سعود قبيلات ▣
عُقِدَتْ، قبل سنوات، أمسية أدبيَّة، في
بيت الشِّعر في عمَّان، لاثنين من الأدباء الأوروبيين هما: ماتياس تشوكه (من
سويسرا)، وهانز بليشينسكي (مِنْ ألمانيا).
ويبدو أنَّ الأديب بليشينسكي أراد، مِنْ
باب إلقاء التَّحيَّة على المدينة الَّتي استضافته، أنْ يقدِّم نصّاً يصف فيه رحلته
إليها وانطباعاته الأوَّليَّة عنها؛ وفي هذا السِّياق، قال إنَّه طلب من البنك، قبل
سفره إلى عمَّان، أنْ يوفِّر له دنانير أردنيَّة وأنَّ البنك احتاج يومين ليوفِّر
له طلبه ذاك؛ والمهمّ هو أنَّه عندما حصل على الدَّنانير في النِّهاية وراح يتمعَّن
فيها تفاجأ بوجود صورة لجبل الهيكل عليها!
وهنا
بدأ الحضور، من الأردنيين، يتململون ويلتفتون إلى بعضهم البعض معبِّرين عن
انزعاجهم مِنْ هذا التَّجنِّي الواضح على الحقيقة، لكنَّهم التزاماً منهم بأدب الضِّيافة
لم يظهروا مشاعرهم السَّلبيَّة تلك في الحال؛ خصوصاً وأنَّهم افترضوا، مِنْ باب حُسن
النِّيَّة، أنَّ نوعاً من سوء الفهم الإعلاميّ، أو الثَّقافيّ، كان وراء هذه المعلومة
الخطأ؛ وأنَّ الضَّيف لو كان يعرف الحقيقة ويعرف حساسيَّة هذه المسألة بالنِّسبة
لمضيفيه، لكان تجنَّب وضع نفسه في موضع التَّعارض والتَّناقض معهم في نصٍّ أراد له أنْ
يكون وسيلة للتَّقارب (والتَّفاهم) بينه وبينهم.
وما
إنْ فرغ الضَّيفان مِنْ تلاوة نصوصهما المترجمة، وفُتِحَ بابُ النِّقاش بينهم وبين الحضور،
حتَّى أبدى الأديب الأردنيّ الأستاذ مفلح العدوان، باسم الحضور جميعاً، اعتراضه،
على ما ورد في كلمة الأديب الضَّيف مِنْ كلامٍ مغلوط عن جبل الهيكل، موضِّحاً له أنَّ
ما أسماه جبل الهيكل إنَّما هو قبّة الصَّخرة.
استمع
بليشينسكي لكلام العدوان باهتمام، وبدا متفاجئاً بهذه المعلومة الجديدة، بالنسبة
له، واعتذر عن سوء الفهم الَّذي حدث مِنْ جانبه، فانتهى الأمر في ما يتعلَّق بتلك
الأمسية والضَّيفين والحضور الأردنيُّين عند هذا الحدّ. غير أنَّني، وأنا خارجٌ مِنْ
بيت الشِّعر، رحت أفكِّر على النَّحو التَّالي: هل انتهت المشكلة، فعلاً، عند هذا
الحدّ؟! وإذا كان الأديب هانز بليشينسكي قد اعتذر عن سوء الفهم الَّذي حصل في كلامه،
فماذا عن «سوء الفهم» الأكبر بيننا وبين الغرب بمعظمه؟!
إنَّ
هذه الحادثة قطرة صغيرة مِنْ ذلك المحيط الواسع؛ لكنَّها، مع ذلك، كانت كافية
لتكشف لنا أنَّه أكبر بكثير ممّا كنّا نظنّ ونعرف. ولقد أذهلني، مثلما أذهل
الحاضرين الآخرين في تلك الأمسية الأدبيَّة التَّثاقفيَّة، أنْ نكتشف أنَّ سوء الفهم
قد بلغ من العمق والاتِّساع حدَّ أنَّ مكاناً حقيقيّاً معروفاً ومقدَّساً جدّاً
لدى حوالي ثلاثمائة مليون عربي ومليار مسلم، طُمس تماماً من على الخريطة الغربيَّة
ومن العقل الغربيّ ليحلَّ محلّه مكان لا وجود له إلَّا في الأسطورة التَّوراتيَّة ولم
تنجح كل محاولات الإسرائيليين الحثيثة والباهظة الكلفة في العثور على أيِّ أثرٍ له
لا في القدس ولا في أيِّ مكانٍ آخر مِنْ فلسطين!
وما
لبثتُ أنْ قلتُ لنفسي: ولكن لماذا العجب؟ لقد سبق أنْ أزيل، من الخريطة الغربيَّة
ومن العقل الغربيّ، شعبٌ بكاملة، وشُطب تاريخه الطَّويل على أرضه، وألغي حقُّه
الطَّبيعيَّ مثل كل الشُّعوب في وطنه، وأُحِلَّ بدلاً منه شعبٌ تكوَّن في الأسطورة،
وأصبح تاريخ الشَّعب الحقيقيّ المنكود الحظّ، بالتَّزوير، هو تاريخ هذا الشَّعب المفبرك
صاحب الحظوة، وأرض ذاك أصبحت أرض هذا، والحقوق التَّاريخيَّة انتقلت بنفس الطَّريقة مِنْ
أصحابها الأصليين إلى هؤلاء الوافدين الطَّارئين، وبطبيعة الحال اُعتبرت حربُ
الاغتصاب حربَ تحرير، وحربُ التَّحرير حربَ إرهاب، ويوم إتمام الاحتلال وتشريد الشَّعب
المنكوب عيداً سنويّاً للاستقلال وليس يوماً للنَّكبة والمأساة كما يجب أنْ يكون.
ولقد
أصبحت «الدَّولة» الَّتي قامت على هذا الأساس الباطل هي الأصل والأساس في العقل الغربيّ
وهي الحقيقة الواقعة؛ أمَّا الشَّعب الَّذي سُلبت حياته الطَّبيعيَّة الآمنة الَّتي كان
يحياها على أرضه، وشُتِّت شمله، وشُرِّد إلى مختلف بقاع الأرض، ولوحق (ولا يزال)
بالقتل والتَّدمير، وزُجَّ عشرات الآلاف مِنْ أبنائه في المعتقلات والسُّجون
ليتعرَّضوا فيها لأبشع أنواع التَّعذيب والإذلال الَّذي لم تشهد مثله حتَّى معتقلات
وسجون النَّازيّين المشهورة، فهو غير موجود، وعذاباته غير مرئيَّة؛ بل إنَّ معذِّبيه
هم مَنْ يحظى بالعطف ويتحدَّث المتحدِّثون في الغرب عن «عذابهم» و«شتاتهم».
وهكذا
فقد أصبح للأسطورة، في عقل الغرب – الَّذي من المفروض أنَّه تجاوز هذه المرحلة
البدائيَّة من التَّفكير – قوَّة أكبر بكثير مِنْ قوَّة الحقيقة!
وليس
الأمر عائداً، فقط، كما يشاع في العادة، إلى أنَّ الطَّرف المعتدي كان، ولا يزال،
أكثر نشاطاً مِنْ أصحاب الحقّ في نشر أكاذيبه وتزويره للحقائق؛ بل لأنَّ هناك في
واقع الغرب مصالح استعماريَّة واستغلاليَّة تتوافق مع هذا الخطاب الزَّائف، وتجد
أنَّ من المفيد لها إشاعته وترسيخه في عقل الإنسان الغربيّ العاديّ.
وعلى نطاق أوسع مِنْ ذلك فقد قام في العقل
الغربيّ بنيانٌ هائل من الأوهام والتَّصوُّرات المزيَّفة حول الشُّعوب الأخرى، لتبرير
النَّهب المتواصل لثرواتها، والاستغلال البشع لإنسانها وطاقاتها، وقهر إرادتها،
والحطِّ من كرامتها وإذلالها، وفرض حالة التَّبعيَّة والتَّخلُّف عليها.
ولكن
يكفي أنْ ننظر ونتأمَّل في المثال الَّذي ذكرناه لنعرف حجم المأساة؛ فإذا كانت قبَّة
الصَّخرة، وهي ما هي، قد أصبحتْ، بكلِّ خفَّة ويسر، جبل الهيكل، فكيف، إذاً، بالنِّسبة
للمفاهيم والمواضيع الأقلّ وضوحاً وعيانيَّة؟!
وإنَّ
من أشكال النِّفاق المركَّب، لدى الغرب الاستعماريّ، إبداءه، بعد كلِّ هذا، حرصاً
غيرَ حقيقيّ وغير مخلص على القيم الإنسانيَّة المشتركة، ثمَّ استغرابَه المسرحيَّ لعدم تشارك الشُّعوب الأخرى معه في تلك القيم!
وكلّ
هذا بينما هو نفسه لا يلتزم بقيمه المدَّعاة الَّتي يُكثر من الحديث عنها، كما أنَّه
لا يشيع أجواء إنسانيَّة تساعد على إتمام عمليَّة التَّشارك تلك؛ بل على العكس مِنْ
ذلك فإنَّ مواقفه وممارساته وتوجُّهاته تدفع الآخرين إلى عدم النظر بجدِّية إلى كلّ
ما يدَّعي أنَّه يعتنقه مِنْ قيمٍ ومفاهيم.
والواقع
أنَّ الغرب غير معنيّ أبداً بأيَّة قيم أو مفاهيم سوى تلك الَّتي تضمن سيطرته
وهيمنته وتوفِّر له سبل الاستغلال والنَّهب الآمن، أمَّا ما عدا ذلك فهو مرفوض
تماماً مِنْه، ولديه الاستعداد التامّ لاستعمال كلِّ سبل القهر والإخضاع مِنْ
أجل وقْفِهِ وإنهائه.
الغرب،
مثلاً، يتحدَّث كثيراً عن الدِّيمقراطيّة، وهو مستعدّ لدعمها وتأييدها إذا ما
تحقَّقت في بلدٍ ما، لكن بشرط أنْ تأتي إلى السُّلطة بالنُّخب الكمبرادوريَّة
الكوزموبوليتيَّة الموالية له. أمّا إذا أتت إلى السُّلطة بنخب ديمقراطيَّة
حقيقيَّة، ووطنيَّة بالضَّرورة، فإنَّه يشرع على الفور بصبّ جام غضبه عليها، ويسعى
ليل نهار وبكلِّ الأساليب والسُّبل للتَّخلُّص منها ومِن الآليَّة الدِّيمقراطيَّة الَّتي
أتت بها.
والغرب، أيضاً، يتحدَّث عن حقّ الشُّعوب في تقرير
المصير، كلّما كان ذلك مواتياً له؛ لكنَّه، بكلّ ما يملك مِنْ الإرادة والعزم،
يعارض منح هذا الحقّ لشعب فلسطين ولأيّ شعبٍ آخر.. إذا كان ذلك يتعارض مع مصالحه
الإمبرياليَّة الجشعة.
وهو
يقدِّم نفسه بوصفه علمانيّاً عصريّاً متنوِّراً؛ لكنَّه لا يتورَّع، مع ذلك، عن
الأخذ بالأساطير التَّوراتيَّة البدائيَّة ورفض الحقائق الثَّابتة العيانيَّة، وهذا ما
قاده ويقوده إلى رفض قيام دولة ديمقراطيَّة علمانيَّة في فلسطين، في الوقت نفسه
الَّذي يدعم فيه ويؤيِّد بكلّ حماس وثبات وجود دولة يهوديَّة خالصة على تلك الأرض، ويعمل بحزم على ضمان بقائها وهيمنتها على محيطها، مع أنَّها لا تستند إلى أيّ أساس
سوى الأسطورة التَّوراتيَّة!
إنَّه يؤيَّد «حق العودة» إلى «أرض الميعاد»
لأناسٍ تقول الأسطورة أنَّهم كانوا في تلك الأرض قبل أكثر مِنْ ألفي سنه، ولا يرى
مثل هذا الحقّ يجب أنْ يُتاح – بالمقابل – لأناسٍ ما زالوا يحتفظون بمفاتيح بيوتهم الَّتي شُرِّدوا
منها قبل بضع عشرات من السِّنين.
وهو
يكثر من الحديث عن السَّلام وضرورته وعن الحرص على حياة الإنسان ومكانته؛ لكنَّه لا
يبالي بكلِّ ما ترتَّب ويترتَّب على انحيازه لمشروع إحياء الأسطورة التَّوراتيَّة
مِنْ مآسٍ وويلاتٍ لملايين البشر.
لقد
ساعد الغرب، بالنَّتيجة، على إلغاء حياة شعبٍ آمِنٍ مسالمٍ كان يعيش على أرضه حياةً إنسانيَّةً طبيعيَّة، مقابل منح تأييده ودعمه لقيام وبقاء كيان استيطاني طارئ وغير
طبيعيّ لم يستطع منذ تأسيسه وحتَّى الآن ولن يستطيع في أيّ يومٍ من الأيَّام أن
يعيش حياةً إنسانيَّةً طبيعيَّة.
ولقد
خلق الغرب، بالنَّتيجة أيضاً، مشكلةً مستعصيةً لم يكن لها وجود ولا أساس في هذه
المنطقة قبل تدخُّله فيها وإتيانه إليها بالحركة الصّهيونيَّة الَّتي هي بالأساس حركة
غربيَّة استعماريَّة عنصريَّة، وأعني بذلك مشكلة الصِّراع العربيّ اليهوديّ؛ حيث عاش
اليهود في السَّابق في ظلّ الدَّولة العربيَّة الإسلاميَّة حياةً طبيعيَّة، ووصلوا إلى
مناصب عليا فيها، ولم تكن تُثار ضدّهم آنذاك أيّة مشاعر تمييزيَّة عنصريَّة.
ويكفي
لمن يريد أنْ يعرف حقيقة الموقف العربيّ من اليهود سابقاً أنْ ينظر في كتاب «ألف
ليلة وليلة»، على سبيل المثال، ليرى أنَّ الشَّخصيَّة اليهوديّة فيه موصوفة بأحسن
الأوصاف الَّتي كانت سائدة في الثَّقافة العربيَّة الإسلاميَّة آنذاك.
إنَّ
الجريمة الأساسيَّة هنا هي أنَّ مشكلة عانى منها الغرب (ويعاني، من حين لحين، بغضّ
النَّظر عن اختلاف ضحيَّته في كلِّ مرَّة) قد تمَّ نقلها إلى العالم العربي
والإسلاميّ وتوطينها فيه عنوة.
ولقد
تغيَّر وجه المنطقة منذ ذاك بشكلٍ جذريّ، وأُدخِلت في توتُّرات وصراعات مأساويَّة لا
أوَّل لها ولا آخر، ولا أحد يعرف كيف ومتى ستتمكَّن من الخروج مِنْ هذا الجحيم
الشَّامل لتستعيد حياتها الإنسانيَّة الطَّبيعيَّة؛ خصوصاً مع استمرار الغرب في
التَّعامي عن حقيقة المشكلة وجوهرها الإنسانيّ، واستمراره في التَّعامل معها بشكلٍ
ظالم واستفزازيّ.
ثمَّ
يأتي منهم، بعد ذلك، مَنْ يتصنَّع البراءة، بل والسَّذاجة، ليطرح أسئلة مِنْ مثل:
لماذا كلّ هذا العنف في المنطقة العربيَّة والإسلاميَّة؟! أو لماذا يكرهوننا؟! وما
إلى ذلك من الأسئلة الزَّائفة المغلوطة.
نحن،
بالطَّبع، لا ننظر إلى الغرب ككتلة صمَّاء واحدة، وإذا كنّا قد استخدمنا في هذا المجال
مصطلح «الغرب» بصيغته التَّعميميَّة، فما ذلك إلا للدَّلالة على الاتِّجاهات السَّائدة
فيه، المعبِّرة عن مصالح الطَّبقة البورجوازيَّة الاستعماريَّة المهيمنة بالذَّات،
وليس للدَّلالة على الشُّعوب الغربيَّة بكاملها، ولا سيّما المتنوِّرين والمنصفين من
أبنائها. بل إنَّنا نرى أنَّ مَنْ يلجؤون للتَّعميم، في نظرتهم إلى الغرب، مِنْ أبناء جلدتنا،
أو مِنْ أبناء الشُّعوب الأخرى المضطهَدة.. بشكلٍ عامّ، إنَّما هم يدعمون ويعزِّزون
مفاهيم الاستعمار وقيمه، شاءوا ذلك أم أبوا، أدركوا أم لم يدركوا؛ لأنَّهم في
النِّهاية يستخدمون منطقه التَّعميميَّ العنصريَّ نفسه.
من
الضَّروريّ القول ِفي هذا المقام أنَّ المواقف الإنسانيَّة المنصفة لبعض رموز الفكر والثَّقافة
والسِّياسة في الغرب هي عوامل إيجابيَّة مؤثِّرة وفاعلة في التَّأسيس لإعادة الثِّقة
والتَّفاهم بين شعوبنا وبين شعوب الغرب.
وبديهيّ أنَّ العلاقات المبنيَّة على الثِّقة والتَّفاهم بين الشُّعوب هي فقط الَّتي تبقى وتستمرّ
وتواجه المحن. أمَّا المجاملات الدّبلوماسيَّة بين الحكومات، وأمَّا الرَّوابط
الوثيقة بين الدَّوائر الاستعماريَّة في الغرب وبين النُّخب العميلة لها في الشَّرق أو
في العالم الثَّالث بوجه عامّ، فهي لا تصنع سوى التوتُّرات والأزمات وسوء الفهم بين
الشُّعوب المضطَهدة والمستغَلَّة وبين شعوب الغرب.