د. ناديا خوست
|
في يمني الناظر إلى الصورة "إربد" وخلفها جبل الشيخ مكلَّلاً بالثلج، وفي اليسار بودابست يتهادى وسطها الدانوب |
بحثتُ في ديوان أسد محمد قاسم المنشور، عن باقة من
الأوراق كان يلاحظها مَنْ يزوره، مستقرة فوق المقعد الذي يجلس عليه، بين مجموعة من
صحف وقصاصات ودفاتر قديمة. كانت أمامه طاولة عليها إناء زهر فيه وردة، وفواكه
وكأس، وأحياناً بعض البندق والفستق.
هناك أمضى الوقت الطويل يستعيد السنوات الجامحة،
والأحداث العاصفة، وحرارة العواطف وتقلب الأهواء.
وهناك استمع
إلى نشرات الأخبار، وتابع أمجاد الانتفاضة الفلسطينية، وتأمل المجازر، وتفرج على
زبَد المؤتمرات الصحفية، محللاً الأحداث التي تجرف المنطقة العربية، مستشفاً
الخرائط والمصائر. وكان يصوغ استنتاجاته بدقة، ويوقد غضبه على الأنظمة العربية
والمنظمات والأحزاب. متنقلا بين الأنقاض التي كوّمها المنتصرون، طوال عقود، فوق
الأرض العربية والمعسكر الاشتراكي. وخلال ذلك يتناول ورقة من المقعد قربه ليسجل
عليها، بأي قلم يجده قرب يده، بيتاً أو فكرة قد تصبح قصيدة، وقد تبقى شطراً يبحث
عن بقيته.
وهناك كان يبهر مَنْ يستمع إليه من زواره بتحليله
العميق. هل كان أصدقاؤه قادرين على إبعاده عن هواجسه، ليرفع نظره إلى العالم الذي
لا يسكن تحت قصف الطائرات، ولا يستكين أمام هدير الدبابات؟ لعله هو الذي كان
يجرّهم إلى غيظه، ويضع أمامهم مسائل أخرى، منها حال المثقفين الذين لا يتبينون
الغزو الثقافي في الحداثة وخطر إلغاء ديوان العرب!
لن يجد القارئ في الديوان المنشور، الظلال والألوان
التي تنساب أو تضطرم عادة في الشهادات، وتكمل الملامح بتنوع الشهود. بل يجد مجموعة
من القصائد لم تصنّف بمنهج يعتمد السنوات أو الموضوعات أو أمكنة الكتابة، وتختلط
فيها القصائد القديمة والجديدة. مع أن أسدا كان يثبّت قصائده في دفاتر ويحرص على
تأريخها. لكن القارئ سيمسك بمنظومة أسد الفكرية والأخلاقية، المؤسسة على الايمان
بوحدة شعوب بلاد الشام، ومكانة فلسطين في الضمير العربي، والحلم بمجتمع إنساني
عادل، وفضائل الصدق والتقشف والتواضع لحمّالي المشروع الوطني.
نتبيّن في هذا الديوان بسهولة سمات القصائد التي
كتبها أسد بين سنتي 1952 – 1958. ونسمع فيها صوت جيل شغلته مسألة الحرية، واندفع
في مقاومة الأحلاف العسكرية، وفي التضامن مع الضحايا والمقاومين من بغداد ولبنان
والجزائر إلى إيران وغواتيمالا وفيتنام. في صوت أسد هناك قوة وثقة ربّتها منظومة
فكرية تسندها قوة عالمية منتصرة، ونخبة كتاب ومثقفين يتصدرون العالم، ونهضة أحزاب
محلية تبدو متماسكة.
كتب في قصيدة عن الضابط الإيراني شافعي (الذي
أُعدِمَ في عهد الشاه):
نحن الضحايا النازفات جراحنا نحن النذير
غدنا قريب لن تؤخره سجون أو قبور
لتعش بلادي حرة وليسقط الفاشست والشاه الحقير
(سنة 1954)
وكتب في قصيدته عن حلف نوري مندريس:
هذي الجماهير الغفيرة في دروب القاهرة
وبكل زاوية وساح في دمشق الثائرة
وبساحة الشهداء والأردن تهتف هادرة
الموت للعملاء أعداء الشعوب
وليوم تصفية الحساب مع الطغاة غد قريب
(سنة 1955)
وكرر الأمل في قسَم:
نحن أقسمنا على أسيافنا
بضحايانا
بآلام أسرانا الرهيبة
أن ينام النوم في أجفاننا
ويجوع الجوع في أحشائنا
كي نرى الأرض التي نعبدها
حرة كالنجم
في ليل عميق الصمت صائف
فاقذفي بالموت في آفاقنا
فجرنا الزاهي على الباستيل يا بلهاء زاحف
(سنة 1956)
وكتب في قصيدة بور سعيد:
أهلي هناك
على شواطئك الجميلة كالرماح
يقفون في وجه الردى سدا لتبقى أمتي
لا لن تذلّ
ولن تذلّي يا طليعة أمتي
(سنة 1956)
وفي قصيدة
لن يمروا:
وهنا يندحر القرصان مصاص الدماء
(سنة 1956)
وفي قصيدة عهد:
يا رفيقي
أنا لم أيأس وما ضيعت في الليل طريقي
يا رفيقي
أنا لم أيأس فإن العزم كالبركان يغلي في عروقي
(1958)
وكتب في قصيدته «أغنية إلى لبنان» الذي كان يقاوم
شمعون وجنود الأسطول الأميركيّ:
فاجتثّ جذور خيانتهم وغداً بغداد وتطوان
(سنة 1958)
في تلك الأيام وصل أسد حتى عواطفه الشخصية بموقفه
السياسي في قصيدته «طلب للزواج».
عبّر بهذا الصوت عن روح عامة. وكان أثر أحداث
الخمسينات واندفاعها واضحاً في أدائه ومفرداته. وكأنه صاغ الشعارات الوطنية في أناشيد.
لكنه لم يبح بالشعر عن مواقف مهمة شهدت على عمق نظرته السياسية، كموقفه من «الثورة
المسلحة» في زمن هبوط شعبي. أو ربما ضاعت قصائده التي كتبها عن ذلك في فترة التنقل
بين دمشق وبغداد وبيروت.
استمر صوت الخمسينات في بعض قصائد غربته، وخاصة
قصائد المناسبات. لكنّ صوتاً آخر، صوتاً عميقاً حزيناً متمرداً صدح في قصائد
الفترة الثانية، قصائد غربته. تجسده قصائد السنوات 1986/87/ 88.
في الغربة الطويلة في البلاد الاشتراكية واجه أسد
الخلافات التي سهّلها بُعد المنظمات عن أوطانها ومجتمعاتها، وانتقالها من مكانها
وسط الحياة السياسية إلى عطالة الغربة. واصطدمت أحلامه بهوامش العلاقات الإنسانية
في المجتمع الاشتراكي. واكتشف أن المسائل التي كانت تبدو له سهلة بسيطة، متشابكةٌ
ومعقدة. وفوجئ بنفوذ الصهيونية في البلاد الاشتراكية. واطلع على فساد قيادات
المنظمات العربية السياسية ومنها منظمات المقاومة الفلسطينية. وأطلّ من مرصد
الغربة على الوطن العربي، على وهن المؤسسات الرسمية السياسي والأخلاقي، والمسافة
بينها وبين الحاجات الوطنية ومصلحة الأمن القومي العربي، والفرق بين سلوك
القياديين والأفكار التي يبشّرون بها. هل بدا فرداً عاجزاً أمام الفساد
والتناقضات، فلم يرها في سياق الصراع الكبير الذي تتنوع تجلياته في المراحل
التاريخية؟
خبا الأمل الرومانسي الذي كان يختم قصائد
الخمسينيات. وتبددت ثقة أسد في تغيير يتناول الحاضر. لكن ذلك لم يمسّ موقفه من
القضايا العربية المركزية والثوابت العليا. فبقي حتى اللحظة الأخيرة واضحاً، مؤمناً
بالمبادئ الوطنية التقليدية التي تستند إلى تجارب الماضي، وإلى فهم المشروع
الصهيوني. لذلك يتميز أسد بأنه لم يتوقف عند تفاصيل الصراع، بل وضعها وسط مشروع
وحشي واسع. تمتد التفاصيل من دير ياسين إلى كفر قاسم وصبرا وشاتيلا، وتقفز إلى جنين
ودير البلح وبيت حانون. لكنها لن تنتهي هناك:
بيني وبينك برزخ من دم
غابٌ من الأجساد تنقصها رؤوس
سأحدث الأطفال عن أشباح صبرا كل شيء
عن طفلة وئدت بريئة
جوعانة حرمت على كفيك من حق الولادة
في دير ياسين السبيّة
(بودابست سنة 1985)
وستكتمل بخريطة تمتد على الأرض العربية والعالم.
لذلك نسمع في قصائد الفترة الثانية التي تجسدها
سنوات الثمانين، حزناً عميقاً، ونغمة جديدة من الحكمة، وبحثا عن سند في الماضي
العربي. وتبدو في تعقيد لغة هذه القصائد ثمار التأمل الفكري والموضوعات المؤرقة،
والشعور بقلق المواطن وألم الروح.
عمّقت معرفة أسد الصهيونيين المجريين، واطلاعه على
المصادر الصهيونية، موقفه من قضية فلسطين. ففهم، قبل مأساة اجتياح العراق ومذابح
جنين وبيت حانون ودير البلح، اتصال مصير فلسطين بالتوازن في العالم وبمعايير الصدق
والشرف والعدالة فيه.
وكأنه رفد، في مستوى جديد، نبوءة عازوري في بداية
القرن العشرين: ستكون فلسطين قضية عالمية. كتب أسد في مقهى هنغاريا الذي أحبه،
قصيدة «من وحي جدال مع إيرفين الصحفي الصهيوني المجري».
وكتب «لقاء صدفة مع صهيوني مهاجر إلى فلسطين» معبراً
عن قهرِ إنسانٍ فلسطينيٍ ممنوع من العودة إلى وطنه، وزهو يهوديٍ مهاجر إلى ذلك
الوطن. ثبّت أسد في هذه القصيدة يقينه العميق بأن الجمع مستحيل بين المشروع
الصهيوني، والوطن الفلسطيني والأمن القومي العربي. وعلّق فيما بعد على جدار في
بيته، قصيدة أمل دنقل «لا تصالح»، لكنه لم يعلق قصيدته. يقول المستوطن في قصيدة
أسد:
أنا موشي جبوتنسكي من كييف
عائد بعد غد للناصرة
أرض أجدادي وحلمي الذهبي
فيردّ عليه أسد:
واحد منا عليه أن يموت
كي يفوز الآخر الباقي بحب الناصرة.
هذه المواجهات مشاهد من رؤية واسعة تميّز بها أسد.
أحاطت بأرض البشر، واعية أن الصراع العربي الصهيوني متصل بالتوازن العالمي وبمصير
البلاد الاشتراكية. وقد استشف أسد مؤامرة كبرى، انقلاباً عالمياً يطوي نتائج الحرب
العالمية الثانية، ويقتلع القوى التي تسند القضايا العربية. وجسّد ذلك في قصيدة «نجمة
صهيون». بدأ هذه القصيدة بداية بليغة، «الليل طويل». وأوجز فيها تجليات الصهيونية
التي خبرها بنفسه:
تنين برؤوس ستة
ينشب في ظلي أنيابه
يتحدث بلغات عدة
لا يحصي أحدٌ ألقابه
قد يبدو حيناً قواداً
وسفيراً حيناً
ورئيساً في مبغى تملكه الثورة
صحفياً حيناً
أو شيخاً يلثم فلاح ورع بخشوع أعتابه
ورئيساً ملكاً أحياناً بالجند يرصّع أبوابه.
تكتمل هذه القصيدة بقصيدة «المؤامرة». ونخمّن الجو
الذي اختنق فيه أسد في آخر سنواته في بودابست. كان غورباتشوف يومذاك ينسج تسليم
مركز البلاد الاشتراكية لعدوها العالمي. ويقلب، باسم الإصلاح والديمقراطية
والتجديد، موضوعات الصراع الكبرى التي استقرت طوال القرن التاسع عشر والقرن
العشرين:
وتضيق حولك يا صديقي الدائرة
وتضيق حولي يا صديقي الدائرة
والجو مشحون بروح مؤامرة
(سنة 1988)
طوّقت أسداً حشود من الهموم القاتمة. في مستوى
العالم كله بدت التفاصيل خانقة. في ذلك البحران لم يكن يوجد بعد رد. وزاد القلق أن
القيادات العربية لم تقدّر خطر أن تفقد مركزاً عالمياً يسندها. فأين الحلّ لشاعر
اختار أن يكون ضمير هذا العصر، مغنّياً للشعب لا للقصر؟ يقاوم أسد بالأمل
التاريخي:
يا قومي انظروا
إني أرى في الأفق فجراً زاحفاً
أنواره جلّت عن الأوصاف
(بودابست سنة 1986)
لكن حلمه بالوطن يخبرنا عن الحقيقة:
سافرت في حلمي فأرجعني
حرس الحدود عن الحدود
بتهمة التهريب يا وطني
جرمي الخطير جموح أشواقي
لأحبابي
لضريح أجهله ويعرفني
(بودابست سنة 1987)
ثبّت أسد ثقته بالغد التاريخي. لم يحلم بفكّ أطواق
الواقع. كأنه خمّن غياب القوى التي تستطيع أن تغيّر حالاً بحال، أو تردّ القدر
الذي يفتل الحبال. بهذا نفسر خيط الحزن الذي حاك به أسد قصائد هذه الفترة. وأوحى
له باختيار المترجمات من فترة صعبة في تاريخ المجر. وسيحمل أسد من هذه السنوات
خيارين: الجنون أو الانتحار. وسيردّد ذلك في آخر سنواته، وقت غابت عنه حتى القشة
التي بدت «ملاذاً لغريق». فعاد يقول:
يا تراباً صيغ منه بدني لا تعذبني. كفاني عد تراب
تأتي قصيدة «الجنازة» بعد قصيدة «المؤامرة»، مؤرخة
بالسنة نفسها والشهر نفسه. وتأتي ترجمة «السراب» بعد أيام من كتابته «الجنازة».
ألا يرسم لنا هذا الجو الذي أحاط به عشية انقلاب كبير امتحن المؤمنين بالاشتراكية،
والقوميين المستندين إلى قوتها العسكرية والاقتصادية، والبلاد الصغيرة التي تستقوي
بنفوذها الدولي؟ واكب انهيار المعسكر الاشتراكي انهيار آخر في حياة أسد الشخصية،
قصّ علاقاته الإنسانية، ودمّر ما شيده في عقود، أسرته وبيته وعلاقته بالمدينة التي
ظنها مأواه، فترك مكتبته ومقاهيه وثلاثة عقود من حياته وعاد إلى بلده.
لم يجد مدينة الذاكرة، ذات البيادر والحقول ودفء
التراحم. ولكن أليس قدر الإنسان أن ينطلق بحلم ويعيش بمشروع! يمكن أن توصف الفترة
الثالثة من حياة أسد بكلمة الشاعر العربي: ما أضيق العمر لولا فسحة الأمل! غمرت
أسدا حرارة الصداقة، والحفاوة به، والأشواق إلى الماضي، والرغبة باستعادة ما ضيّعه.
زرع الورد والعشب في حديقته، وخيل إليه أنه يصوغ مشروعاً ثقافياً وشخصياً لحياته.
استمر ذلك التوهج حتى تبين أن الناس الذين كانوا يصغون إليه قبل عقود انصرفوا إلى
مشاغلهم وصغائرهم، وأن مدينته (إربد) تغيرت، وفهم أن الانهيار العالمي يلحقه إلى
شارعه وبيته، ويقصد شرقه، وطنه العربي، قضيته الفلسطينية. بل ردّد لي: سورية
مقصودة! وكان يخاف عليها، مؤمناً بأنها ظهر فلسطين، ولأنه يحب دمشق.
في بداية هذه الفترة الثالثة كتب قصائد جميلة نشر
بعضها في هذا الديوان دون تأريخ. وقد سها فأخطأ في تأريخ إحداها. هذه الفترة الثالثة
قصيرة. بترها اكتشافه أنه دون مشروع، وأن حلمه وهم. ولم يكن في سعة، هو الذي تعود
أن ينفق على الكتب والشراب، وأن يشتري زهوراً ويهدي عطوراً ويمدّ موائد ويدعو إلى
مطاعم. وقد تكون كرامته حسمت قراره الأخير. ويبدو أنه تقمص في أيامه الأخيرة
الشعراء المنتحرين الذين ترجمهم.
ما أعجب أن يكتمل مسار الكتّاب عندما يقطعون صلتهم
بالحياة، فيصبحون شهوداً على زمن! وقد كان أسد قاسم شاهداً على فترة تاريخية خفقت
فيها الأحلام الوطنية الكبرى، وشغلتها موضوعات التحرر الوطني والوحدة العربية
والحريات الديمقراطية والحريات الفردية والشخصية، ومفهوم الاشتراكية والعدالة
الاجتماعية. فترة تاريخية تزينت بالانتصارات وعبَرت الهزائم.
ولم يكن أسد شاهداً متفرجاً، بل كان شريكاً ذاق
المرارة مع المهزومين، واختال بغرور مع المنتصرين، وسبق المتمردين. كان محملاً
بالأوهام عندما حطّ في البلاد الاشتراكية، مزهواً بأمجاد المعسكر الاشتراكي في
العلاقات الدولية، وفي الاقتصاد والثقافة والتغيير الاجتماعي، وتأمين حقوق الإنسان
في التعليم والصحة والسكن والعمل. كان ابن أسلوب تربوي ومنظومة فكرية تؤلّه
المُثُل، ويأسرها الثبات، ولا يمكن أن تخطر لها الردّة في المراحل التاريخية.
كان كل ما يتصل بالمعسكر الاشتراكي مقدساً كأنه نقاء
أبدي. فقُدر له أن يتبين هناك أن الانتصارات الكبرى لا تستقر في مكاتب وإحصاءات،
ولا تختم التاريخ، بل تقع وسط صراع مستمر يفترض أن يبقى حمّالوه في قامة مسائل الحياة
المتجددة، وأن يكونوا صاحين منتبهين دائما إلى العدو. تنبأ أسد، قبل السياسيين
الذين يفترض أن يعنيهم ذلك، بانهيار المعسكر الاشتراكي. ورأى تسرب المنظمات
الصهيونية إلى قمة المراكز السياسية والفكرية فيه. وحفر ذلك جرحاً عميقاً في روحه.
هكذا اجتمعت عواصف الزمن العام، وجموح زمنه الشخصي.
فعاش في عتمة النكبة، وتوهّج الصبا، وأحلام العرب باستعادة فلسطين. ثم في تألق
حركة التحرر الوطني العربية ومشاريع العدالة الاجتماعية، وتدفّق الأحزاب والمنظمات
في الشوارع. وأسعدته الألوان البراقة التي رسمت مجتمعات إنسانية نقيّة، بريشة
بورجوازية مثقفة مثل خالد العظم وسليمان النابلسي، وبأقلام مجموعات اشتراكية،
وبأقلام تيارات دينية متنورة يتقدمها العلايلي وخالد محمد خالد. وانعكس ذلك في
الأحلام والعواطف الشخصية. فبدا القهر طارئًا والنكسات مؤقتة. وعبّرت عن ذلك حتى
العمارة فاعتزّت المدن بأصالتها، فعرف أسد دمشق المدثرة بالغوطة، ذات المقاهي
المظللة بالأشجار، دمشق التي تبدو فيها الحياة نزهة، وتملكها الطبقة الوسطى، ويعلو
فيها المثقفون، وتستطيع الكلمة فيها أن تغيّر قدراً. وعرف بيروت ذات الأسواق
القديمة، ذات الأبنية الوردية المطرزة ومقاهي الشاطئ اللازوردي، المحاطة ببساتين
البرتقال والمشمش الهندي والزيتون وأحراش الصنوبر. ثم بغداد المتكئة على دجلة، ذات
البيوت العربية والشناشيل، المحاطة بالنخيل والنارنج.
عاش أسد في هذه المدن العربية وسط الصفوة السياسية
والفكرية، أكانت معه أم ضده. وخبر من قربٍ تفاصيلها. وعاش في البلاد الاشتراكية
وسط النخبة العربية والأجنبية. فأطل على المراكز التي يصاغ فيها القرار السياسي،
وعرف حدوده ومصادره ومراكز ضعفه وأسباب مقتله. وسّع أسد ثقافته بالقراءة، وسهّل
ذلك إتقانه لغات البلاد التي عاش فيها. ففهم النفوذ الصهيوني في البلاد
الاشتراكية، وتوجس من الفساد في المجتمع الاشتراكي. وأهّلته شجاعته للتنبيه إلى
ذلك فنال غضب السياسيين العرب الذين حصروا مساراتهم بين مكاتب حكام تلك البلاد،
والمصحات والمنتجعات والفنادق والأسواق، ورفضوا الاعتراف بأن المجتمعات الاشتراكية
يمكن أن ترتدّ إلى الرأسمالية.
كان أسد موهوباً بالحدس المرهف، والقدرة النادرة على
الاستشفاف، واستبطان المصير، وقراءة المستقبل. لكنه لم يملك الضرورات الأخرى:
السيطرة على الهواجس، والقدرة على ستر الروح، والمهارة في لجم الغضب، والحوار في
هدوء، والصبر والحذر. استأثرت به روح الشاعر الجامحة وأهواؤه المتنوعة. تمرد على
نظام النهار والليل، وعلى فروض العمل الفني التي تستأثر بالوقت والروح. فانساب في
نشاط شفوي، وتجلى في حديثه وبرَق وتوهج. ونثر صوراً أدبية تغري بكتابتها، وآراء
نقدية تحتاج من يتابعها، وموضوعات تقترح من يقتفيها. فكانت صياغته الشفافة لا تترك
حتى مسودات. كان كمن يحتاج «لقّاطين» يمشون خلفه ليجمعوا الحبوب التي ينثرها.
ألأنه لم يملك الصبر على الكتابة، أم لأنه لم يقدّر موهبته، أم لأنه لم يعتمد
الشعر مهنة يكرس لها روحه، أم لأنه ضيع مَنْ يخاطبه؟ رفض أيضاً أن يسجل أحداث
حياته الغنية. مع أنه كان يعي أنها شهادة ثمينة على زمن وأشخاص وأحداث، وأنه يجب
ألا يستأثر بها فتتناثر بعده.
يبدو لي أن أسداً لم يكن كالكتّاب الذين يتخلصون من
الموضوعات بكتابتها. لم يكن يقطع حبل السرّة بمولوده أبداً. رسم مثلاً في صورة
ساخرة أحد القادة الفلسطينيين. فأوجز بُعد القيادة المشغولة بحساباتها وتجارتها عن
شعبها الأسطوري. لكنه لم يتخلص من المادة التي استولدت تلك القصيدة. فظل مرهقاً
بتفاصيل اولئك القادة. وظل يردد دهشته لأن أحدهم قال له: هل تُحسب ثلاثون ألف
دولار سرقة؟ أسس ذلك وجعه الروحي العميق. ويأسه من حلّ في الشروط الراهنة. وكانت
أزمته الأخرى أنه لم ينتم إلى الغربة مع أنه اختال فيها برشاقة السمكة. لكنه شعر
بالغربة عن سياق الحياة في وطنه. كتب في قصيدة «مرارة» المؤرخة في سنة حاسمة من
حياته:
السنين الباقيات القادمات
فارغات
ككؤوس الخمر عند الفجر في رأس السنة
صامتات متعبات...
وكأنه كان يردد صدى قصيدته الأخرى «لحظة مرارة»
المؤرخة في كانون الثاني سنة 1980.
يخيل إلي أن الوجع هو الخيط الذي ينظم ديوانه
المنشور. وجع روحي واسع يتصل ببنية الحياة في وطنه وفي الأرض، يتصل بالتوازن بين
الخير والشر، وبالمسافة بين الحلم ومساراته الممكنة والممنوعة. وصل أسد مع الكتّاب
الذين ترجمهم إلى الذرى التي تطل على قرارات الموت البراقة كالنصل، وحزن العواطف
المتكبرة. وعلى تلك الذرى تماهى، هو المعتز بكبريائه حتى الغرور أحياناً، مع
صيّاغها. فلم تكن علاقته بهم أقل حرارة من علاقته بمعاصريه. نكاد نسمع صوته في
قصيدة «الحظ» التي كتبها الشاعر المجري يوهان جيولا قبل انتحاره بقليل. ونكاد
نخمّن ساعة أسد الأخيرة، وقراره الباتر:
لست أبغي جدلاً يا أيها الحظ معك
فهو لغوٌ فارغٌ مادامت السلطة لك
إنني أمضي إلى الليل
ولا شيء معي
فحُنينٌ إن تشأ خفّاه لك
.....
أشكر الأحلام والأيام والصفو معا
وسأنسى كل ما أتعسني أو ودّعا
نلت أفراحاً ولكني أنا أيضاً منحتْ
بعض ما عندي
وأمضي الآن وحدي مسرعا
بائساً لم ألق في الدنيا لرأسي موضعا
(بودابست سنة 1963)
اختار أسد قصيدة الشاعر الألماني هاينه «غروب»، في
الروح نفسها:
أقبل الموت، سأمضي
ليس دون الموت حيله
كانت «أطلال» أم كلثوم نشيد سنتي أسد الأخيرتين.
كانت تشاطره شجنه. فهل كان الصرح الذي هوى حب امرأة؟ بل أظن أنه كان يطلّ على عالم
انتهى، على أصدقاء رحلوا، على جيل طوي. وكان يرى بحدسه المرهف، كالمنجّمين،
الأحداث القادمة! كان يرى الهزيمة الشاملة! لأنه قرأ في الواقع قوتين فقط، القوة
العالمية الوحشية المنتصرة، والأنظمة العربية الرثّة، والأحزاب المتهالكة
المقسّمة. ولم يستطع أن يتعلق بمفاجأة تلبس فيها المقاومة ملامح أخرى ومشروعاً
جديداً. وهل كان تحرير جنوب لبنان متوقعاً بعد الهزائم العربية والعالمية! هل كان
متوقعاً النهوض اللبناني الوطني المدهش بحكمته وثقافته السياسية الواسعة وتنظيمه
الرائع، ومهارته في مقاومة قوى عظمى ماكرة؟ من كان يتوقع أن يقدم الوطنيون
اللبنانيون درساً في أشكال الحوار الجديدة، وتنظيم الجموع في مستوى رفيع، والرد
على السوقية المحلية والشراسة العالمية بديمقراطية تعلو على أية ديمقراطية غربية؟
وبعد، من منا لم يعان من أثر الخيبة العامة وهو يشهد
غروباً كبيراً وبداية دامية عصفت بالعالم وكانت بؤرتها منطقتنا! تناول ذلك الزلزال
أحلامنا وأوهامنا. لكننا لا ننجو فقط بالإيمان بسياق التاريخ الذي يستدير في
منعطفاته، وبقوى جديدة يستولدها، بل بالمكان الذي ننغرس فيه، وبمشروعنا له. على
مِثلنا تصعب الحياة دون مشروع. وكان أسد في أيامه الأخيرة دون مشروع، ولم يكن
يقدّر هول التقاعد يوم قال في حديث صحفي مبكر إنه متقاعد. ولعلنا نطلب منه قوة
خارقة كي يخترع لنفسه صلة بمحيط متخلف استنفر أسد عداوته. وكي يؤمن بنصر انتفاضة
شعبه، هو الخبير بفساد قادتها. كان شاقاً عليه وسط تلك الصور المجسدة أن يؤمن
بقدرة الشعب على الانتصار. ولم يملك القوة كي ينفذ المشروع الأدبي الذي تحدث عنه
أو لينشر مجموعاته الشعرية. فكان ينوس بين فرح مقتضب هائج يوهمه بأن الصورة التي
يتخيلها ستكون حقيقة في ملمس أصابعه، ويأس راسخ يبعده عن رؤية ما بين يديه. كان
لديه الوقت الممتد الذي يتمناه المثقلون بالواجبات، لكنه كان يرميه غير راغب به.
وبدت سعادته ذات شروط مستحيلة، تبدأ من انقلاب العالم في هواه، وانتشار خيمة
الحرية على الدنيا، وسقوط الفساد من الكون، وتنتهي بخاتم لبيك الذي يقدم له الحب
بالمقدار الذي يريده وقت يريد وكما يريد. كانت لديه قدرة مذهلة على التفاني، وقوة
مذهلة على الحب وعلى الكره. كان يستطيع أن يكون مرحاً وسعيداً إلى حد مذهل،
ويستطيع أن يكون قاتماً وتعيساً دون حدود. وبقوة الإرادة رفض في سنته الأخيرة
العالم، وقت تبيّن أنه دون حلم، ودون مشروع، فأغلق بابه على هواجسه، وقطع صلته
بأصحابه الذين يمكن أن يلغوا قراره.
هل نبحث في «لو» التي كان يمكن أن تستبقيه؟ لنلومه
لأنه لم يسجل ذكرياته الثمينة للمجموعة، ولأنه رفض الأيام الأخرى التي كان يستطيع
أن يعيشها؟ ولنبرئ أنفسنا كشروط وظروف ومجموعة وأفراد كان يمكن أن ترد عنه غربته
الأخيرة! ولكن ألسنا أبناء أول الحضارات الإنسانية الكبرى التي تأملت مسألة الحياة
والموت منذ جلجامش، وحاولت أن تفتح البوابة التي تبيح للأحياء استعادة المفقودين؟!
مع ذلك وفّر الموت على أسد الألم من الكارثة في
بلدين أحبهما وعاش فيهما: غزو بلاد جلجامش، ونهب أعرق الحضارات الإنسانية. واجتياح
بلاد الفينيقيين والثقافة بالاغتيالات والغوغائية السياسية.