الجلد الصناعيّ المعلومة على
الأرض، ثمَّ وضع فوقها صحني مقلوبة وعليهما قطعتان لا بأس بهما مِنْ لحم الضأن،
وصحني سلطة خيار باللبن، مع قطعتي خبز وملعقتين، ثمَّ أغلق الباب ومضى.
نظر إليَّ زميلي الملتحي وقال: قم وتناول
طعامك.
قلت: لا؛ سأنتظر الأذان ونتناول الطعام معاً.
قال: أنت لستَ بصائم؛ فلماذا تنتظر حتَّى
الأذان.
قلت: الطعام يكون شهيّاً بصورة أكبر عندما
يتشارك الناس في تناوله.
قال: ولكنَّني لا أتناول إفطاري بعد الأذان
مباشرة، بل أصلِّي أوَّلاً ثمَّ أتناول طعامي.
قلتُ: سأنتظرُ إذاً إلى أنْ تفرغ مِنْ صلاتك.
قال: ولكن لا داعي لهذا؛ ثمَّ ما ذنبك لتنتظر
كلّ هذا الوقت؟
قلتُ: سأكون مسروراً عندما نأكل معاً أكثر
ممَّا لو أكلتُ منفرداً.
وأخذنا نتبادل الحديث إلى أنْ تناهى إلينا
صوت الأذان؛ وعندئذٍ رجاني زميلي في الزنزانة مرَّةً أخرى وألحَّ عليَّ لكي أقوم
وأتناول طعامي، لكنَّني رفضتُ. فقام وشرع يصلِّي. وعندما انتهى من الصلاة، جلسنا معاً
بالقرب مِنْ طعامنا، فإذا به يأخذ قطعة اللحم المخصَّصة له ويضعها في صحني،
فأخذتها وأعدتها إلى صحنه. ولكنَّه قال لي بأنَّه لا يستطيع أنْ يأكلها لأسباب
دينيَّة لأنَّه ليس واثقاً مِنْ أنَّ الشاة التي اقتطعتْ منها هذه القطعة قد ذبحتْ
بحسب الشريعة الإسلاميَّة. وبالتالي فمن الأفضل أنْ آكلها أنا إذا لم يكن لديَّ
مانع. وعندئذٍ شرعنا بالأكل إلى أنْ أتينا على محتويات صحوننا. ثمَّ قمنا وجلس
كلٌّ منَّا على فراشه، ورحنا نتبادل الحديث.
بعد ساعة تقريباً، طرأتْ عليَّ تبدّلات
غريبة؛ إذ صارت معدتي بكاملها تقفز في صدري إلى الأعلى، بصورة متتابعة، وبشدَّة،
إلى حدّ أنَّني كنتُ أحسّ بأنَّها تكاد تخرج مِنْ فمي. وبالكاد كنتُ أستطيع
التنفّس. وبدا القلق واضحاً على وجه زميلي في الزنزانة، وقفز بسرعة إلى الباب وراح
يدقّ عليه بقبضته بقوَّة. وما لبثت الطاقة الموجودة في أعلى الباب أنْ فُتِحَتْ،
وأطلَّ منها العسكريّ المناوب متسائلاً، فأخبره زميلي بأنَّني مريض جدّاً وأحتاج
للعرض فوراً على طبيب. أغلق العسكريّ الطاقة ومضى، ولكنَّه لم يلبث أنْ عاد بعد
قليل وطلب منِّي أنْ آتي معه. فسرنا في الممرّ المضاء إضاءة خفيفة، وخرجنا من
المبنى إلى الباحة التي أمامه، ثمَّ صعدنا الدرج الذي كنتُ قد هبطتُ بواسطته ظهر
هذا اليوم. كان الليل قد حلّ، وأنارت المكان الأضواء الكهربائيَّة. دخلنا المبنى
القديم الصغير، وصعدنا الدرج المؤدِّي إلى مكاتب التحقيق وساحة التعذيب، ونقر العسكريّ
باب أحد المكاتب وأدخلني ودخل في إثري. كان المحقِّق يجلس خلف الطاولة باسترخاء.
وسألني عن المشكلة الصحيَّة التي أعاني منها. وكانت معدتي لا تزال تواصل القفز،
فأشرتُ إلى صدري. وعندئذٍ سألني عن نوعيَّة الطعام الذي تناولته. فأخبرته. فقال لي
مندهشاً وهو يغالب ابتسامة لاحت على وجهه: فككت إضرابك بوجبة مقلوبة؟! ألا تعرف
أنَّ هذا ما سيحدث لك في هذه الحالة؟! كان يجب أنْ تتناول في البداية كأساً من
العصير أو الحليب وليس وجبةً دسمة كهذه.
قلتُ بأنَّني لم أكن أعلم؛ فهذه هي المرَّة
الأولى في حياتي التي أضرب فيها عن الطعام. عندئذٍ قال لي إنَّهم سينقلونني إلى
المدينة الطبيَّة ليعالجني الأطبَّاء هناك. ثمَّ طلب من العسكريّ الذي كان لا يزال
واقفاً بجانبي أنْ يأخذني، فهبط هذا بي الدرج، وخرجنا إلى ساحةٍ أخرى مضاءة، ورأيت
سيَّارة جيب عسكريَّة تقف هناك في وسط الساحة. كان ثمَّة جنديّ مسلَّح ببندقيَّة
مِنْ نوع م16 يقف خلف السيَّارة؛ سلَّمني العسكريّ الذي كان يرافقني له ومضى. وطلب
منِّي الجنديّ أنْ أصعد إلى السيَّارة من الخلف، فصعدتُ ووجدتُ في الداخل جنديّاً
آخر كان مسلَّحاً ببندقيَّة مماثلة. ثمَّ صعد الجنديّ الذي كان في الخارج، وطلب
منِّي أنْ أمدَّ يديَّ الاثنتين نحوه فوضع حول معصميهما قيدين حديديّين متصلين
معاً بسلسة معدنيَّة، وأغلقهما. ورأيتُ في الأمام السائق وكان هو أيضاً عسكريّ،
وقد جلس إلى جانبه عسكريّ آخر مسلّح ببندقيَّة.
انطلقتْ السيَّارة العسكريَّة بنا، وعبرتْ
البوَّابة الحديديَّة الكبيرة التي تتوسَّط الجهة الغربيَّة مِنْ صورٍ كبير وعالٍ
يحيط بالمبنيين، وسارت مِنْ ثَمَّ في الشوارع المضاء التي لم أرها منذ اعتقالي،
ورحتُ أنظر بانتباه إلى السيَّارات والناس والمباني.
عندما وصلنا المدينة الطبيَّة، أنزلوني من
السيَّارة ودخل معي ثلاثة جنود فيما بقي السائق في السيَّارة. وما إنْ دخلنا
بوَّابة المبنى الكبير المخصَّص للحالات الطارئة حتَّى وجدنا أنفسنا في ردهةٍ
واسعة خالية من الأثاث باستثناء طاولة خشبيَّة قديمة كان يجلس إليها رجل بالملابس
العسكريَّة وقد وُضِعَتْ أمامه مجموعة من الأوراق وقلم وجهاز هاتف قديم بقرصٍ
دوَّار.
سألني الرجل الجالس إلى الطاولة عن اسمي
ودوَّنه في أوراقه، ثمَّ مضى إلى الداخل حاملاً الورقة التي دوَّن فيها اسمي، وعاد
بعد قليل، ودعاني لدخول عيادة الطبيب.
فكَّ أحد الجنود الذين كانوا يرافقونني قيودي
ومضيت إلى الداخل برفقة الجنود الثلاثة، ودخلنا على طبيبٍ عسكريٍّ شابّ برتبة
ملازم، لكنَّه ما إنْ رآنا حتَّى بادرنا قائلاً: ليدخل المريض وحده وليخرج
الآخرون.
فاحتجَّ الجنديّ الذي كان في أثناء مجيئنا
يجلس إلى جانب السائق، قائلاً: يجب أنْ ندخل معه؛ لا نستطيع أنْ نتركه وحده؛ فهو
في عهدتنا.
قال الطبيب: ولكنَّه لن يكون وحده؛ بل سيكون
معي.
قال الجنديّ: لا نستطيع أنْ نتركه مع أحد آخر
إلا بوجودنا.
قال الطبيب: وأنا لا أستطيع أنْ أستقبل
المريض إلا إذا كان وحده.
قال الجنديّ: ولكن يا دكتور نحن لدينا أوامر
ولا نستطيع أنْ نخالفها.
قال الطبيب: وأنا لديَّ أصول مهنيَّة لا
أستطيع أنْ أتعامل مع المريض إلا بها.
قال الجنديّ: نحن ملزمون بالدخول معه.
قال الطبيب: إذاً خذوه وعودوا به إلى المكان
الذي أحضرتموه منه.
قال الجنديّ: ولكنَّه مريض، يا دكتور، ويحتاج
إلى العلاج.
قال الطبيب: سأعالجه إذا تركتموه عندي لوحده
كما تقتضي الأصول الطبيَّة.
وكنتُ أتابع جدال الطرفين الدائر بشأني
صامتاً، كما لو أنَّ كلامهما لا يعنيني. الأمر الذي ذكَّرني بقصَّة فرانز كافكا «مستوطنة
العقاب»؛ حيث، في تلك القصَّة، ثمَّة رجلان؛ أحدهما جلاَّد مسؤول عن استخدام آلة
جهنميَّة للإعدام والآخر مسؤول حكوميّ، كانا واقفين عند تلك الآلة ويتناقشان بشأن
كيفيَّة تنفيذ حكم الإعدام برجل كان يقف معهما وينصتُ إليهما ويراقب حركات أيديهما
ويتمعَّن في تعابير وجهيهما مِنْ دون أنْ يفقه شيئاً مِنْ حديثهما؛ فقد كانا
يتحدَّثان بلغة لم تكن مفهومة بالنسبة له.
ولكنّني قلتُ لنفسي: لحسن الحظّ أنَّني أفهم
ما يقولان وأنَّ النقاش بشأني لم يكن على هذا النحو بالضبط؛ حتَّى إنْ كان هو
الآخر مأساويّاً أيضاً.
ابتعد الجنود عنِّي وعن الطبيب قليلاً
وقرَّبوا رؤوسهم مِنْ بعضها البعض وراحوا يتهامسون في ما بينهم. ثمَّ عادوا بعد
قليل واقتربوا منَّا، وقال الجنديّ نفسه الذي كان قبل قليل يجادل الطبيب: نريد أنْ
نهاتف مسؤولينا ونسألهم عمَّا إذا كانوا يوافقون على أنْ يدخل المريض العيادة
وحده.
قال: حسناً! اسألوا.
وأخذوني وعادوا إلى حيث يوجد العسكريّ الجالس
عند الباب، واستأذنوه في أنْ يسمح لهم باستخدام الهاتف الموجود لديه للاتِّصال بمسؤوليهم،
فأذن لهم. وعندئذٍ تقدَّم الجنديّ نفسه الذي كان يتجادل مع الطبيب، وأدار قرص
الهاتف، وطلب رقماً معيَّناً. ثمَّ سمعته يحدَّث شخصاً ما عن واقعة رفض الطبيب
استقبالي إلا إذا كنتُ وحدي، وفي النهاية سأله عن توجيهاته بهذا الخصوص. وما لبث
أنْ وضع السمَّاعة وهو يكرِّر عبارة: حاضر سيِّدي.
كان زملاؤه ينظرون إليه مستفهمين؛ فقال لهم:
وافقوا على دخوله وحده.
وسار بي باتِّجاه العيادة، وقرع الباب، ثمَّ
فتحه، وأدخلني على الطبيب وقال له: وافق مسؤولونا على دخوله وحده.
قال الطبيب: جيِّد؛ اتركه عندي وأغلق الباب
وراءك.
أغلق الجنديّ الباب ومضى. ونظر الطبيب إليَّ
مازحاً وقال: ما الذي فعلته حتَّى يشدِّدوا حراستك إلى هذا الحدّ؟
جاريته في مزاحه؛ فقلتُ: ألم تلاحظ أنَّني
مجرم خطير؟!
قال وهو يبتسم: هذا واضح تماماً.
ثمَّ سألني عن المشكلة الصحيَّة التي كنتُ
أعاني منها، فأخبرته بها وبظروفها. فطلب منِّي أنْ أصعد إلى سرير الفحص، وقاس ضغطي
ثمَّ وضع السمَّاعة الطبيَّة على مواقع مختلفة مِنْ صدري وراح يتنصَّت بإمعان. وفي
النهاية قال لي بأنَّ الأمر بسيط، وبأنَّه سيعطيني بعض الأدوية، وسيكون كلّ شيءٍ
على ما يرام.
كان هذا بعض ما يتعلَّق بضجيج قديم أعادته
إلى ذاكرتي أصوات أعمال الصيانة التي أستشعرها الآن في عالم كهفي. ولكنَّني الآن
لا أطلب نقلي إلى مكانٍ آخر أكثر هدوءاً، ولا أشعر بالانزعاج مِنْ هذا الضجيج، ولا
أرى بأنَّه يمثِّل تهديداً لي أو سبباً للقلق. إنَّني، على العكس مِنْ ذلك، أشعر،
كلَّما بدا لي الضجيج عالياً، بأنَّ أعمال الصيانة لعالمي العزيز أكثر جديَّة
وأكثر مدعاةً للإثارة والأمل.