جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

ياسر قبيلات ▣

ميدفيديف.. ميدبوتين.. قصَّة ظلّ
يقوم ياسر قبيلات، في مقاله هذا، بإعادة بناء سيرة العلاقة الغامضة لرئيس الوزراء الروسيّ الحاليّ (الرئيس السابق) ميدفيديف برجل روسيا القويّ.. الرئيس فلاديمير بوتين. كما أنَّه يعرض بعض أوجه الشبه (أو الاختلاف) بين أدوار ميدفيديف وبين أدوار آخرين من الفاعلين أو الذين يظهرون كفاعلين في السياسة الروسيَّة.



تجدر الإشارة، هنا، إلى أنَّ كاتب هذا المقال يتقن اللغة الروسيّة اتقاناً كبيراً، ويتابع بشكلٍ حثيث ومدقِّق شؤون السياسة الروسيّة والثقافة الروسيّة، وله العديد من المقالات العميقة في هذين المجالين ، كما أنَّ له كتاب ضخم أعاد مِنْ خلاله بناء سيرة الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين، بعنوان «ألغاز بوتين.. قصَّة حياة وسيرة مهنة». وقد صدر عن دار «الآن ناشرون وموزّعون». وللكاتب أيضاً العديد من الترجمات عن اللغة الروسيّة، وكذلك عددٌ من الكتب والكتابات المنشورة في مجال القصّة والرواية والسيناريو وموضوعات أدبيّة وسياسيّة مختلفة. وهو يعمل منذ سنوات طويلة في الصحافة العربيّة. «المدوَّنة»


ميدبوتين
يشترك رئيس الوزراء الروسيّ ديميتري ميدفيديف مع شخصيتين اثنتين مِنْ شخصيَّات العهد الروسيّ الحاليّ بقواسم مشتركة. الأوَّل ميخائيل بوغدانوف، مساعد وزير الخارجيَّة والمبعثوث الخاصّ للرئيس الروسيّ إلى منطقة الشرق الأوسط، والثاني ميخائيل مارغيلوف المبعوث الخاص لرئيس روسيا الاتحاديَّة إلى شمال إفريقيا الذي تابعناه في الأزمة الليبيَّة وبدايات الأزمة السوريَّة.


قواسم مشتركة
القاسم المشترك الأساسيّ بين الثلاثة هو التصريحات الملتبسة، والارتجاليَّة، التي طالما أثارت بلبلة حول موقف الدولة الروسيَّة الرسميّ مِنْ قضايا جوهريَّة كانت تشغل بال السياسة الدوليَّة في حينها. أمَّا القواسم المشتركة الأخرى فهي ثنائيَّة؛ ومنها، مثلاً، أنَّ ميدفيديف وبوغدانوف يشتركان كلاهما في تخصيص جزءٍ مِنْ تصريحاتهما الملتبسة لسوريا؛ ومنها أيضاً أنَّ ميدفيديف ومارغيلوف يشتركان بكون كلٍّ منهما طارئ على الحياة السياسيَّة. ويشترك الرجلان كذلك بأنهما كلاهما قدما إلى السياسة عبر شركات تأسَّست على الرصيف المحاذي للسياسة، ووصلا إلى مراتب السلطة العليا عبر إدارة حملة انتخابيَّة للرئيس: الأوّل عبر إدارة حملة بوتين الأولى، والثاني عبر إدارة حملة يلتسن الأخيرة (هل في الفارق بين «الأخيرة» و«الأولى» ما يصنع تمييزاً ما.. بين الرجلين؟)..

وفي الجهة الأخرى، تتمثَّل القواسم المشتركة بين مارغيلوف وبين بوغدانوف في كون الأوَّل كان مبعوثاً غاب في غياهب موسكو لنحو عام على الأقلّ من عمر أزمة ملتهبة في منطقة اختصاصه، ولمّا ظهر في منطقته كان مجرد ساعٍ يحمل جعبة بريدية ويدور بها على طالبي زيارة روسيا ولقاء رئيسها، ليحمل رسائلهم وإجاباتهم حول سبب رغبتهم بالزيارة واللقاء..

أمّا الثاني، فغاب كذلك في غياهب موسكو، ولم يعد يجد مِنْ أسباب الحضور سوى الإعلام. وحتَّى هذا المستوى من الحضور سُحِبَ منه في النهاية، وأُفهِم حضوريّاً بأنَّه ليس عليه أنْ يتحدَّث ويحاول التعبير عن موقف الدولة، الذي لا يعرفه أصلاً، وأنَّه مجرَّد موظَّف لا يتحرَّك ولا يتكلَّم إلا بإذن!

مِنْ بين هؤلاء جميعاً، يبقى ديميتري ميدفيديف الأكثر إثارة على الإطلاق؛ فالعلاقة المميَّزة والغامضة بينه وبين رجل روسيا القويّ فلاديمير بوتين تبعث على الحيرة وتثير الخيال. وهي فعلاً جديرة بذلك، فقد بلغت حدّاً غير مسبوقٍ من الثقة؛ إلى درجة أنَّ الأخير يأتمنه على حياته السياسيَّة، ولا يجد غضاضة في تسليمه المنصب الأوَّل والأهمّ في روسيا (الرئاسة).

وهذا، بلا شكّ، أمرٌ يصعب استيعابه بسهولة، ولكنّ فهمه ضروريّ للكشف عن مستوى ودرجة أهميَّة تصريحات الرئيس ورئيس الوزراء ديميتري ميدفيديف القريبة والبعيدة حول سوريا وقضايا منطقتنا والعالم، ويفسِّر سبب تنحَّى ميدفيديف عن القضايا الدوليَّة، وكونه لم يعد يمدّ يده إلى غير قضايا الإدارة والتنمية المحليَّة.


ملاحظات عامَّة
يشترك ميدفيديف مع بوتين في المولد في سانت بطرسبيرغ (لينينغراد). ويفترق عنه في سنة الميلاد: بوتين مِنْ مواليد 1952، وميدفيديف مِنْ مواليد العام 1965. بوتين ولد على أصداء الحرب العالميَّة الثانية والهوامش الفارغة التي تركتها وراءها، وتفتحت عيناه على الفراغ العظيم الذي أحدثه غياب أسطورة ستالين الكبيرة، وهذه في وقتها كانت تشبه صدمة انهيار الاتحاد السوفيتيّ التي عشناها في مطلع تسعينيّات القرن الماضي. أمّا ميدفيديف فقد فتح عينيه على الزمن ما بعد الخرتشوفيّ، وفي لحظة أثبت فيها «النظام» أنَّه أقوى من الارتجال والمبادرات الشخصيَّة، مهما كان نوعها..

وبهذا، ولد بوتين بعقل يواجه احتمالات مفتوحة واجهها والداه العاملان البسيطان، وظهر ميدفيديف على الحياة محفوفاً بمحاولات والديه الأكاديميين للتواؤم مع النظام كيفما كان، وعدم التورّط في تخييب أمله..!

لقد كانت علّة الأكاديميين (خصوصاً، غير المبدعين منهم) دوماً في ميلهم «الفطري» للتواؤم مع الأنظمة، على حسابهم الشخصيّ ومِنْ رصيدهم المهنيّ، وأنَّ اخلاصهم لوضعهم كموظفين أشدّ من اهتمامهم بصفتهم كمثقفين..!

لذا، يؤخذ الفارق بين النشأة في عائلة عمّاليَّة والنشأة في عائلة أكاديميَّة، بعين الإعتبار!

وبالترجمة السياسيَّة لكلِّ ذلك، ننتبه إلى أنَّ ميدفيديف عاش شبابه في ما جرى التعارف على تسميته بعهد الجمود البريجنيفيّ، وأنَّه مِنْ جيل أطفال أبناء الطبقة الوسطى غير الحزبيَّة الذين كانوا يرون في راديو «صوت الحرية» (الشقيق الأكبر لتلفزيونات وإذاعات «الحرة» التي تأسست إبّان احتلال العراق) وعداً بعالم جديد وأفضل. وهذا بالذات يجعلنا ننتبه إلى أنَّ هوايته المفضَّلة منذ صباه كانت الـ«هيفي روك آند رول»، وهو شيء ليس غريباً على أبناء جيله.

وبموازاة ذلك، وبما لا يقلّ عنه أهميَّة، كانت اهتمامات ميدفيديف الأخرى على الدوام رياضيَّة، بينما ولاءاته عائليَّة (أسريَّة) محضة. وهذه الأخيرة دفعته إلى الانتساب للحزب الشيوعيّ السوفيتيّ، ولم يتخلَّ عن هذه العضويَّة إلّا عندما تعرَّض الحزب في العام 1991 إلى حظرٍ لم يدم طويلاً. وهو مِنْ عشرات الآلاف الذين كانوا يعتبرون عضويتهم في الحزب ضرباً من امتلاك دفتر عائلة أو رقم وطنيّ..

أي، ليس في الموضوع ولاءات ولا انتماءات، إنّما هو مجرَّد تدبير للتوافق الاجتماعيّ!

ومع ذلك، لم تأتِ عضويّته في الحزب اعتباطاً. لقد انتسب إليه باعتبار أنَّ عضويَّة الحزب إرث عائليّ، سعى إلى الحصول عليها، وكان يعتقد أنَّه يستحقّها.. تماماً كما استحقَّ ساعة جدّه الذهبيَّة التي آلت إليه حينما وصل سنَّ البلوغ!

وهنا بالتأكيد، وبالطبع، ميول الأكاديميين الانتهازيَّة تفسِّر انتهازيّة العضويَّة الحزبيَّة..!

وعند ذكر ميول الأكاديميين الانتهازيَّة، في الحديث عن ميدفيديف، علينا أنْ نتذكَّر أنَّ هذه الميول لا تمتلك طموحاً سياسيّاً، ولا تطمح خصوصاً إلى الانتقال إلى أجهزة الدولة السياديَّة، وأنَّ أقصى أمانيها يتمثَّل بالحفاظ على وضع وظيفيّ مستقر في المهنة ومجالها وفي مراتبها..

وهذا شيء يشبه ديميتري ميدفيديف تماماً، رغم انقلاب حاله..!

وهذا أيضاً يفسِّر جزءاً كبيراً مِنْ سلطة بوتين عليه، وطمأنينته حياله وانتدابه له للقيام بأدوار مفصليَّة. وبالمفاهيم العشائريَّة الأردنيَّة، نقول إنَّ بوتين رجل أكبر مِنْ عائلته واسمها، بينما ميدفيديف رجل يتردَّد أمام اسم زوجته!


حيثيَّات دراسيَّة
تخرّج ميدفيديف في كليَّة الحقوق في جامعة لينينغراد، وهي الكليَّة نفسها التي تخرَّج فيها بوتين قبله بنحو ثلاثة عشر عاماً. وهذه السنوات الثلاث عشرة هي الفارق العمريّ ما بين الرجلين. (من المؤكد أن هذه السنوات الثلاث عشرة لا تغطي جملة أخرى، كثيرة، من الفوارق الجوهرية بين الرجلين)..

وهكذا، بحساب هذه السنوات، يكون ميدفيديف أنهى حياته الدراسيَّة الأولى في العام 1987، ولكن حياته المهنيَّة الحقيقيَّة بدأت في العام 1990 الذي حمل معه جملة من التطوّرات وضعته على مسافة قريبة من الرجل الذي سيكون لاحقاً رجل روسيا الأوَّل؛ ففي هذا العام، عاد بوتين من مهمّته الاستخباراتيَّة في ألمانيا الشرقيَّة، وحصل ميدفيديف على درجة الدكتوراة وبدأ التدريس في جامعة لينينغراد نفسها والكليَّة ذاتها، بالتزامن مع تولّي بوتين منصب مساعد رئيس الجامعة للشؤون الخارجيَّة.

لم يقضِ الرجلان وقتاً طويلاً معاً في جامعة لينينغراد، فقد انتقل بوتين في العام نفسه بدعوة مِنْ رئيس حكومة لينينغراد حينها أناطولي سوبتشاك (أحد صانعي يلتسن وأهمّ عقوله المفكِّرة) إلى مجلس مدينة (حكومة) لينينغراد مستشاراً لرئيسها ورئيساً للجنة الاتّصالات الخارجيَّة (وزارة علاقات وتجارة خارجيَّة مصغرة). ولكن هذا الانتقال لا يعني أنَّ الرجل فقد صلاته بالجامعة، بل يوحي على العكس أنَّه أضحى مركز جذب كبير، ليس لأهميَّة حكومة لينينغراد فقط، بل لتماسّه المباشر مع رئيسها آنذاك (سوبتشاك) الذي كان نجماً لامعاً في أعوام الاتّحاد السوفييتي الأخيرة، وكان حتَّى وقته، واحداً من المقرّبين والمقرّرين قرب يلتسن.

عموماً، التطوّرات اللاحقة تجيب على السؤال الذي تطرحه هذه السطور حول ما إذا كان الرجلان حينها يعرفان بعضهما البعض أم لا؛ ففي العام 1990 نفسه، حظي ميدفيديف بوظيفة إضافيَّة كمستشار للجنة الاتّصالات الخارجيَّة في حكومة لينينغراد، التي كان قد رأسها بوتين للتوّ. وذلك إلى جانب وظيفته الجديدة كليّاً في الجامعة، التي استمرَّت حتَّى العام 1999..

وهذا تاريخ ذو دلالة؛ في نهاية هذا العام نفسه خلف بوتين يلتسن.

«الحكايات» حول البداية التي جمعت بين الرجلين كثيرة ومتعدّدة. ولكن واقعة أنَّ ميدفيديف بدأ عمله في الإدارة الحكوميّة في حكومة لينينغراد مستشاراً للجنة الاتّصالات الخارجيَّة التابعة لها التي كان فلاديمير بوتين قد رأسها للتوّ، ترجّح الرواية التي تتحدَّث عن اقتراب ميدفيديف مِنْ بوتين في تلك الفترة ودور بوتين في نقلته تلك إلى الإدارة السياسيّة..


وظائف ووظائف
احتفظ ميدفيديف بوظيفته مستشاراً للجنة الاتّصالات الخارجيَّة حتَّى العام 1995. وفي هذا الوقت، كان بوتين، الذي يتمدّد في حكومة لينينغراد، قد تولَّى بعد نحو عامين من تعيينه مسؤولية إدارة العقود والمشروعات التمويليَّة. وفي هذا الوقت نفسه (1993)، قام ميدفيديف بتأسيس شركة «فينسيل»، التي تفرَّعت منها شركة أخرى هي «أليم بالم» المتخصّصة بالخشب. ومن الملفت أنَّ المؤسّس، الذي احتفظ بكلّ مناصبه السابقة، عمل في الشركة الوليدة «أليم بالم» بصفة مدير الشؤون القانونيَّة!

هو مؤسّس الشركة وصاحبها ومستشارها القانونيّ. هناك على الأقلّ صفة واحدة زائفة!

في العام 1994 تولَّى بوتين منصب النائب الأوَّل لرئيس حكومة لينينغراد، وبعدها بأقلّ مِنْ عام ترك ميدفيديف منصبه كمستشار للجنة الاتّصالات الخارجيَّة في حكومة لينينغراد. ومن المفهوم الاستنتاج بأنَّ مشاغل أخرى (أو وظيفة أهمّ) قد دفعته إلى ذلك.

لا. لم يكن يشغله شيء، بل خرج لأنَّ بوتين كان يستعدّ للخروج مِنْ وظيفته في العام التالي!

وهذه لحظة لغز. وتبقى لغزاً إلى هذه اللحظة: هل كان بوتين يعلم أنَّ الحكم قد صدر على راعيه سوبتشاك بمغادرة الحياة السياسيَّة، وأنَّ «القضاء السياسيّ الأميركيّ» قد أصدر حكمه بالإعدام على «ديموقراطيّي» لينينغراد الأوروبيين، لصالح «ديموقراطيّي» موسكو الأميركيين، فبدأ بتوضيب حقائبه و«ميدفيديفـ»ـه، أم كان ذلك ترتيباً عفويّاً أو حدسيّاً..!؟

ولكن قبل ذلك، كانت هناك مقدّمات وحيثيَّات ضروريَّة صنعت مصائر مهمّة!

لقد كانت سيرة بوتين في الإدارة السياسيَّة قد تطوَّرت؛ فلم ينسَ يلتسن ذلك الرجل الحازم الذي قابله في العام 1993 خلال احتفالات لينينغراد بذكرى تأسيسها الـ300، فاستدعاه إلى موسكو في العام 1996، بتنسيب من «العصابة اللينينغراديَّة»، التي كانت «تفشت» في الرئاسة الروسيَّة حينها،..

والعام 1996 هو العام نفسه الذي فشل فيه ملاكه الحارس سوبتشاك في انتخابات الإعادة في لينينغراد..

في موسكو أصبح بوتين نائباً لمدير الشؤون الإداريَّة في الرئاسة الروسيَّة، ومِنْ هناك يردّ الجميل، بمساعدة «كي. جي. بي» لينينغراد، لسوبتشاك الذي تكالب عليه أعداؤه مِنْ رفاقه السابقين في مجموعة يلتسن، مستغلين تدهور صحّته على إثر هزيمته الانتخابيّة، فيساعده بوتين في الهرب على متن طائرة إسعاف طبيّ خاصَّة إلى فنلندا ثمَّ إلى باريس وينجيه مِنْ مواجهة القضاء «الديموقراطيّ» الـ يلتسنـ ـيّ..

كان لدى بوتين الكثير مِنْ ما يشغله ما بين العام 1996 والعام 1999، ويبعده عن استغلال الفرص التجاريَّة والاستثماريَّة التي كانت تقع بكثرة في طريق من هم في وضعه ومرتبته. ولكن من المرجَّح أنَّه لم يفوّت هذه الفرص مع ذلك، وبرغم كلّ مشاغله؛ فقد كانت سيرة ربيبه وظلّه ديميتري ميدفيديف تزدحم بمثل هذا النشاط..

ويمكن لنا، لمزيد من التوضيح، أنْ نعيد بناء هذا الجزء من السيرة المهنيَّة لميدفيديف:

-  في العام 1998 أصبح عضواً في مجلس إدارة «مجمَّع براتسك»، وهي أكبر مؤسسة روسيَّة عاملة في مجال الأخشاب وصناعة الورق. (وهنا عناية بوتين).

-  في العام التالي مباشرة أصبح رئيساً لمجلس الإدارة. (وهنا إرادة بوتين).

-  ثمَّ في العام الذي تلاه (2000)، على إثر تولّي بوتين رئاسة روسيا خلفاً ليلتسن، قفز ميدفيديف قفزة مهولة، إذ تمَّ تعيينه رئيساً لمجلس إدارة «غاز بروم» عملاق الغاز الروسيّ، الذي يُعدّ حتَّى اليوم أحد أضخم الشركات العاملة في مجال الطاقة في العالم على الاطلاق، ويرأسها اليوم أحد أكبر خلصاء بوتين..!

-  وهناك، نشأ لديه اهتمام قانونيّ بعالم البورصة وأسواق المال.. بالعلاقة مع بوتين نفسه وبتكليفٍ مِنْه.


الخطّ السياسيّ
في العام 2000، خاض بوتين حملته الانتخابيَّة للرئاسة الأولى، وكان ميدفيديف إلى جانبه. وكان ميدفيديف هو الرجل الوحيد الذي يملك بوتين أنْ يصرخ بوجهه مؤنّباً، ويستطيع تحميله وزر أيّ خطأ يقع في سياق الحملة، مِنْ دون أنْ يتوقّع أو يتحسّب لعواقب سياسيَّة..

وحتَّى اليوم، لا يزال بوتين يمتلك حقَّ الصراخ في وجه ميدفيديف، متحرّراً من التفكير بأيّة عواقب سياسيّة..!

بعد ثلاث سنوات (2003) ترك ميدفيديف عالم الشركات الكبيرة، وانتقل إلى الرئاسة الروسيَّة مديراً للديوان الرئاسيّ في الكرملين. وفي نهاية العام 2005 أصبح نائباً أوّل لرئيس الوزراء، مكلّفاً بالمشاريع الفيدراليَّة ذات الأولويَّة الاجتماعيَّة الملحّة، التي تشغل الرئيس نفسه ويخصّها بعنايته ويريدها تحت إدارته واشرافه المباشرين (الصحّة والتعليم والعمل.. إلخ).

ومِنْ هنا، مِنْ هذه الملفَّات، صعد ميدفيديف إلى الشهرة المحليَّة في روسيا ووصل إلى ترشيحه المبرمج والمتّفق عليه نهاية العام 2007، وحينها لقي ترشيحه على الفور دعم أربعة أحزاب مهمّة، على رأسها حزب النخبة الحاكمة (روسيا الموحَّدة، روسيا العادلة، حزب المزارعين، القوة المدنيَّة). وبالطبع كان وراء هذا الإجماع ترتيب بوتينيّ..

والعموم الباقي مِنْ سيرة الرجلين معروف. ومذاع في نشرات الأخبار.


خروج عن الموضوع
قبل نحو أربعة أعوام نشرت إحدى الصحف الروسيَّة بمناسبة لقاء ميدفيديف (الرئيس الروسيّ حينها) والرئيس الأميركيّ أوباما، صورة معالجة (فوتو شوب) يظهر فيها الرئيسان الروسيّ والأميركيّ وهما يتصافحان بينما يظهر ظلّاهما على الجدار المحاذي. ولكن ظلّ ميدفيديف لم يكن يعكس شكله هو نفسه، بل كان يعكس شكل بوتين!

والظلّ هنا هو الحقيقة القويَّة الكامنة وراء الكواليس..!

وكانت الصحافة الروسيَّة في بدايات رئاسة ميدفيديف قد رصدت محاولات من الرجل لإقناع العامَّة أنَّه (هو، لا بوتين..) الرئيس، ولكن النجاح لم يكن حليفه.

لم يكن حليفه ليس فقط لأنَّه طوال شهر كامل لم يستطع، ولو لمرّة، أنْ يظهر بمظهر أو موقف بروتوكوليّ رئاسيّ، بل لأنَّ بوتين (رئيس الوزراء حينها) استمرَّ باتّخاذ القرارات في أمور هي في عهدة وصلاحيَّات رئيس الدولة حصراً.

الأمر الخطير هنا أنَّ الإشكالات اللاحقة بين الرئيس وبين الربيب أوجدت فرصةً لمجلس أمناء الـ«كي. جي. بي» ليمارس دوراً «وجاهياً» وازناً. وهذا المجلس، لمن لا يعرف، يشبه أمانة عامَّة مشكَّلة مِنْ أهمّ الضبّاط والمدراء السابقين، وأبرز ضبّاط الاحتياط، وأرفع الضبّاط العاملين..

هذا المجلس يعيد التذكير بأندروبوف، الذي استلم الجهاز الاستخباراتيّ السوفييتيّ في وقتٍ كان فيه عقل الجهاز مسكوناً بخارطة «أيدو- سياسية»، وحوَّله إلى الاهتمام بالجيوسياسة، وأداء وظيفته الحزبيّة مِنْ خلال العمل لحساب الدولة، وأنشأ عصبيَّة الـ«كي. جي. بي» مستفيداً بالتحالف القديم مع «الخارجية» التي كان يقودها آنذاك حليفه غير المعلن الهادئ أندريه غروميكو..!

وعودة على بوتين. لا بل على ميدفيديف نفسه وصورته كإنعكاس لظلّ بوتين..

مِنْ جهتها، علَّلت الصحافة الروسيَّة في حينه سلوك ميدفيديف بحالة غريزيَّة لإثبات الذات، مع التنويه إلى أنَّ هذه الحالة لا تصل إلى حدّ محاولة التأسيس لمستقبل سياسيّ مستقلّ.

وهذه القراءة الصحفيَّة تعيدنا إلى الوسط الأكاديميّ وأخلاقه العامّة..

مِنْ جهة أخرى، تضع الوقائع بين أيدينا احتمالاً آخر يتمثَّل في أنَّ الرجل صاحب الظلّ (بوتين) كان يشجّع ظلّه (ميدفيديف) على تأسيس صورة مستقلّة لغايات محدّدة، خصوصاً قبيل تناوله لملفّات معينّة مطلوب فيها الشدّة أو الليونة. وهذا الإحتمال وسابقه يفسّران تصريحات ميدفيديف، التي تبدو متعارضة مع الموقف الرسميّ.

علينا أنْ نتذكَّر أنَّ «الربيع العربيّ» مِنْ خلال العيون الروسيَّة، وبالذات مِنْ خلال عيون بوتين الاستخباراتيَّة، بدا كهزيمة للسياسة الخارجيَّة الروسيَّة وكعمليَّة استخباراتيَّة غربيَّة واسعة النطاق..

وقد أعلن بوتين هذه القناعة وكرَّر التعبير عنها في أوقاتٍ مختلفة خلال الأعوام الماضية!


مداخلات بوتينيَّة
في تلك الأيام، عاشت الخارجيَّة الروسيَّة مأزقاً حرجاً، وموقفاً عصيباً. ووقتها تمَّ وضع الوزير لافروف تحت سقف الاستفسارات في اللقاءات مع الرئيس. لم يكن ذلك وضعاً مريحاً، وأدَّى الأمر إلى خيارات كارثيَّة، إلى درجة أنَّ صبيَّ الخضار ميخائيل مارغيلوف، بات يفكّر ويقرّر في موقف روسيا من الأحداث العربيَّة الجارية..

طبعاً، أوصلت أفكاره الفذَّة - كما هو معروف - إلى ترك القذافيّ لقمة سائغة لصبيان ساركوزيّ!

عند هذا المفصل الزمنيّ وما تلاه، استعادت الخارجيَّة قوَّتها وصدقيَّتها، وعاد الوزير لافروف سيّد موقفه. وكانت هذه الانعطافة في الازدحامات الروسيَّة الداخليَّة لحظة مهمّة في تمتين الموقف الروسيّ مِنْ سوريا..

ليس لدى لافروف ولاءات عقائديَّة، ولم يعرف عنه ذلك!

هو مهنيّ مفرط. ولكنه كان مبعداً ومستبعداً في الزمن الغورباتشوفيّ والزمن الـ يلتسينـ يّ. وحينما استلم الخارجيَّة شيفاردنادزه، رجل غورباتشوف، بدأت حملة ضدّ رجال الخارجيَّة المصرّين على موضوع الردع والتوازن الدوليّ، وبدأت مرحلة تصنيع الرجال المؤمنين بالدعاية الغورباتشوفيَّة المضلِّلة التي تمَّ تسويقها تحت عنوان أنَّ السياسة مصالح..

مع ملاحظة أنَّ المصالح كانت دائماً أميركيَّة حصراً..!

هنا، علينا أنْ نقرّ في هذا السياق أنَّ ميدفيديف ليس شيفارنادزه، ولا أيّ مِنْ رجاله. وليس مرتبطاً، عبر كندا أو سواها، بمؤسَّسات استخباراتيَّة أميركيَّة مثل منظّر البيروسترويكا ورجل غورباتشوف الأول (ياكوفليف)..

ميدفيديف بالمفهوم الاستخباراتيّ «كليــــَـر»، أو بالروسية «تشيستي». أي نظيف، بلا شبهة!

الصورة مخادعة بطبيعة الحال، وعلينا أنْ نفهم أنَّ ثلاثة أرباع الهجوم على ميدفيديف هي في واقع الأمر هجوم على بوتين. وبوتين نفسه، بشخصه، مليء بالعيوب والكوارث، أمّا بوتين بالإرادة التي يمثّلها فهو الجنون بمواجهة الخيانة (المقصودة أو العفويَّة)..

والجنون هنا ليس نفياً للعقل وعقلانيَّة السلوك..

وعموماً علينا أنْ نفكِّر جيّداً، بميدفيديف وببوتين، وبعلاقتهما، لا سيما حينما نتذكَّر أنَّ روسيا في عهد رئاسة ميدفيديف خاضت حرباً جسورة أخرى، تشبه بوتين تماماً، في جورجيا (2008). وكان ميدفيديف نفسه هو من أطلق حينها تصريحات ذات نبرة تهديديَّة بوجه الغرب، وهو كذلك صاحب أوَّل تلويح روسيّ بالاستعداد لخوض حرب عالميَّة ثالثة، وسوى ذلك من المداخلات المثيرة.

ومع ذلك، تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ حرب 2008 كانت حربَ لافروف، التي أعادت الدور الروسيّ إلى الساحة الدوليَّة، وضيَّقت الخناق على أنصار «إسرائيل» في الإدارة الرئاسيَّة الروسيَّة..

وبالإجمال نحن ذلك، ونعرف أنَّ هذه، كلّها، باتت مداخلات بوتينيَّة..       

وهذه المداخلات ليست مقصورة على ذلك. ليست مقصورة على القضايا الدوليَّة، بل هي أيضاً شيء مارسه بوتين في الداخل الروسيّ وفي ما يتعلَّق بالأحوال الداخليَّة قبل ذلك؛ فقد فاجأ الروس يوماً (أثناء رئاسته) بالأمر بإعادة التحقيق بقضيَّة رئيس الشركة عملاق النفط السابقة «يوكوس»، التي استهل عهده الرئاسي بتفكيكها وبالزج برئيسها وصاحبها (ميخائيل خودوركوفسكي) في السجن. وخودوركوفسكي رجل الأعمال الروسيّ هذا، كان أحد أكبر أعضاء الطغمة المالية والأوليغارش اليهود في روسيا.

ثم كان هو نفسه (ميدفيديف)، الليبراليّ المؤكَّد، مَنْ رفض الإفراج عن الرجل.

وهنا، تجد حادثة سيئول (ربيع 2012)، مكانها في هذا السياق. وهي للتذكير تتعلَّق بحوار مقتضب تبادله الرئيس الأميركيّ أوباما مع نظيره الروسيّ ميدفيديف مِنْ دون أنْ يفطنا إلى أنَّ الميكروفونات أمامهما كانت مفتوحة، فالتقطت الصحافة تلك المحادثة، وهي على النحو التالي:

يقول الرئيس الأميركيّ أوباما: «هذه هي الإنتخابات الأخيرة لي. بعدها سأُظهِرُ قدراً أكبر من المرونة». فيردّ الرئيس الروسيّ ميدفيديف: «لقد فهمت. سأنقل ذلك لفلاديمير فلاديميروفيتش (يقصد بوتين)». ويمكننا أنْ نلاحظ هنا أنَّ ميدفيديف اعتبر كلام أوباما يعني بوتين وأنَّ بوتين هو المعنيّ به، رغم أنَّه هو رئيس البلاد، بينما كان بوتين مجرَّد رئيس وزراء لديه (نظريّاً طبعاً).

والحال أنَّ ميدفيديف، في هذا كله، يضطلع بتكتيكات صغيرة كلّما لاح موعدٌ للّقاء مع نظرائه الغربيين. ويحاول في هذه التكتيكات أنْ يعيد التذكير بشخصيّته كوجه ليبراليّ إلى جوار رجل روسيا الأوّل، لا أكثر. وهو يعرف أنّه حتَّى لو أراد القيام بشيءٍ مختلفٍ، فإنّه لن يستطيع، لسبب بسيط هو عدم وجود قاعدة خاصّة لديه، ولا داعمين، ولا حتّى كارهين أو محبّين. فهو ربيب الرئيس وظلّه.. لا أكثر ولا أقلّ.

الخبر السعيد أنَّ ميدفيديف وكل «الشباب الطيبين» الذين جرّهم وراءه تحوّلوا إلى مجرّد موظّفين. وتمّ إخراجهم نهائيّاً من السياسة الدوليّة، إضافة إلى أنَّ بوتين يتحرَّر من الحاجة إليه في الانتخابات!
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال