سعود قبيلات ▣
عائلةَ الفقيد الكبير الرَّفيق «أبي الوليد»،
الرَّفيقات والرِّفاق الأعزّاء،
الصَّديقات والأصدقاء المحترمين،
الحضور الكرام،
«كانت الوردة اسماً، ونحن لا نملك إلا الأسماء»
(امبرتو إيكو)
«وإنّي رأيتُ الصّعبَ يَركبُ دائماً من النَّاس، مَنْ لم يركب الغرضَ الصّعبا»
(أبو العلاء المعرِّيّ)
«إنَّ العالم يموت في كلّ إنسان يموت. وليس مِنْ شيءٍ يموت أبداً».
(ريجيس دوبريه)
«والموتُ نومٌ طويلٌ، ما له أمَدٌ والنَّومُ موتٌ قصيرٌ، فهو منجابُ»
(أبو العلاء المعرِّيّ)..
الحضور الكرام،
عندما شرعتُ بكتابة كلمتي هذه، سألتُ نفسي:
تُرى، بعد سنة (أو أكثر).. بل وإلى نهاية العمر، ما الصُّورة الَّتي ستستحضرها مخيَّلةُ كلٍّ منّا كلّما تذكَّر رفيقنا أبا الوليد أو ذكر أحدٌ اسمَه أمامه؟
وفكَّرتُ بأنَّها ستكون – بلا شكّ – صورةَ أبي الوليد المناضل الشُّيوعيّ الصّلب والشجّاع، الَّذي طالما ضحَّى وكابد المشاقّ والصِّعاب في سبيل قضايا وطنه وشعبه وأمّته، وظلَّ متمسِّكاً بأفكاره ومبادئه حتَّى آخر لحظة مِنْ حياته.. وحتَّى بعد كلّ الانتكاسات والانهيارات الَّتي أصابت الحركة الثَّوريَّة العالميَّة وحركة التَّحرّر العربيَّة.. وهذا في حين أنَّ كثيرين، ممَّن كانوا محسوبين على الشُّيوعيين وعلى اليسار، انجرفوا مع تيَّار الليبراليَّة المتوحِّشة الَّذي اكتسح المنطقة والعالم بُعيد انهيار الاتِّحاد السّوفييتيّ ودولِ أوروبّا الشَّرقيَّة، بل إنَّ بعض هؤلاء «تَدروشَ»، وبعضهم الآخر سرعان ما أصبح حليفاً (موضوعيّاً على الأقلّ) لـ«داعش» و«النُّصرة» وسواهما من القوى الظَّلاميَّة والأنظمة الرَّجعيَّة العربيَّة.
ولقد فعلوا ذلك وهم يكرزون بنفس مفرداتهم اليساريَّة السَّابقة. فعلى رأي تروتسكي:
«عندما يتبدَّل الرِّجال، فإنَّهم كثيراً ما يتخلّون عن المفاهيم بسهولة أكبر ممَّا يتخلّون عن الكلمات الَّتي اعتادوا عليها».
وفكَّرتُ، أيضاً، في صورة أبي الوليد الَّذي ظلّ واضحَ الرُّؤية وصحيحَ البوصلة في تحديد مواقفه السِّياسيَّة حتَّى آخر يومٍ مِنْ حياته.. في حين تاه كثيرون في السَّنوات الأخيرة، وارتبكوا، وتعثَّرتْ خطواتُهم، وانقلبوا على قيمهم ومبادئِهم. وعلى سبيل المثال، فمنذ الأيَّام الأولى للحرب الإمبرياليَّة الرَّجعيَّة على سورية أدرك أبو الوليد أنَّ الهدف الحقيقيَّ مِنْها هو تمزيقُ حاضرة الشَّام الَّتي تمثِّل آخرَ قلعةِ استقلالٍ عربيَّة علمانيَّة، وتدميرها، وشطبها من الخريطة والمكانة والنُّفوذ.. لصالح «إسرائيل»، ولصالح التَّوابع في المحميَّات النَّفطيَّة وسواها. ولا يزال كثيرون يتذكَّرون بتقديرٍ كبير كلماتِه القويَّةَ الواضحةَ الدَّقيقةَ، في هذا المجال، الَّتي قالها في الاجتماع الأوَّل مِنْ سلسلة الاجتماعات الَّتي خُصِّصتْ - آنذاك - للبحث عن صيغة اتّحاديَّة ناجعة للشُّيوعيين الأردنيين.
لقد تركتْ تلك الكلمات الحارَّة العميقة المبدئيَّة المسؤولة أثراً بعيداً في نفوس كلّ الَّذين شاركوا في ذلك الاجتماع، ومنهم محدِّثكم؛ بل أظنّ أنَّها أدَّتْ إلى حسم مواقفِ عددٍ منهم؛ سواء أكان في ما يتعلَّق بالموقف مِنْ مسألة الحرب على سورية، أو في ما يتعلَّق بضرورة الوصول إلى صيغة اتِّحاديَّة للشُّيوعيين الأردنيين. الأمر الَّذي سرعان ما تُوِّج، بدعم الرَّفيق أبي الوليد - نفسِه - ومساندة العديد من الرفاق التَّاريخيين الآخرين، بقيام «اتِّحاد الشُّيوعيين الأردنيين».
وفكَّرتُ، أيضاً، في صورة أبي الوليد كقائدٍ لـ«قوّات الأنصار»، وكأحدِ قادةِ «عصبةِ التَّحرّرِ الوطنيّ»، وكمشاركٍ في تأسيسِ «الحزبِ الشُّيوعيِّ الأردنيّ» وأحدِ قادته البارزين.
ثمَّ قلتُ لنفسي: هذه كلُّها – بلا شكّ – أدوارٌ كفاحيَّةٌ كبيرةٌ ورياديَّةٌ ستظلّ تمثِّل عناوين مضيئةً في التَّاريخ الشَّخصيِّ لرفيقنا العزيزِ الرَّاحلِ وفي تاريخ حركتِنا الوطنيَّةِ.
ولكن، في ما يخصّني، فإنَّ الصُّورة الَّتي ستظلّ متغلغلةً في أغوار نفسي البعيدةِ، وسأظلّ أستعيدها بتأثُّرٍ كبيرٍ كلّما تذكّرتُ رفيقنا العزيزَ الرَّاحلَ، هي صورتُه وهو متقدِّمٌ في السِّنِّ وتبلغ به شدّةُ المرض حدّاً يبدو معه بوضوحٍ أنَّ جسدَه على شفا الانطفاء الأبديِّ.. ولكنَّه، رغم ذلك، كان يُصرُّ على المشاركة في تشييع رفاقِهِ الرَّاحلين إلى مستقرَّاتِهم الأخيرةِ. وعلى سبيل المثال، فقد رأيناه، خلالَ السَّنةِ الماضيةِ، يكابد عناء المشاركة في جنازة الرَّفيق العزيز الرَّاحل اسحقِ الخطيبِ (أبو إسماعيل)، وفي جنازة الرَّفيق العزيز الرَّاحل عربيّ عوّاد (أبو الفهد)، وفي جنازة الرَّفيق العزيز الرَّاحل الدّكتور يعقوب زيَّادين (أبو خليل).. حيث تجشَّم – وهو بحاله تلك –عناءَ السَّفرِ الطَّويلِ والشاقِّ إلى قرية السماكيَّة في الكرك، للمشاركة في وداع رفيقِهِ القديمِ.
وسأتذكَّر، دائماً، كذلك، أنَّه في تلك المناسباتِ الحزينةِ الأليمةِ، وهو في ظروفه الصَّعبةِ التي أشرنا إليها وفي أشدِّ حالاتِ حزنِهِ على فراق رفاقِهِ الكبارِ الرَّاحلين، لم يكن يفرِّطُ بصورته ودورِه المطلوبِ كمناضلٍ شيوعيٍّ مسؤولٍ وصلبٍ، ولم يكن يبدي أيَّ ملمحٍ مِنْ ملامح اليأسِ أو رثاءِ الذَّاتِ أو الشَّكِّ بعدالةِ (وصحّةِ) القيمِ والمبادئِ الَّتي اعتنقها معظمَ سنيِّ حياتِه. وكان أكثرَ ما يشغلُه هو مستقبلُ الحركةِ الشُّيوعيَّةِ الأردنيَّةِ؛ حيث كان يطالبُنا ببذل كلِّ جهدٍ ممكنٍ مِنْ أجل توطيدِ أواصرِ العلاقةِ بين الشُّيوعيين وتطويرِ صيغةِ عملِهم.. لرهانه على دورهم في خدمة قضايا وطنِهم وأمّتِهم وشعبِهم.
وسأذكر، دائماً، رفيقَنا الكبيرَ الرَّاحلَ بصورةِ إنسانٍ دافئٍ بشوشٍ، مقبلٍ على التَّواصل مع رفاقِهِ ومع النَّاسِ، وتشعرُ عندما تقابلُه بأنَّ قلبَه يفيضُ محبَّةً للنَّاس وحماساً للمُثُل والمبادئِ الَّتي يحملها.. وللدِّفاع عن شعبه وأمّتِه والإنسانيَّةِ جمعاء. وسرعان ما يتسرَّبُ التَّفاؤلُ الأصيلُ المنبعثُ مِنْ وجهِهِ وعينيهِ وصوتِهِ الدَّافئِ إلى كلِّ مَنْ حولَه.
وهنا، تداعبُ مخيَّلتي أبياتٌ للشَّاعر السّوفييتيّ «رسول رضا»، يقول فيها:
«يتوق قلبي إلى الرَّبيع
ولو للحظة.
ما حاجتي
إلى الرَّاحة
وإلى الحياة الخالية من النَّار واللهيبْ».
«أريد أنْ أضحك من الأعماق
وأبتهج من القلب
وأحتضن بحرارة
النَّاس الَّذين أحبّهم
ومِنْ ثمَّ، إذا اقتضى الأمر،
أريد أنْ أموت
كشجرة بلّوطٍ ضخمة.
تصدَّعتْ في العاصفة
واُقتُلِعَتْ مِنْ جذورها».
الرَّفيقات والرِّفاق الأعزّاء،
الحضور الكرام،
تقول روزا لكسمبورغ، الَّتي أسماها لينين «صقرَ الشُّيوعيَّةِ المحلِّق»، في كتابها «رسائل حبّ»:
«أعرف أنَّه بالنِّسبة لكلِّ إنسان، لكلِّ كائن حيّ، فإنَّ حياتَه هي الثروةُ الوحيدةُ الَّتي يملكُها، إنَّ نهايةَ العالم تحلُّ، لدى كلِّ ذبابةٍ صغيرةٍ نسحقُها دون انتباهٍ. ففي العيون المنطفئةِ لهذه الذّبابةِ، يبدو موتُها وكأنَّه انتهاءٌ لكلِّ شكلٍ آخر من الحياةِ».
هذه «الثَّروة الوحيدة الثَّمينة» – كما وصفتها روزا لكسمبورغ - كرَّسها أبو الوليد كلَّها لرفع رايةِ الشُّيوعيَّةِ وللدِّفاع عن قضايا وطنِهِ وشعبِهِ وأمّتِهِ.
سنتذكَّرُ هذا دائماً، كما سنتذكَّرُ كلَّ المواقفِ المشرِّفةِ والملامحِ المشرقةِ لتاريخ رفيقِنا أبي الوليد.
في الختام، أستأذن الحضورَ الكرامَ في أنْ أتوجّهَ إلى رفاقي الشُّيوعيين الأردنيين كافَّة، فأقول:
أيُّها الرفاق الأعزَّاء،
إنَّ أفضلَ تكريمٍ لرفيقِنا الكبيرِ الرَّاحلِ، وللرِّفاق الرَّاحلين جميعاً، هو التَّمسّكُ بقيمهم ومبادئهم، والحفاظُ على صيغة «اتِّحادِ الشُّيوعيين الأردنيين» (الَّتي بعثت الأملَ في نفوسهم) وتطويرُها، والعملُ الجادُّ المثابرُ والمخلصُ مِنْ أجل قيامِ الجبهةِ الوطنيَّةِ الشَّعبيَّةِ الأردنيَّةِ المنشودةِ الَّتي تدافعُ عن حقوق ومصالحِ الطَّبقاتِ الشَّعبيَّةِ، وتعملُ مِنْ أجل إنجاز برنامج الحريَّةِ والدِّيمقراطيَّةِ والتَّحرّرِ الوطنيِّ والتَّقدُّم الاجتماعيّ في بلادنا، وتتعاضدُ مع الشَّعبِ الفلسطينيِّ الشَّقيقِ والشُّعوبِ العربيَّةِ الأخرى كافَّة، في النِّضال ضدَّ الكيانِ الصّهيونيِّ الغاصبِ، ومِنْ أجل استردادِ الأراضي العربيَّةِ السَّليبةِ كاملةً، وتمكينِ الشَّعبِ الفلسطينيِّ مِن الحصول على حقوقه المشروعةِ، وفي مقدِّمتها حقُّه في العودة إلى وطنِهِ، وتقريرِ مصيرِهِ على أرضه.. مثلَ كلِّ شعوبِ العالم.
أشكركم على كرم استماعكم،
والمجدُ والخلود لذكرى رفيقِنا العزيزِ الرَّاحلِ أبي الوليد..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الكلمة الَّتي كان لي شرف إعدادها وإلقائها باسم «اتِّحاد الشُّيوعيين الأردنيين»، أمس، في تأبين الرَّفيق الرَّاحل عبد العزيز العطِّيّ (أبو الوليد)، الَّذي أقيم في مجمَّع النَّقابات المهنيَّة، في عمَّان.