سعود قبيلات ▣
سمير
أمين مفكِّر عربيّ مصريّ بملامح عالميَّة، ليس لأنَّ معظم مؤلَّفاته تقريباً مكتوب
باللغة الفرنسيَّة، بل لأهميَّة الأفكار التي طرحها والموضوعات التي ناقشها،
ولطابعها العالميّ. فسمير أمين ينظر إلى العالم بكليَّته باعتباره وحدة التحليل
بالنسبة لدراساته. لذلك فهو معروف جيِّداً لدى الباحثين والمختصِّين والمهتمِّين
في العالم كلّه، ولكنَّه غير معروف جيِّداً في العالم العربيّ، مع الأسف!
يقول
برهان غليون: "من المفارقات أنَّ القارئ العربيّ هو أقلّ مَنْ يعرف سمير
أمين، المفكِّر العربيّ الذي أصبح بسبب عمق واتِّساع المشكلات التي طرحها وروح
الكشف العلميّ الذي يتميَّز به، والجرأة على الذهاب إلى ما وراء النظم العقليَّة
الضيِّقة والجزئيَّة، مرجعاً عالميّاً في النظرية الاجتماعيَّة، أو بالأصح في التاريخ
الاجتماعيّ".
وليس
سبب عدم معرفة القارئ العربيّ بسمير أمين هو أنَّه يكتب بلغة أجنبيَّة؛ إذ أنَّ
معظم كتبه مترجم إلى العربيَّة؛ ولكن المشكلة هي في الأميَّة الثقافيَّة
المتقنِّعة بأقنعة التخصُّص الزائفة، حيث يركِّز الكثير من المتعلِّمين- هذا إذا
كانوا يقرؤون- على قراءة الكتب التي تندرج في إطار تخصُّصاتهم العلميَّة الضيِّقة.
وسمير
أمين المعروف بعمق أبحاثه ودراساته وباجتهاداته الفكريَّة الخاصَّة، بنى أطروحته
الأساسيَّة، كما سبق وأشرنا، على أساس أنَّ العالم وحدة واحدة للدراسة؛ ولم يكن
ذلك لأسباب تعسفيَّة رغبويَّة، بل لأنَّ النظام الرأسمالي نظام عالمي الطابع منذ
بداياته. وهو أوَّل نظام اجتماعيّ اقتصاديّ من نوعه في التاريخ يتَّسم بهذه السمة.
لذلك، فبالنسبة لقارئي ومتابعي دراسات وأبحاث سمير أمين لم تكن موضوعة العولمة
جديدة، كما طُرحت خلال العقدين الماضيين، ورُبطت تحديداً بالاتِّجاه الواسع لفرض
الأمركة على العالم. غير أنَّ هذا النظام العالمي الواحد ينقسم إلى قسمين
أساسيّين، بالنسبة لأطروحات سمير أمين، هما: مراكز النظام التي تتَّسم بالثراء
والتفوُّق والتقدُّم والقوَّة، وأطرافه الفقيرة المستنـزفة والمتخلِّفة والمهمَّشة.
وهذه المعادلة ضروريَّة وأساسيَّة ولا بدَّ منها لاستمرار النظام، ولا يمكن الخلاص
منها إلا بتجاوزه نحو بديله التاريخيّ الأرقى. فالامتيازات والمكاسب والرفاهيَّة
التي تجنيها المراكز إنَّما هي قائمة أصلاً على استغلال واستنـزاف الأطراف
وتهميشها.
ولسمير
أمين أطروحة مهمَّة في ما يتعلَّق بتفسير التحوُّلات الكبرى التي تطرأ على
التشكيلات الاجتماعيَّة الاقتصاديَّة على مستوى العالم. فهو يعتقد أنَّ التغيير
يأتي دائماً من أطراف النظم لا من مراكزها؛ حيث أنَّ الشكل الطرفيّ للنظام هو
الشكل غير المكتمل له، وهو بالتالي الجزء المرن منه والقابل للتجاوز. بينما مراكز
النظام هي الشكل المكتمل له، والجامد، وبالتالي، فهي الجزء الذي يصعب الانتقال منه
إلى نظام جديد يتجاوز النظام القديم الذي بلغ حدوده التاريخيَّة النهائيَّة، ليس
في مراكزه فقط، وإنَّما بكليَّته. وانطلاقاً من هذه الأطروحة كان سمير أمين قد
تجاوز الأطروحة الماركسيَّة القديمة (الستالينيَّة بشكل خاص) التي كانت تنظر إلى
أنماط الإنتاج على أنَّها تتعاقب وفق نظام تاريخي لكلّ تاريخ الحضارات. وأكَّد،
بدلاً مِنْ ذلك، أنَّ أنماط الإنتاج المختلفة كثيراً ما تواجدت إلى جانب بعضها البعض
في تشكيلة اجتماعيَّة واحدة.
وبهذا
المعنى، بالنسبة لسمير أمين، «لم يتواجد في أيّ يوم من الأيَّام أيّ نمط مِنْ هذه
الأنماط الإنتاجيَّة في حالته الصافية: فالمجتمعات التاريخيَّة هي "تشكيلات"
تتضافر فيها مِنْ جهة عدَّة أنماط إنتاجيَّة كما تنتظم فيها من الجهة الثانية
العلاقات بين المجتمع المحلِّي والمجتمعات الأخرى، وهذا ما يعبِّر عنه وجود علاقات
التجارة البعيدة المدى». ويقدِّم مثلاً على ذلك «كيف يتمفصل نمط الإنتاج الصغير
والبسيط مع نمط إنتاج خراجيّ (مبكِّر أو إقطاعيّ) مسيطر، أو مع نمط إنتاج عبوديّ،
أو حتَّى مع نمط إنتاج رأسماليّ. والحالة نفسها يمكن ملاحظتها بالنسبة لنمط
الإنتاج العبوديّ، فهو يمكن أن لا يكون مسيطراً، وهذه هي القاعدة حين يتمفصل مع
نمط إنتاج مسيطر (أو حتَّى مع نمط إنتاج رأسماليّ كما كان الحال في الولايات
المتَّحدة حتَّى عام 1865)، فهو لم يكن نمطاً مسيطراً إلا بشكل استثنائيّ (كما
كانت عليه الحال في تشكيلات الحقبة الكلاسيكيَّة القديمة)».
ما
يهمُّنا هنا بصورة خاصَّة لإلقاء الضوء على موضوع «التمركز الثقافيّ على أوروبا»
أو «على الغرب»، كما يسميّه سمير أمين أحياناً، هو جانبه المتعلِّق بوضع نمط
الإنتاج الإقطاعيّ؛ فالإقطاع بالنسبة
للأبحاث الاقتصاديَّة الاجتماعيَّة التقليديَّة هو نمط إنتاجيّ مستقل. وهذه
برأي سمير أمين إحدى الخرافات التي قامت عليها موضوعة «التمركز على أوروبا». حيث
بما أنَّ نمط الإنتاج السابق على الرأسماليَّة في أوروبا كان نمط الإنتاج الإقطاعيّ،
ولم يكن هذا هو النظام السائد في الكثير من مناطق آسيا وأفريقيا وأميركا القديمة.
نظر الغرب إلى الأمر على أساس أنَّ هناك خصوصيَّة لأوروبا هيَّأتها لتحقِّق دون
غيرها معجزة الانتقال إلى الرأسماليَّة! يقول سمير أمين: «أوروبيُّو عصر النهضة لم
يعوا أنَّهم كانوا "يبنون الرأسماليَّة". وبالتالي كانوا يُرجعون
تفوَّقهم إلى أسباب أخرى مثل "طابعهم الأوروبي" أو "عقيدتهم
المسيحيَّة" أو "أسلافهم الإغريق".. الخ. إنَّ التمركز الأوروبيّ
يجد جذوره بالتحديد في هذا النقص. بعبارة أخرى يمكن القول بأنَّ بُعد التمركز
الأوروبيّ قد سبق غيره من الأبعاد المكوِّنة للأيديولوجيا الرأسماليَّة المعاصرة». ولكن حين يدقِّق المرء جيِّداً يجد أنَّ الغرب
نظر في الواقع إلى أنماط إنتاج وطبيعة حياة وثقافة الشعوب الأخرى جميعها،
باعتبارها تمثِّل نوعاً من الخصوصيَّة (أو الشذوذ) بالقياس مع "العام"
الأوروبيّ (أو القاعدة) الذي تطوَّر باتِّجاه الرأسماليَّة. وهذه الفكرة تحمل في
داخلها تناقضاً واضحاً؛ إذ أنَّها في الوقت نفسه الذي تتحدَّث فيه عن نوع من
الخصوصيَّة الأوروبيَّة (أو خصوصيَّة الآخرين)، فإنَّها تقدِّم
"الخصوصيَّة" الأوروبيَّة، بوصفها هي النموذج العالميّ الذي يجب أنْ يُقاس
به وتوضع النظريَّات الاجتماعيَّة الاقتصاديَّة والثقافيَّة على أساسه!
وينظر
سمير أمين إلى التمركز الأوروبيّ بوصفه «ينتمي إلى مجموعة الرؤى الثقافويَّة
الطابع؛ إذ أنَّه يقوم على افتراض تواجد مسالك تطوُّر خاصَّة لمختلف الشعوب لا يمكن
إرجاعها إلى فعل قوانين عامَّة تنطبق على الجميع. فله إذاً طابع مذهب مضاد
للعالميَّة فلا يهتم بكشف القوانين العامَّة التي تحكم تطوُّر جميع المجتمعات. إلا
أنَّه يتقدَّم في ثياب العالميَّة إذ أنَّه يقترح على الجميع مضاهاة النمط الغربيّ
بصفته الأسلوب الفعَّال الوحيد لمواجهة تحدِّيات العصر»!
مِنْ
هذه الأرضيَّة انبثقت مقولة أخرى أساسيَّة شاعت لمدَّة طويلة هي مقولة «نمط
الإنتاج الآسيوي»، التي ردَّدها علماء وباحثون أوروبيُّون مهمُّون، وحتَّى من هم
بينهم أكثر جديَّة وبعداً عن العنصريَّة لتفسير التخلُّف والاستبداد الذي يحكم
حياة الكثير من المجتمعات الشرقيَّة وتطوُّرها بصورة مختلفة عن أوروبا! أمَّا سمير
أمين، فقد خرج مِنْ نطاق هذه المعضلة (معضلة التمركز على أوروبا) باتِّجاه اقتراح
قوانين علميَّة شاملة تفسِّر أشكال الصراع الاجتماعيّ المختلفة والتحوُّلات التي
تطرأ على التشكيلات الاجتماعيَّة وأنماط الإنتاج على اختلاف أنواعها؛ وذلك في
أطروحاته حول التخلُّف وحول التشكيلات الاجتماعيَّة وأنماط الإنتاج وطبيعة كلٍّ
منها وعلاقاتها.. بعضها ببعض، وبشكلٍ خاص في أبحاثه حول التطوُّر اللامتكافئ وحول
العلاقة بين المراكز والأطراف.
لقد
رأى سمير أمين أنَّ نمط الإنتاج الإقطاعيّ الذي ساد في أوروبا لم يكن نمطاً
إنتاجيّاً مستقلاً، كما شاع في الغرب (الأمر الذي استدعى الحديث عن نوع من الشذوذ
عن القاعدة في المناطق الأخرى، متمثِّلاً بـ«نمط الإنتاج الآسيويّ»، على سبيل
المثال)؛ بل كان شكلاً طرفيّاً لنمط إنتاج آخر لم يتحدَّث عنه الباحثون، قبله
(أعني قبل سمير أمين)، هو نمط الإنتاج الخراجيّ. وقد وصل هذا النظام في مراكزه إلى
طريق مسدود، كما هو متوقَّع في ضوء أطروحة سمير أمين التي أشرنا إليها في بداية
هذا المقال، عندما بلغ حدوده التاريخيَّة؛ فحدث الانتقال إلى نمط الإنتاج الجديد
انطلاقاً من الأطراف.
ويرى
أمين أنَّه في العالم العربيّ الإسلاميّ والصين والهند كانت تسود أنماط إنتاجيَّة
خراجيَّة مكتملة، بينما في أوروبا
واليابان كان يسود نمط خراجيّ طرفيّ غير مكتمل هو نمط الإنتاج الإقطاعيّ،
لذلك حصل الانتقال إلى نمط الإنتاج الرأسماليّ هناك، وليس في المراكز القديمة.
وتحوَّلت تلك المراكز (مراكز نمط الإنتاج الخراجيّ السابقة) إلى أشكال طرفيَّة
لنمط الإنتاج الرأسماليّ. ولكن توفَّرت فيما بعد ظروف وشروط أخرى لدى كلّ من الصين
والهند لتتمحور حول نفسها (أي تُخضع علاقاتها الإنتاجيَّة لمقتضيات تطوُّرها
الداخليّ) بصورة من الصور، الأمر الذي أدَّى بها إلى تجاوز حالتها الرأسماليَّة
الطرفيَّة.
وبهذا
فقد رفض سمير أمين ما أسماه خرافة المعجزة الأوروبيَّة، أو اليابانيَّة، التي هي
ركنٌ أساسيّ في فكرة التمركز على أوروبا (أو الغرب)، ولجأ إلى وسائل البحث العلميّ
العميق، بدلاً من الاتِّكاء على المعجزات والخصوصيّات واستخدام المفاهيم
والمصطلحات المبهمة، كما هو الأمر لدى الغرب أو لدى سواهم.
ومن
بين الأفكار المنبثقة عن المركزة على أوروبا التي واجه سمير أمين ما تنطوي عليه من
ادِّعاءات علميَّة زائفة، فكرة الأمُّة. ومع أنَّ أبرز محاولة لوضع أساس علميّ
لهذه الفكرة قد جاءت من الشرق، وليس من الغرب، من خلال البحث الشهير في هذا المجال
الذي وضعه ستالين، إلا أنَّ فكرة ستالين لم تخل من تأثيرات المركزة على أوروبا؛ إذ
أنَّه أخذ حالة الأمَّة كما نشأت في أوروبا، واعتبرها هي النموذج الذي يجب أنْ
يقاس عليه بشكل مطلق. وتفترض الأطروحة الستالينيَّة أنَّ الأمّة ظاهرة اجتماعيَّة
أنتجتها الرأسماليَّات المحليَّة. وهذا ما يمكن النظر إليه كنوع معكوس من المركزة
على الغرب. ويرى سمير أمين أنَّه «ما إنْ نخرج من الميدان الأوروبيّ، حتَّى نلاحظ
عدم ملاءمة المفاهيم التي تأسَّست عليها النظريَّة الستالينيَّة للأمّة». ويرى،
بخلاف ذلك، أنَّ ظاهرة الأمَّة ليست مقصورة على الرأسماليَّة، وأنَّها وُجدت في
بعض التشكيلات الاجتماعيَّة السابقة على الرأسماليَّة، وفي العديد من المجتمعات
القديمة.
وممَّا
يجدر ذكره أنَّ لينين، بخلاف ستالين، كان قد حرَّر ماركسيَّته من قيود المركزة على
أوروبا، عندما توصَّل إلى ضرورة ضرب النظام الرأسماليّ في أضعف حلقاته (روسيا
القيصريَّة)، بدلاً من الفكرة السابقة القائلة بأنَّه لا يمكن تغيير النظام إلا مِنْ
مراكزه الأوروبيَّة المتطوِّرة، كما كان رأي ماركس في الأصل. وقد قام لينين بثورته
في تشرين أوَّل (أكتوبر) عام 1917، استناداً إلى هذا التعديل الأساسيّ الذي أجراه
على الماركسيَّة. وانطلاقاً مِنْ هذا توجَّه بعد انتصار الثورة إلى شعوب الشرق
عارضاً عليها التحالف ضدّ النظام الاستعماريّ الرأسماليّ. في حين كان ماركس يخشى
من الصراع اللاحق بين أوروبا الغربيَّة الاشتراكيَّة وآسيا الرأسماليَّة! وهو
تحليل يستند إلى فكرة التتابع لمراحل التطوُّر التاريخيّ التي يرفضها سمير أمين.
وتقوم هذه الفكرة على نظرة تجريديَّة عالية للرأسماليَّة، حيث يكون التركيز على
التناقض بين العمل ورأس المال، وحيث تُبنى التصوُّرات للحدود التاريخيَّة
للرأسماليَّة وإمكانيَّة تجاوزها على أساس مِنْ هذا التناقض الرئيس. وفي رأي سمير
أمين فإنَّ هذا يؤدِّي إلى ما يسمِّيه «تحوُّليَّة» في التاريخ، حيث يتوجَّب، وفق
هذه النظرة، على المجتمعات المتخلِّفة أنْ تلحق بالمجتمعات المتقدِّمة قبل أنْ
تنضج فيها شروط تجاوز حدود الرأسماليَّة. أمَّا هو فيؤيِّد التركيز على ما يسمِّيه
«الرأسماليَّة الحقيقيَّة»، أي «المنظومة العالميَّة التي خلقتها الرأسماليَّة في
توسُّعها والتي تتَّسم باستقطاب وتناقض بين المركز والأطراف، وهو تناقض لا يمكن
تجاوزه في إطار الرأسماليَّة، ومن هذه الزاوية يصبح هذا التناقض بين المركز
والأطراف هو الذي يحتلّ مكانة الصدارة والذي يحدِّد الحدود التاريخيَّة
للرأسماليَّة».
ونستطيع
أنْ نتقدَّم مِنْ هذه المنطقة خطوة أخرى إلى الأمام؛ فننظر إلى علاقة البنيان
الفوقيّ الثقافيّ والأيديولوجيّ بنمط الإنتاج الكلِّيّ السائد، وليس فقط بالنسبة
إلى مكوِّنات الصراع الطبقيّ فيه. ويهمُّنا في هذا السياق، لأغراض موضوعنا، أنْ
ننظر في أطروحة سمير أمين حول التبلور التدريجيّ ل«الأيديولوجيا الخراجيَّة»
الخاصَّة بمنطقتنا. و«منطقتنا» بالنسبة لأطروحة سمير أمين هذه، هي المنطقة التي
تشمل العالم العربيّ والإسلاميّ مِنْ جانب، وأوروبا من الجانب الآخر. ويرى أمين «أنَّ
نقطة الانطلاق في هذا التكوين ترجع إلى عصر الهيلينيَّة في أعقاب توحيد ثقافات
الشرق القديم (مصر وبلاد النهرين وفارس واليونان)
ودمج أهمّ عناصرها كمساهمات جوهريَّة في تبلور الميتافيزيقيا الخراجيَّة».
ويرى أنَّ الهيلينيَّة قد مهَّدت «السبيل للنشر اللاحق للمسيحيَّة ثمَّ الإسلام في
المنطقة، وذلك من خلال تهيئة جو مناسب وبتقديم مفاهيم ذات مغزى عالميّ تخاطب البشر
بكليَّتهم». وبالنسبة له فالهيلينيَّة والمسيحيَّة الشرقيَّة والإسلام هي أشكال
متتالية اتَّخذتها الأيديولوجيا الخراجيَّة. وهي بالنسبة له أيضاً كانت أشكالاً
مركزيَّة مكتفية. ثمَّ يتتبَّع انتقال هذه الأيديولوجيا الخراجيَّة مِنْ إقليم شرق
حوض البحر المتوسِّط المركزيّ إلى الأطراف (غير المكتملة) في الغرب الأوروبيّ، حيث
اتَّخذت شكلاً طرفيّاً في صورة المسيحيَّة الغربيَّة (الرومانيَّة).
أمَّا
الثقافة الأوروبيَّة التي غزت العالم، فيرى أنَّها «تكوَّنت على مرحلتين متتاليتين
متمايزتين؛ حيث كانت أوروبا حتَّى عصر نهضتها في القرن السادس عشر، جزءاً من
المنظومة الخراجيَّة الإقليميَّة التي ضمَّت المجتمعات الأوروبيَّة والعربيَّة؛
المسيحيَّة والإسلاميَّة. وكانت تمثِّل منطقة الأطراف في هذه المنظومة، بينما كان
مركز المنظومة هو منطقة شرق حوض المتوسِّط. ثمَّ تحوَّلت المنظومة المتوسِّطيَّة
في المرحلة الأخيرة مِنْ تطوُّرها إلى نمط بدائيّ للرأسماليَّة اللاحقة، وانتقل
مركز المنظومة الجديدة مِنْ شواطئ المتوسِّط إلى شواطئ المحيط الأطلسيّ، ودخلت
المنطقة المتوسِّطيَّة مرحلة التهميش بالنسبة للمنطقة الأطلسيَّة.
وهنا
يتحدَّث سمير أمين عن خرافة أخرى من الخرافات التي استندت إليها المركزة على
أوروبا، و«مفادها الإدِّعاء بالاستمراريَّة في تاريخ القارَّة الأوروبيَّة وإبداع
جذور قديمة وهميَّة للتضاد بين هذا التاريخ المزعوم وبين تاريخ المنطقة التي تقع على
الشواطئ الجنوبيَّة للمتوسِّط». وبرأي أمين «هذا هو مضمون التمركز الأوروبيّ في
الثقافة الغربيَّة، وهو مضمون يعكس التطوُّر الحديث الذي جعل من البحر المتوسِّط
الحدود الفاصلة بين المركز والأطراف في النظام العالميّ الجديد». وبالنسبة لهذه الاستمراريَّة
المزعومة فهي تفترض «استمراريَّة تاريخيَّة تمتدّ من اليونان القديم ثمَّ روما إلى
القرون الوسطى الإقطاعيَّة ثمَّ الرأسماليَّة المعاصرة». وبرأيه فإنَّ ادِّعاء
الاستمراريَّة هذا «يفترض الشروط التالية: أولاً قطع العلاقة بين اليونان القديم
والبيئة التي نما فيها وهي بالتحديد بيئة "شرقيَّة" وإلحاق الهيلينيَّة
إلحاقاً تعسُّفيّاً ب«الغرب الأوروبي» المزعوم؛ ثانياً الامتناع عن استئصال
العنصريَّة التي لا مفرّ منها مِنْ أجل تأكيد الوحدة الثقافيَّة الأوروبيَّة
المزعومة؛ ثالثاً تكبير دور المسيحيَّة وإلحاقها هي الأخرى- بأسلوب تعسُّفي- بالاستمراريَّة
الأوروبيَّة المزعومة وجعل هذا العنصر أحد أهم العناصر المفسِّرة للوحدة الثقافيَّة
الأوروبيَّة؛ رابعاً اختراع "شرق" خرافيّ يحتلّ المكان المناظر المعكوس
ويتَّسم بسمات مضادَّة لسمات «الغرب».
ويقول
سمير أمين في معرض رفضه لخرافة الاستمراريَّة: «إلا أنَّ هناك مرحلة خمسة عشر
قرناً تفصل النهضة عن اليونان القديمة. فكيف يمكن أنْ يُعتبر التاريخ الثقافيّ
الأوروبيّ متسلسلاً رغم طول هذا الفصل؟ وما هي الأسس التي يمكن اللجوء إليها مِنْ
أجل تأكيد هذه الاستمراريَّة المزعومة؟» ويقول: «لقد اخترع فكر القرن التاسع عشر
نظريَّة العنصريَّة من أجل هذا الهدف بالتحديد».
ويرى
سمير أمين بأنَّه في هذا السياق «لم يُعمل حساب للفلسفة العربيَّة الإسلاميَّة إلا
كوسيلة نقل للإرث اليونانيّ. وكان الرأي السائد أنَّ الإسلام لم يضف شيئاً مثيراً
للفكر اليونانيّ. بل وإنَّه-في حدود محاولته لإنجاز إضافات إلى السابق- قد فشل أو
على الأقل فعل ذلك بأسلوب غير مرض».
ويرى
بأنَّ الظروف التي تبعت الحرب العالميَّة الثانية قوَّت الشعور بالوحدة الثقافيَّة
الأوروبيَّة، ولكنَّها في الوقت نفسه أدَّت إلى تراجع العنصريَّة. الأمر الذي
تطلَّب إحلال بديل لها في الأيديولوجيا الأوروبيَّة، فكانت المسيحيَّة هي الخيار
الذي تمَّ تفضيله. ولكن المشكلة، كما يقول سمير أمين، أنَّ المسيحيَّة «لم تولد
على شواطئ نهر الراين أو نهر اللوار، الأمر الذي فرض على المشروع الأوروبيّ أن
يخترع حيلاً ملائمة مِنْ أجل إلحاق الفكر المسيحي- الذي ينتمي إلى البيئة
الشرقيَّة حيث نشأ- بالفكر الغائي الأوروبيّ التمركز. هكذا لُفِّقت العائلة
المقدَّسة في ثياب أوروبيَّة كما أنَّ آباء الكنيسة المصريّين والسوريّين ضُمُّوا
إلى الفكر الغربي». ثمَّ يقول: «كذلك تطلَّب ضمُّ اليونان القديمة غير المسيحيَّة
إلى سلالة الأسلاف أنْ تُخترع حيل لإظهار تضادّ بين الفكر اليونانيّ وفكر الشرق
القديم، بالرغم مِنْ أنَّ هذا التضاد لا أساس له. بل وجب بيان علاقة تربط قدماء
الإغريق المتحضِّرين مع القبائل الأوروبيَّة التي لم تكن قد خرجت بعد من طور
الهمجيَّة».
هذه
بعض ملامح مساهمة سمير أمين من أجل نظريَّة ثقافيَّة غير أوربيَّة التمركز. وهو
يعترف سلفاً بتخلُّف المعرفة العلميَّة للبعد الثقافيّ للواقع الاجتماعيّ.
وبالنسبة له، لا تعدو الأبحاث التي تناولت هذا الجانب حتَّى الآن أنْ تكون «تأمُّلات
تقوم على الحدس إلى حدٍّ كبير». ويرى أنَّ النظريَّات المقترحة في مجال الثقافة،
لهذا السبب، لا تزال تدور في فلك ما يسمِّيه «التشويه الثقافويّ»؛ أي أنَّها «تقوم على فرضيَّة تواجد
عناصر ثقافيَّة ثابتة تتعدَّى مراحل التطوُّر التاريخيّ». ولذلك فهو يرى أنَّ «المجال
الثقافيّ لا يزال محفوفاً بالأحكام العاطفيَّة أو المسبقة والرؤى الرومانتيكيَّة».
المراجع:
1.
مناخ العصر..
رؤية نقديَّة ـ د.سمير أمين.
2.
ما بعد
الرأسماليَّة ـ د.سمير أمين.
3.
بعض قضايا
للمستقبل.. تأمُّلات حول تحدِّيات العالم المعاصر ـ د.سمير أمين.
4.
التطوُّر
اللامتكافئ.. دراسة في التشكيلات الاجتماعيَّة للرأسماليَّة المحيطيَّة ـ د.سمير
أمين.
5.
أزمة المجتمع
العربي ـ د.سمير أمين.
6.
الأمَّة
العربيَّة.. القوميَّة وصراع الطبقات ـ د.سمير أمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نُشِرَ هذا المقال قبل حوالي عشر سنوات.