روزا
لوكسمبورغ -
كلّ
مساء، حين أكون جالسةً أمام النافذة المشرعة ممدَّدة القدمين على كرسيٍّ آخر،
أتنفَّس هواءً نقيّاً وأحلم، يصلني مِنْ مكان ما من الجوار، ضجيجٌ متواصل، لسجَّادٍ
يُطرق بحماس، أو لشيءٍ مِنْ هذا القبيل.
|
روزا لوكسمبورغ تخطب في جموع الثائرين |
أجهل تماماً صاحب هذا العمل ومكانه. ولكن
التكرار المنتظم لهذه الأصوات، يشعرني وكأنِّي على علاقة حميمة بهؤلاء الناس.
هذه
الأصوات توقظ فيَّ صوراً مبهمة عن نشاطٍ منـزليٍّ كثيف، عن بيتٍ صغير، كلّ ما فيه
لماع ونظيف، ربَّما كانت صاحبته إحدى سجَّاناتنا التي لا تجد متسعاً للعناية بشؤون
منـزلها الصغير إلا في وقتٍ متأخِّرٍ من الليل؛ حين تنهي خدمتها.
إنها ولا شك،
أرملة أو عانس وحيدة مثل أغلب سجَّاناتنا، تمضي وقت راحتها القليل في إعادة ترتيب
غرف منـزلها البسيط التي لا يدخلها أحد، وتكاد هي لا تستعملها إلا نادراً.
لا
علم لي بشيء محدَّد بالطبع، ولكن أصوات الطرق هذه تشعرني بالراحة. براحةٍ مرتبطةٍ
بنظامٍ ومحيط ٍمحدودٍ قليلاً. وفي نفس الوقت، أغتمّ لفكرة الأفق الضيِّق والوجود
الوضيع البائس: خزانة «مرتيكو»، صور فوتوغرافيَّة علاها الاصفرار، زهور
اصطناعيَّة، ديوان قليل الطراوة.. أتعرفُ ذلك الانطباع الناجم عن أصواتٍ نجهل مصدرها؟
مررت
بهذه التجربة في كلّ السجون. في «زويكاو» مثلاً، كانت بطَّتان تعيشان في مستنقعٍ
قريب توقظاني في الثانية بعد منتصف الليل تماماً، على صوت نداء: «كوان، كوان،
كوان، كوان».
كان أول الأصوات الأربعة عالي الوتيرة، فيه إصرار وقناعة تامَّان. ثم
ينخفض الصوت على إيقاعٍ منتظم، ليتلاشى إلى وشوشة جهيرة خافتة. كان هذا الصراخ
يوقظني، فأحتاج دوماً لعدة ثوانٍ في الظلام، لأتلمَّس اتِّجاهي على الفراش القاسي
كالحجر، ولأتذكَّر أين أنا.
كان
الإحساس الدائم ببعض الضيق في الزنازين، والتدرُّج الخاصّ لأصوات «الكوان كوان»،
وواقع جهلي التامّ بمكان وجود البطّ، إذ لا أسمعها إلا في الظلمة، هذا كلّه كان
يمنح ذلك الصراخ، شيئاً من الغموض والدلالة الخاصَّة. كنت أظن نفسي أستمع إلى حكمة
كونيَّة، يجعلها التكرار المنتظم كلّ ليلة، ذات طبيعة مؤكَّدة وصحيحة منذ بدء
الخليقة، مثل قاعدة الحياة القبطيَّة هذه:
«في
أعالي السماوات الهنديَّة
وفي
أعماق السراديب المصريَّة
لم
أفعل غير الإنصات إلى القول المقدَّس»
إنَّ
جهلي بمعنى حكمة البطّ هذه، وكوني لم أكن أمتلك إلا حدساً مبهماً حيالها، كان يُغرق
قلبي بقلقٍ غريب. واعتدت في كلّ مرَّة، أن أظلَّ بعد ذلك مستيقظةً لوقتٍ طويل،
مكتئبة.
كان
الأمر في «برمستراس» مختلفاً تماماً. كنت آوي إلى فراشي مرغمة، في التاسعة ـ لأنَّ
الضوء كان يُطفأ ـ ولكن طبعاً لم أكن أغفو. بعد التاسعة بقليل، ووسط السكون
الليليّ، كان يرتفع مِنْ أحد تلك الأبنية الكبيرة المواجهة، الشبيهة بالثكنات،
بكاءُ صبيٍّ صغير في الثانية أو الثالثة. كان ذلك يبدأ دوماً ببعض أصوات الأنين المتقطع
المنتزع من النوم ثم يتحوَّل الأنين إلى نحيب.
كان الصبيّ الصغير يبكي بطريقةٍ
مؤثِّرة ولكن بلا أيّ حدَّة، بلا أيّ تعبيرٍ عن ألمٍ أو رغبةٍ محدَّدة وكأنَّ
بكاءه انزعاج عامّ من الوجود وعجز عن مواجهة الحياة ومشاكلها وخصوصاً افتقاده
للماما البعيدة على ما يبدو، عن متناول يده، وكانت هذه الدموع العاجزة تستمرّ
ثلاثة أرباع الساعة بالضبط.
في
العاشرة تماماً كنت أسمع صوتَ الباب يُفتح بقوة ووقعَ أقدامٍ سريعةٍ وخفيفةٍ تملأ
الغرفة الصغيرة برنينها، وصوتَ امرأةٍ واضح النبرة، فتيّاً، ما زال يعبق بهواء
الشارع المنعش، و - «لماذا لا تنام»، «لماذا لا تنام» ثم صوت ثلاث صفعاتٍ محكمة
التسديد تذكِّر بهذه المنطقة من الجسم الصغيرة اللذيذة المستديرة، المحتفظة بكلّ
حرارة السرير.
ويا للعجب كانت الصفعات الثلاث، كأنها تحلّ بنفس بساطة خروجها، كلَّ
المشاكل المعقَّدة في الدنيا. فيتوقَّف البكاء وينام الصبيّ الصغير فوراً ويسود في
الباحة مِنْ جديد، صمتٌ مريح .
(……)
لم
أدرِ أبداً مِنْ أيِّ شُـبَّاكٍ محاطٍ «بالجيرانيوم» مِنْ أيِّ سقيفة كانت هذه
الشبكة تُنسج باتجاهي. كانت كلُّ المنازل التي يمكن رؤيتها في ضوء النهار الساطع،
تبدو رماديَّة، باردة، مغلقة بلا رحمة، وكأنَّها تقول «لا أعرف شيئاً».
فقط
في ظلمة الليل، مع تلك النسمات الصيفيَّة الدافئة، تُنسج هذه العلاقات الغامضة بين
كائنات لم تتعارف ولم تلتقِ مِنْ قبل.
آه!
ما زلت أذكر قصّةً حلوةً مِنْ أيَّام «الإسكندر بلاتر». إنَّ إقامتي لمدة ستة
أسابيع هناك قد شيَّبت بعض شعري وأحدثت في أعصابي تصدُّعاً لن يشفى، ورغم ذلك تبقى
لي ذكرى صغيرة تتألَّق في ذاكرتي كالوردة.
هناك،
كان الليل يهبط من الخامسة أو السادسة، إذ كنا على مشارف نهاية الخريف، في تشرين
الأوَّل، وكانت زنزانتي خالية مِنْ أيِّ إنارة. ولم يكن بمقدوري أن أفعل في زنزانة
الـ11 متراً مكعباً تلك غير أن أتمدَّد على جنبي محشورة بين مفروشات لا توصف،
منشدة بصوتٍ خفيض أشعار «موريك» العزيزة عليَّ، وسط الزمجرة الجهنَّميَّة للمترو
المارّ باستمرار هازّاً الزنزانة بعنف، ملقياً أضواء حمراء على الزجاج المرتجف.
ولكن
بدءاً مِنْ العاشرة، كانت الموسيقى الجهنَّميَّة للقطارات، تنخفض رويداً رويداً،
وتبدأ أصواتُ حادثةٍ صغيرةٍ تجري في الشارع، تصل إلى الأسماع: أولاً صوت فتاة
صغيرة في حوالي الثامنة، تجري وتقفز وهي تغنِّي «لازمةً» ما، وتنفجر ضاحكةً، ضحكةً
فضيَّة وصافية مثل رنين جرس. ربما كان الرجل أحد البوَّابين، متعب ومتذمِّر، يصرخ
على ابنته الصغيرة أن تأوي إلى المنـزل للنوم. كانت العفريتة الصغيرة ترفض أن
تطيع، تاركةً نفسها تُنادى وتُلاحق بالصوت الجهير للأب الملتحي.
كانت
تمرح في الشارع مثل فراشة وتشاكس والدها الذي يحاول الظهور بمظهرٍ صارم بينما هو
يغنِّي لحناً مرحاً. وكنتَ كأنك ترى بالفعل، التنانير القصيرة تتمايل والسيقان
النحيلة تطير في خطواتٍ راقصة. وكان يشعّ من الإيقاع الراقص للأغنية، من الضحكة
اللؤلؤيَّة، فرحٌ بالحياة عابثٌ وظافرٌ إلى حدِّ أنَّ مباني إدارة البوليس
القاتمة، كانت تبدو مغلَّفة برداءٍ من الضباب الفضيّ وأنَّ زنزانتي الكريهة
الرائحة، كانت تمتلئ بما يشـبه رائحة الورد الجوريّ حين يُنثر على الأرض.. هكذا
يمكن أن تلتقط في الشارع، في أيِّ مكانٍ، بعضَ السعادة فتتذكَّر على الدوام أنَّ
الحياةَ جميلةٌ وغنيَّة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*العنوان
من اختيار «المدوَّنة». أمَّا المادَّة المنشورة تحته، فهي مِنْ كتاب «رسائل حبّ»،
وهو مِنْ ترجمة رندة الشهَّال، وقد صدر في بيروت في أواخر سبعينيَّات القرن الماضي
عن «دار ابن خلدون». ويضمّ الكتاب رسائل روزا لوكسمبورغ، من السجن، إلى حبيبها هانز
ديفانباخ، الذي كان مجنّداً في الحرب العالميَّة الأولى كطبيب، وقد قُتِل في تلك
الحرب عام 1917. وكانت روزا، عندما قُتِلَ ديفانباخ، لا تزال في السجن. وهذه
الرسالة مكتوبة في سجن قلعة فرونكة في بوزفانيا في ألمانيا.
ولِمَنْ
لا يعرف شيئاً عن روزا لوكسمبورغ، نشير إلى أنَّها عُرِفَتْ كقائدة ثوريَّة بارزة، واشتُهرَتْ
بمؤلَّفاتها النظريَّة والسياسيَّة الرفيعة، وبمجادلاتها العميقة مع كبار مفكِّري الماركسيَّة
وقادتها البارزين، في زمانها، أمثال: لينين، كاوتسكي، برنشتاين ..إلخ.
وقد
سُجِنَتْ روزا في العديد من البلدان (بولونيا وروسيا وألمانيا). كما كانت مِنْ أبرز
قادة انتفاضة 1918- 1919، في ألمانيا، إلى جانب القائد الثوريّ المعروف كارل ليبكنخت؛
حيث شاركت في تلك الانتفاضة منذ لحظة خروجها من السجن، واشتُهرت في الذاكرة الثوريَّة
العالميَّة بمشهد وقوفها إلى جانب ليبكنخت على شرفة القصر الإمبراطوريّ عام 1918، إبّان
الإعلان عن قيام الجمهوريَّة الاشتراكية الألمانيَّة الَّتي لم تعمِّر.
وبالنتيجة،
لم يكن مصير روزا بأفضل مِنْ مصير حبيبها ديفانباخ؛ إذ ما لبثت الانتفاضة أن أُخمدت
عام 1919، وأعيد اعتقالها هي وليبكنخت، وقُتلا مِنْ دون محاكمة.. بأعقاب بنادق حرَّاس
السجن. وقد وصفها لينين، بعد اغتيالها الوحشيّ، ذاك، بـ«نسر الماركسيَّة المحلِّق».