هناك
زوجات شهيرات، ولكن الأزواج المحظوظين قليلون. أستطيع أنْ أذكر منهم فيودر
ميخائيلوفيتش دستويفسكي الذي سندته في حياته طيِّبة الذكر آنا غريغوريفنا، وليونيد
إيليتش بريجنيف الذي لم يحسده الناس على منصبه بقدر ما حسدوه على زوجته السيدة
المحترمة، الودودة، والمتواضعة، فيكتوريا بيتروفنا..
ربَّة
بيت حزب الطبقة العاملة!
ناديجدا
قسطنطينوفا كروبسكايا
وأتذكَّر،
هنا، ناديجدا قسطنطينوفنا كروبسكايا، زوجة لينين..!
لا
يذكر أحدٌ أنها لم تنتسب باسمها لعائلة زوجها كما جرت العادة، وكما تجري إلى
اليوم. ولا يسأل أحدٌ لماذا.
وجواب
هذا بسيط: لقد عُرِفَتْ واشتُهِرَتْ باسمها قبل الزواج، لأنَّها كانت شيئاً
متحقِّقاً ومكتملاً قبل أنْ تتزوج لينين، وكانت شيئاً بعد الزواج منه؛ ولم تنتفع
منه أو به، ولكن ذكره ودوره طغيا على ذكرها ودورها، رغم أنَّها كانت أشهر مِنْ أنْ
يتغيَّر اسمها بعد الزواج..
كانت
لينينغراديَّة حقيقيَّة تماماً..!
وُلِدَتْ
في عائلة فقيرة، لأبٍ وكيل أو رقيب بالجيش (لا أذكر تماماً) بميول ثوريَّة دفعته
إلى تأييد الانتفاضة البولنديَّة في ستينيَّات القرن التاسع عشر. وانعكستْ أفكاره
وميوله في شخصيَّة ووجه ابنته، معقودة الشعر، صارمة النظرات، مزمومة الشفتين، التي
تتجوَّل بفساتين تقليديَّة التصميم، مرفوعة الأكتاف..
كانت
لينيناً صارماً آخر دون صلع مبكر..!
التقت
لينين الشابّ في أواسط تسعينيَّات القرن التاسع عشر، وأسَّستْ معه «اتّحاد النضال
مِنْ أجل تحرير الطبقة العاملة». ومِنْ هذه التجربة بدأت الأفكار حول تأسيس حزب
للطبقة العاملة، وهي الفكرة التي تحقَّقت في العام 1903، ومثَّلت انتقال لينين
والمجموعة مِنْ رفاهيَّة السلوك البرجوازيّ الصغير (التفكير) إلى معاناة
البروليتاريا (العمل)..
علينا
أنْ نتذكَّر هنا شيئاً مهماً..!
كانت
الأفكار إلى ذلك الحين تتجوَّل هائمة، ولم يكن مِنْ وسيلة لديها لتحقيق ذاتها إلا
الوسائل الانتهازيَّة مِنْ خلال تملّق السلطة والوصول إلى مناصب. وكان حال مَنْ
يفكِّر بإنشاء حزب للطبقة العاملة يشبه حال (ابن الذين..) الصرعة العبقريّ المجنون
بيتهوفن، الذي تكرَّستْ قناعاته منذ سيمفونيَّته الثالثة، فآمن باندفاع وهوس أنَّ
التاريخ اكتفى مِنْ ألوان المَلَكِيَّة والحكم العائليّ، وأن الأوان آن
للجمهوريَّة وحكم الشعب..!
ولم
يكن العالم قد عرف بعد الحكمَ الجمهوريّ..!
لم
تكن ناديجدا قسطنطينوفنا امرأة عاشت عالة على زوجها، ولا انتفعت منه ولا مِنْ
محيطه، ولا استفادت من سلطتهم أو مالهم أو نفوذهم في تظهير نفسها. بل على العكس من
ذلك، كان الزوج ومحيطه والسلطة عوامل ألقت بظلال حجبت شخصيَّتها ودورها..
ستارة
حجبتها هي بالذات، ولم تحجب سواها..!
هناك،
مثلاً، المرأة اللينينغراديَّة الأخرى، سليلة النبلاء الثريَّة، الفاتنة، ألكسندرا
ميخائيلوفنا كولنتاي، ورائدة ما يمكن أنْ نسمِّيه بـ«النسويَّة الماركسيَّة»،
وأوَّل وزيرة في التاريخ (شغلتْ منصباً وزاريّاً مرموقاً في حكومة لينين)،
وممثِّلة الاتّحاد السوفيتيّ وسفيرته، لسنواتٍ طويلة، في المكسيك والدنمارك
وسويسرا..
وهي
على ما أعتقد أول سفير امرأة أيضاً في التاريخ الدبلوماسيّ..
وهي
أديبة مختلفة ذات نفس روائيّ أوروبيّ، خرجت بقلمها عن هويَّة الأدب الروسيّ ولم
تقع رغم انتماءاتها ومواضيعها الأدبيَّة في دائرة الواقعيَّة الاشتراكيِّة.
وروايتها «حبّ عاملة النحل»، استرعت اهتمام أديبنا الراحل مؤنس الرزَّاز فترجمها
عن الانجليزيَّة، وهي على حدِّ علمي الترجمة العربيَّة الوحيدة..
ألا
نقول يا للعجب؟! ألا يستوجب منا ذلك التفكير..!؟
كانت
ألكسندرا ميخائيلوفنا موهوبة فعلاً، مثقَّفة بجد ومنذ الطفولة، وتجيد نحو عشر لغات
أوروبيَّة بالاضافة إلى لغتها الروسية الأم، وتستخدمها في حاجاتها وحياتها
اليوميَّة (وهذا بكل المعايير شيء مذهل ويستوجب ملاحظة علميَّة).
وكانت
امرأة ذات جمال فادح، لدرجة أنَّني أحمد الله على أنَّني لم أعش في عصرها وبقربها!
في
رقبتها أكثر مِنْ حياة. كانت جميلة قاتلة، يعشقها الرجال ويُسحَرون بشخصيَّتها من
النظرة الأولى، ولما ترفضهم ينتحرون أو تتحطَّم حياتهم أو مهنهم. وكان شائعاً
القول إنَّ «جيش مولانا القيصر مغرم بألكسندرا»، ذلك لأنَّ كلَّ أبناء العائلات
الارستقراطيَّة الذين كانت تلتقيهم ألكسندرا عادة في الحفلات الراقصة يخدمون
ضباطاً في الجيش، ولا يقابلها أحدٌ منهم أو مِنْ جنرالاتهم إلا ويغرم بها..
وكانت
صاحبة شخصيَّة مستقلَّة..!
وكانت
انحيازاتها الحزبيَّة في جهة، وعلاقاتها الإنسانيَّة والفكريَّة في جهةٍ أخرى.
انتمتْ للحزب بعد الإنقسام الكبير الدراماتيكيّ في التنظيم بين بلاشفة ومناشفة،
أخذتْ قرارها وانحازتْ لانتمائها، ولكنَّها بقيت على ميولها. وفسَّرَتْ ذلك
بقولها: «لقد كانت انحيازاتي بلشفيَّة، ولكن سحر شخصيَّة بليخانوف لم يسمح لي
بالقطيعة مع المناشفة»!
القطيعة
وقتها كانت فرض عين..!
الطريف
في الأمر، أنَّ كلَّ الضبَّاط والجنرالات عاشقيها من النظرة الأولى، خائبي الأمل
والرجاء، تحولوا بعد ثورة 1905 إلى منتقمين عاطفيين. استغلّوا مشاركتها بالثورة،
فأثاروا ضدَّها مختلف القضايا المصنَّفة كجرائم درجة أولى، ومنها تنظيم التفجيرات،
فغادرت روسيا ولم تعد إلا بعد ثورة أكتوبر..!
هل
كانت ناديجدا قسطنطينوفنا أقلّ مِنْ ذلك..!
نعم.
لم تكن بهذا الجمال، ولم يكن مظهرها يثير أحداً، حتَّى فلاديمير ايليتش لينين
نفسه. ولكنَّها لم تكن بشعة، بل على العكس مِنْ ذلك كانت كما يقول العرب القدماء
حسنة الوجه، أو كما أقول حضرة جنابي: «هادئة الجمال». وهي على حسب ما يقول غليب
كريجيجانوفسكي: كان بإمكان لينين الشابّ أنْ يحظى بأجمل الجميلات، ولكن لم يكن
بوسعه أبداً أنْ يعثر على امرأة أذكى مِنْ ناديجدا قسطنينوفنا ولا بعقلها..!
وتلك
كانت حاجة لينين الملحَّة: عقل صديق!
الحديث
لا ينتهي عن كولونتاي، ولكن كانت هناك أيضاً روزا لكسمبورغ. امرأة من نفس الجيل.
مولودة في بولندا في عائلة يهوديَّة برجوازيَّة. منظِّرة ومشتغلة بالفلسفة
ومختصَّة بالاقتصاد..
(لم
تلقَ هذه الناحية مِنْ حياتها الاهتمام الواجب!).
كانت
تعيش في ألمانيا، ولكن كان لها حضور روسيّ كبير؛ فبحكم أنَّها بولنديَّة كانت
مواطنة للإمبراطوريَّة الروسيَّة في فترةٍ ما. وخلافاً لكروبسكايا، التي غادرت
الحياة في العام 1939، وكولنتاي التي توفيت في العام 1952، وافاها الأجل قسراً في
وقتٍ أبكر، فقُتِلَتْ في العام 1919 عن 49 عاماً.
عاشت
كروبسكايا نحو 70 عاماً، والفاتنة كولنتاي 82 عاماً..
كانت
روزا رقماً مهمّاً. ولكنَّني بالعادة كلّما سمعتُ باسمها أو تذكّرتها، تساءلتُ
بدخيلتي عن علاقتها بخيانة اليسار الأوروبيّ، وانتابتني رغبة بالبحث عن صلتها
بالتأسيس لتلك الخيانة..
وهذا،
بالمناسبة، لا يعني التشكيك بها هي شخصيّاً.
وروزا
بالمناسبة، خلافاً لـ كولنتاي، وجدت نفسها في مرمى بليخانوف وإنجلز الذي كان يعيش
آخر أيامه، في حربها الرئيسة الأولى، الضروس، وكانت خاضتها ضد الحزب الاشتراكيّ
البولنديّ..
وبليخانوف
كان أوَّل معلميها، وأفضل أساتذتها..!
لذا،
بالاستناد إليه ودونه، عارضت بشدَّة موقف لينين من فكرة «حزب الطبقة العاملة».
الفكرة التي بدأت في عقل لينين مع كروبسكايا في العام 1894، لدى تأسيس «اتّحاد
النضال مِنْ أجل تحرير الطبقة العاملة».
واستشرستْ
لاحقاً في إدانة «الإرهاب البلشفيّ»..
لا
بدَّ من الإشارة إلى أنَّني في الموقف مِنْ روزا أتوقَّف كثيراً عند واقعة أنَّها
تزوَّجت عاملاً ألمانيا، لكي تحصل على الجنسيَّة وتستطيع أنْ تنخرط رسميّاً
بالحياة الحزبيَّة في ألمانيا.
وأتذكَّر
غير كلّ هذا من الأشياء والسلوكيَّات والمواقف..
وإذا
حكَّمتُ رأيي المتواضع ككاتب سيناريو، بحكم أنَّ مهنتي تناهز مهنة الطبيب النفسيّ
في تحليل الشخصيَّات، سألاحظ أنَّ هذه المرأة التي تبدو في صورها قصيرة القامة إلى
حدٍّ مفرط، ليست تلك السيّدة الودودة والمتواضعة، التي حسد الناس ليونيد إيليتش
بريجنيف عليها أكثر مِنْ حسدهم له على منصبه..
إنّها
حينما تخلو إلى نفسها تفكِّر. وتفكِّر بقوة..!
ولكنَّها
حينما تفعل، وتدخل إلى مجال الممارسة، تكون عُصابيَّة، وتتصرَّف بطريقة لا علاقة
لها بما تفكِّر به، وتكون مثالاً للثوريّ الذي يضيع الحدود بين الثورة والجريمة..
وأعتقد
أنَّ علينا أنْ نفكِّر بكارل ليبكنيخت كواحد مِنْ ضحاياها!
ناديجدا
قسطنطينوفنا لم تكن كذلك. لم يُعرف عنها أيَّة شبهة عصابيَّة، وكذلك لم يُعرف عنها
على نطاق واسع أنّها ودودة أو متواضعة، أو أنّها غير ذلك. لم تكن أيٌّ مِنْ صفات
ربَّة البيت صفاتها الأولى. وهي بالتأكيد، لم تكن مثل زوجة ليونيد إيليتش بريجنيف
ربَّة البيت، التي أبرز ما لديها محبَّة زوجها وبيتها، ورعاية أصدقاءه وزملاءه،
واهتمامها بمهنتهم «الرسولية».
كانت
تشبه «الهايبر آكتف» لينين، دون أنْ تكون لينين أو «هايبر آكتف»!
وينتابني
فضول لأعرف الأصل في سيرة لينين. ومتى كان هذا لينين الذي يتحدَّث ويفعل، ومتى
كانت كروبسكايا. لأنَّ هذه المراة أنابت عن نفسها وشخصها زوجها لينين وتوارت
وراءه. ولكن مشهور خلافها الشخصيّ الكبير مع ستالين حول لينين في سنوات مرضه،
وهناك القليل من الكلام والدراسات حول تفاهماتهما اللاحقة التي استمرَّت حتَّى
وفاتها، وأتمنَّى أنْ أجد الوقت لتتبعها..
كانت
خصماً يحسب له ستالين كلَّ الحساب، وحليفاً يطمئن إليه!
كانت
تشبه غوركي العجوز. يدخل على ستالين الواثق ليتركه عند خروجه حائراً ملخبطاً. شيء
يحبّه ولا يتمنّاه لنفسه. شيء لا يشبه ما نعرفه عنها، ولا ما يعكسه الدور الذي
ارتضته لنفسها. توارت وراء زوجها، وانشغلت بالعناية به في حياته، وبإرثه بعد
وفاته. وكان هذا مناسباً للرجل الذي طلب رجال خرتشوف (أدجوباي وتفاردوفسكي) من
سولجنيتسين أن يورده في روايته «يوم واحد مِنْ حياة دينيس دينيسوفيتش» بمعرض الذم
باسم «العجوز أبو الشنبات».
وهنا
لا بدَّ مِنْ إشارة إلى المؤرِّخ الروسيّ ياروسلاف ليستيف..
لقد
اعتنى بسيرة كروبسكايا ونفّل أوراق التاريخ حولها. ليقدِّم فكرة رئيسة: لا يمكن
أنْ يكون هذا «الهايبر آكتف» الفكريّ والسياسيّ، لينين، قد أغرم بتلك المرأة
البليدة التي يقدمونها لنا باسم كروبسكايا. أو أنَّ كروبسكايا نفسها ليست تلك
المرأة البليدة..
ويخرج
بخلاصات مشابهة وتتَّفق مع ما قلت في هذه الكلمات..
قراءاتي
لـ ليستيف في هذا الموضوع ليست كثيرة لأقول أين وصل في النهاية. وليست كافية لأنسب
معارفي وآرائي الواردة في هذا الكلام له. لكنَّني أكتفي بفكرته الأساسيَّة، بأنَّ
هذه المرأة، التي لا أحبها، ليست كومبارساً في مسلسل تلفزيونيّ. ولكنَّها تؤمن
بالحقيقة، ولا تفتنها الشهرة والصيت..
عموماً،
أمامنا أيّام وسنقرأ ونعرف..
ولكن
في الخاتمة، لديَّ ثلاث جمل: أستمد أوّلها مِنْ أيَّامٍ غابرة، ومِنْ معرفةٍ
بلينينغراد وحيواتها السريَّة في الليالي البيضاء والسوداء على حدٍّ سواء، ومَنْ
يعرفها يعرف اللينينغراديين. ومَنْ يعرف هؤلاء لا بدَّ يفتنه أنْ يلاحظ:
لقد
ماتت كروبسكايا، كعادة كلّ اللينينغراديين المبرزين، في موسكو!
الجملة
الثانية تنقل معلومة طريفة: لقد عاش لينين سنواته الأخيرة غرب موسكو في إيلينسك
وغوركي (أعتقد «غوركي 10»). وعاشت معه هناك كروبسكايا وأخته، وكان يعدّ الطعام لهم
سبيريدون إيفانوفيتش بوتين، الطاهي الشهير الذي كان يعمل قبل الثورة في أفخر فنادق
العاصمة بتروغراد «أستوريا»..
وظلَّ
يعدُّ لهم الطعام حتَّى وفاة كروبسكايا في العام 1939..
بعدها
انتقل للعمل في بيتٍ حكوميّ مخصَّص للوزير شيرباكوف، وانتدب ليطهو لستالين عدَّة
مرَّات. وسبيريدون إيفانوفيتش هذا، هو جد الرئيس الروسيّ الحاليّ بوتين (والد
أبيه)، الذي يتذكَّر أنَّه زار جدَّه الطاهي في مكان عمله في عهد خرتشوف، عدَّة
مرَّات.
ويتذكَّر
الحفيد الرئيس جدَّه إلى اليوم بحنينٍ واعتزاز..!
الجملة
الثالثة تتعلَّق بـ ناديجدا قسطنطينوفنا
كروبسكايا، وملخّصها أنَّني لست مِنْ محبّيها، ولكن للحقيقة أحكام. وفي
الحديث عن الحقيقة التي لا أملكها، يتوجَّب عليَّ القول إنَّني قد أكون فعلاً
بعيداً عن امتلاك الحقيقة..
ولكن
قد أكون أشرَّتُ على مغالطة أو نبَّهتُ إلى غبن:
كروبسكايا
عمليّاً، ليست مجرد زوجة لينين، بل هي رفيقته المقرَّبة، ناديجدا قسطنطينوفنا
كروبسكايا، ربَّة بيت حزب الطبقة العاملة، التي يتوجَّب علينا أن نعرفها!
وهي،
في كلّ الأحوال، ليست آنا غريغورفنا، زوجة دستويفسكي!