كانت ترجمة «أنت منذ اليوم» تجربة شخصية مميزة شعرت خلالها بالخصوصية كقارئة. فقد بدا وكأنّ الكاتب يفتح لي أسرار روحه واختلاجاتها، فيسمح لي بالتوغل في مساحاته الخاصة جداً، ويصارحني كصديقة قديمة بكل ما يدور في نفسه التواقة للأصالة والصدق في عالم يتخبط في قذارته وتداعيه.
شرح تيسير على لسان بطل روايته «عربي»، في سرد صادق، تفاصيل الحرب وردود فعل الشارع العربي بينما هو غارق في ممارسة طقوسه اليومية وتجاوزاته الاجتماعية بعفوية ومن دون أن يبرر، أو يعتذر، أو يساوم، أو يأبه بردود فعل القارئ، أو يحسب لها أي حساب.
وإنَّ شفافية النص (ووضوحه) التي عكست شخصية تيسير كما وصفه أهله وأصدقاؤه المخلصون، جعلتْ هذا العمل الأدبي صورةً صارخةً لواقع تيسير بتفاصيله الموغلة في الخصوصية في إطار القضايا العامة التي عانى منها شعبه وأمته. ولقد أكد غالب هلسا هذا، حين بيّن أن «قيمة رواية أنت منذ اليوم تعود إلى قدرتها على احتواء شعور الشارع العربي خلال مراحل حاسمة من تاريخه وعرضها لحياة الإنسان العادي ووصفها بدقة وأمانة لتفاصيل مشاعره وردود فعله».
لم يكتفِ تيسير بتحليل واقعه الراهن مثرياً السرد بأبيات شعرية وأقوال مأثورة هي جزء لا يتجزأ من الخطاب العربي اليومي- والذي كان لابد من نقله من خلال الترجمة ليبقى النص مرتبطاً بسياق الثقافة العربية بغناها وتشعبها- بل أدخل بمهارة وحرفيّه في نص الرواية وحوارها رموزاً وأحداثاً استقاها من التراث الديني والتاريخي والشعبي والأدبي في محاولة لتفسير الحاضر وملابساته. وبما أن هذه المداخلات والرموز، في الغالب، غير معروفة للقارئ الغربي، فلقد وجدتني مضطرة لإضافة الحواشي لتوضيح المعاني المتعلقة ببعض التعابير والرموز، وشرح الوقائع التاريخية والنصوص الأدبية والدينية، وتبيين المقصود من بعض المصطلحات، لأسهل على القارئ فهم دلالات هذه النصوص.
كما زادت بنية الرواية التي تمثل بإتقان أدب ما بعد الحداثة، من تشابكها وصعوبة ترجمتها. فلقد جاءت الرواية «لتعكس في بنيتها تهشم الرواية المتكاملة: لوحات قصيرة متتالية، لا يربطها زمان أو مكان أو حدث تاريخي واحد... يتم الترابط بين الأجزاء من خلال التداعي، فتصير الصور أو مشاعر اللحظة صوراً ومشاعراً تخضع لعملية التداعي هذه."
ولا يشكل التفكك أو التداعي قصوراً في النص لأن تيسير قد حَبك في روايته خيوط النص وأحداثه، التي قد تبدو للوهلة الأولى متفرقة لا علاقة لها بباقي أجزاء الرواية، بحذر ومهارة ليؤلف لنا قصة حب، وحرب، وسياسة، جذورها في التاريخ وفروعها ممتدة نحو الإنسانية كلها.
وقد ربط الكاتب أجزاء النص المعقد المفكك السرد، بخيوط رفيعة من اللغة والرموز والمفردات التي تصل بين المكان والزمان والأحداث والمشاعر والمفاهيم، وطوّر مشاهد غنيّة بالعلاقات القائمة بين المفردات التي تشكل المشهد الواحد ثم تعود لتربط ذلك المشهد بمشاهد أخرى بأسلوب تلقائي مبدع.
ويرى الدكتور محمد عبيد الله أن هذا التفكيك في البناء جاء «قصدياً واعياً» وليس «نتيجة غياب الأدوات السردية أو الجهل بقوانين الرواية.» فكان لابد لي من مراعاة هذا التشبيك المتعمد الذي لجأ إليه تيسير في الربط بين أجزاء النص المختلفة عند الترجمة للحفاظ على العلاقة والروابط الخفية بين النص وأجزائه.
لقد كان همي الأول عند ترجمة رواية «أنت منذ اليوم» أن أنقل للقارئ الغربي ما باح به تيسير في روايته بدقة وأمانة. كنت أفكر بالتحديد بطلابي وطالباتي في برنامج الدراسات العربية في أميركا. حيث أردتُ لهم أن يفهموا ما عاناه تيسير ويشعروا بتيسير الإنسان بعيداً عن نمطية الرجل العربي وما يتعلق به من مفاهيم بالية، معظمها سلبي.
أردتُ لهم أن يتعرفوا على معاناة الإنسان العربي وردود فعله تجاه الحرب وما بعدها من خلال إقامة علاقة وثيقة مع تيسير الذي مثّل وما زال يُمثّل تجربة جيله والأجيال العربية الشابة في هذا الزمن الغارق في الثورة والتغيير والترقُب. كان أملي وما زال، أن يساعدهم هذا الفهم على استيعاب مدى تأثير الصراعات الماضية والحالية على نفسية إنساننا العربي وحياته اليومية.
أردتُ لهم أن يعرفوا تيسير كما قدم نفسه بصراحة وعُري وبلا أقنعة أو مساحيق تخفي النتوءات التي وشمتها تجاربه وتجارب شعبه على جبينه وروحه. أردت لهم أن يفهموا المحتوى الثقافي للنص الذي تتبلور فيه الأفكار وتتفاقم المشاعر في إطار أحداث وقعت وما زالت تتكرر بكل مدلولاتها التاريخية والاجتماعية والدينية والسياسية.
اِنتابتني في كثير من الحالات رغبة عارمة في أن أشرح وأوضح وأحلل النص وأضيف إلى الترجمة، لكن لإيماني بقدرة النص الأصلي مترجماً بدون تدخل مني على إبلاغ رسالة صاحبه، وخوفاً من أن يؤثر صوتي على نصوص تيسير فيشوهها، امتنعت عن الإضافة، وحاولت أن أحافظ حتى على تراكيب النص الأصلية، في نطاق ما تسمح به قواعد اللغة الإنجليزية، ومراعاة نقل المعنى الأصلي للنص وما يحتويه من مشاعر وانفعالات.
وبقي الهم الأكبر المُقلق هو: أبمقدور اللغة الإنجليزية أن تحتوي نصاً عربياً مميزاً بتعابيره وتراكيبه ومصطلحاته وبعض خصوصياته المحلية مِنْ دون أن تشوهه أو تطفئ وهج الوجع فيه؟ وهل بالإمكان أن يظل النص المترجم للإنجليزية عربياً روحاً ونكهةً ومذاقاً؟ هل سيكون لهذا النص المترجم القدرة على حمل مشاعر الكاتب وأفكاره ونقلها بصدق وزخم وحميمية كصدق وزخم وحميمية النص الأصلي؟
وللإجابة أسئلتي السابقة، كان لابد لي من اِختبار مدى فهم وتفاعل الطلاب الأميركيّين مع النص المُترجم، فاعتمدته كجزء من مادة الثقافة العربية في قسم الدراسات العربية في جامعة ديبول في شيكاغو. حيث قام الطلاب خلال الفصل الدراسي بالتعرف على تعريف الغرب للثقافة العربية ومعايير ومنتجات هذه الثقافة وخصائصها العامة وذلك عن طريق القراءة والمناقشة. ثم مراجعة مطبوعات من ضمنها مجموعة من الكاريكاتير العربي، ومشاهدة مقاطع مرئية تمثل الثقافة العربية كما يعيشها العرب، ثم حضور ندوات يقدمها متخصصون بالدراسات العربية، والمشاركة في نشاطات عن الثقافة والأدب العربي، وما إلى ذلك.
وفي نهاية الفصل الدراسي، طلبتُ من الطلاب قراءة ترجمة رواية تيسير السبول «أنت منذ اليوم»، واستخلاص مفاهيم وخصائص الثقافة العربية التي عاشها تيسير ومقارنتها بالمفهوم العامّ للثقافة العربية الذي توصلوا إليه خلال الفصل، ثم التعبير عن مدى تفاعلهم مع الرواية وشعورهم تجاه أبطالها وكاتبها. ومع أنني كنت آمل أن يتمكن الطلاب من التفاعل مع النص إلا أنني فوجئت بمدى استيعابهم للأحداث وفهم النص والتواصل مع تيسير من خلاله.
وفيما يلي نماذج مختصرة تمثل إلى حدٍ كبير ما كتبته أغلبية طلاب المادة الذين قرأوا الرواية.
وضعت اِحدى الطالبات الرواية في مصاف الأدب الروائي العالمي حين كتبت ما ترجمته: «فكرت عند قراءتي للرواية، لكم هو ذكيٌّ الكاتب! ومع هذا فلقد تبين لي أن هناك جانب تخريبي في شخصيته. ففي رأيي تشبه رحلة عربي في رواية تيسير "أنت منذ اليوم" إلى درجة سريالية رحلة "ونستون سميت" في كتاب 1984 لجورج أورويل».
وكتبت الطالبة، نفسها، فيما يخص شكل الرواية تقول: «السرد والحوار كانا رائعين ومترابطين خلال النص. إنَّ اختيار نص مفكك جعل الرواية أكثر متعةً لأنه دفع القارئ لأن ينتقل من مشهد إلى آخر مضطراً أن يتابع قفزات عربي باهتمام حتى يستطيع أن يربط بين تفاصيل الأحداث. وهذا لا يختلف كثيراً عن روايات ما بعد الحداثة الأخرى التي قرأتها».
ثم أوضحت قائلةً: «مع أنه من الصعب متابعة مثل هذا النص إلا أن هذا التركيب أضاف بعُداً جديداً لتجربتي مع النص. فإن طبيعته المفككة ساعدت على إيصال ماهية وطبيعة تفكك الشعب الذي تشرد وبات يفكر ويحس بكل الأشياء المتضاربة في الوقت نفسه».
ثم أضافت: «كلما قرأت أكثر كلما بدأت أتأقلم مع عربي أكثر، فمع أنني لا أتفق مع بعض خياراته الأخلاقية، خاصة في ما يتعلق بتعامله مع المرأة، إلا أنه قالها كما هي. مع نهاية النص، تجاوزت هذه الاختلافات وبدأت أشعر بالشفقة تجاهه لأن ما فقده في الحرب أثر على حياته اليومية بشكل كبير، تماماً كما أثر على حياة بقية الناس. تبين لي من قراءة النص أن عربي يمثل ما عاناه العرب جميعاً، لذلك كان من الصعب ألا أحبه كفرد».
وختمت تعليقاتها قائلةً: «أتمنى لو كانت رواية أنت منذ اليوم أطول... بدت الرحلة من عصور الظلمة إلى الضوء سريعة وخاطفة، تركت القارئ يلملم خيوط السرد، تواقاً للمزيد دون مساعدة من الكاتب. أردتُ الغوص في ذهن تيسير، أردتُ أن أعرف المزيد عن حكايته».
نرى هنا أن تفاعل هذه الطالبة مع النص لم يكن سطحياً، فبالإضافة إلى فهمها لمضمون رسالة تيسير، تفاعلت مع مواقفه واتخذت موقفاً مغايراً تجاه بعض تجاربه الشخصية، ومع هذا استطاعت أن تتخطى هذا الاختلاف لتجد المساحات الإنسانية المشتركة وتعيد النظر في شعورها تجاه بطل الرواية وموقفها من معاناته التي مثلت لها معاناة شعب، قد لا تتفق معه في كل تفاصيل ثقافته وخصوصيتها، ولكنها تضامنت معه في إنسانيته ومعاناته. والأجمل أنها أرادت أن تعرف المزيد عن حكايته وحكاية شعبه وهذا يترك المجال للشرح والتفسير.
وكتبت طالبة أخرى تقول: «إن الطريقة الموضوعية والصراحة البالغة التي يوظفها تيسير السبول عند طرح آرائه، طليعية وثورية. إن مجرد نشر الرواية بكل ما فيها من صراحة سياسية وشخصية وعرض لمواضيع اجتماعية تتعلق بالحداثة، كدور المرأة، والدعارة، والعنف الأسري، وغيرها، يعد خطوة إيجابية جبارة نحو الحداثة».
وربطت الطالبة، وهي بولندية الأصل بين ثقافتها وممارسات عربي، مفسرة لجوءه للشرب والنساء كوسيلة للهرب من واقعه وأوضحت أن مثل هذه الممارسات وردود الفعل تظهر في المجتمع البولنديّ أيضاً. وأوضحت أنَّ أكثر فصول الرواية تأثيراً هو الفصل الأخير الذي يصف فيه عربي الحرب، قائلة: «اِستطعت أن أحس بهزيمة عربي ومأساته حين قرأت هذا الفصل، إنه عمل أدبي باهر ومهم جداً، يعبر عن واقع الإنسان الأردني والعربي على حد سواء».
أما فيما يتعلق بتأثير المادة والرواية عليها شخصياً، فكتبت: «لقد ساعدتني الرواية على إعادة التفكير بقناعاتي ومشاعري. إن التعرف على ممارسات وأفكار قد أتفق أو لا أتفق معها دفعني لأن أسأل نفسي – لماذا؟ أن أحلل أفكاري وقناعاتي الخاصة، وبذلك فحصت دلالات وخصائص ثقافتي وأعدت النظر في مفاهيمي وتصوري للأشياء».
ونرى أن هذه الطالبة لم تكتفِ بمقارنة عربي وتصرفاته بالشاب الأميركيّ وإنما تعدتها لتجد له نظيراً في ثقافتها الأم، البولندية. ثم إن قراءة الرواية دفعتها إلى التفكير في ردود أفعالها والمفاهيم التي تحكم ثقافتها الخاصة ومرجعيات هذه المفاهيم.
وكتبت طالبة أخرى: «اكتشفت في نهاية قراءتي للرواية أهميتها الحقيقية. إن رواية تيسير السبول أنت "منذ اليوم" تعالج حياة رجل شاب تشده أفكار وتيارات مختلفة في اتجاهات معاكسة. واحدة إلى الماضي وأخرى نحو مستقبل مرتبط بهذا الماضي وتجبره على أن يفكر في نظرته المستقبلية التي لا ترتبط بشكل مباشر بأي من الاتجاهين».
ثم أضافت: «عربي يشبه الشباب الأميركيّ، فهو أيضاً يبحث عن صوته الخاص. الفرق هو الضغوط التي تفرض نفسها عليه... عربي ممتلئ بالأفكار الخلاقة، لكنه فشل في تحديد هويته واكتشاف صوته الخاص».
وقالت أيضاً: «وجدت عربي صادقاُ جداُ في كتاباته، حتى في المواقف التي قد تدعو للخجل، كذهابه في التاكسي إلى – مكان ما – واعترافه بالحاجة إلى تفريغ رغباته الجنسية، فبينما يعرض هذا، يطرح في نفس الوقت أسئلة واعية تدفعنا للتفكير الجدي في دور المرأة ومكانتها في المجتمع العربي»...
وتوضِّح قائلةً: «أعجبت بتيسير لأنه لم يكن خائفاً من التعبير عن واقعه الذي طرحه بتجرد، ولم يخشَ أن يحمل فكراً ورأياً مغايراً لما هو سائد. هناك أشياء صغيرة أزعجتني عند قراءة الرواية، منها أن عربي كان يستسلم بعد أن يبلغ مراحل معينة في فضوله فيتوقف عند ذلك الحد ثم يتراجع. أعتقد أنَّ الرواية تجعل القارئ يتضامن مع بطلها، ولكن للأسف يفتقد هذا البطل القدرة على الايمان بنفسه وقدراته».
ثم أضافت: «استطعت من خلال هذه الرواية أن أراقب ما يحدث من خلال وجهة نظر العرب. فلم يفرض عليّ الكاتب ما أفكر به أو كيف أتعامل مع الأحداث، ولم أوضع في مواقف تحرجني أو تجبرني على التفاعل مع آخرين لست على دراية تامة بثقافتهم. على العكس بدلاً من ذلك سمحت لي الرواية أن ألبس حذاء عربي وأسير على خطاه وكأنني أعيش الحياة العربية بتفاصيلها وما يدور فيها من أحداث من الداخل».
أما فيما يتعلق بشكل الرواية وتأثير محتواها فقالت: «تعودت على القفز من فكرة إلى فكرة واستمتعت بذلك لأنه سمح لي أن أتعرف على عربي وعالمه التي قدمها لي على جرعات صغيرة بينما كنت أعبر صفحات الرواية وفصولها. كما نمى لديّ حب كبير لعربي الشاب الذي يبحث عن هويته ويواجه خيبات أمل متكررة، حتى أنني بدأت أفقد الأمل مثله. كان هذا مؤثراً جداً بالنسبة لي، ويختلف تماماً عما يشعر به الفرد الأميركيّ الذي يتعامل مع هذا الصراع السياسي والقضايا العربية بعيداً عن بعدها الإنساني».
وفي نهاية تقريرها قالت: «شعرت من خلال قراءتي للرواية أن تيسير باح لي شخصياً بسر ما لا يعرفه أحد سواي».
وهنا نرى أن هذه الطالبة مثل الطالبة السابقة قرأت الرواية من خلال منظومتها الثقافية الخاصة وأسقطت على عربي قناعاتها، ورغم هذا اكتشفت المساحات المشتركة وفهمت معاناة عربي وقضاياه. ومع أن قناعاتها قد لا تتفق مع بعض ممارسات عربي ومعالجته للأمور، إلا أنها وقعت في حبه وتعاطفت معه كإنسان يشعرها بالخصوصية ويشرح لها قضاياه دون أن يفرض عليها رأيه أو يحاسبها على قناعاتها وآرائها. فكما أحترمها هو اِحترمته هي وأصغت إليه فتأصلت روابط والود والصداقة معه إلى درجة أنها شعرت بأنه أطلعها من خلال سرده على سر ما، وأنها صارت مستودع أسراره.
لقد أسعدني اكتشافها هذا لأنه يعبر إلى حد ما عن بعض الخصوصية التي شعرت بها حين قرأت النص وترجمته من العربية.
أما أهم ما توصلت إليه الطالبة في رأيي فهو الربط بين مشاكل الشاب الأميركيّ وما يمر به عربي، مع اختلاف الظروف، وذلك لما في هذا الربط من دلالات بأن عربي لم يعد "الآخر" في نظر هذه الطالبة وإنما صار واحداً من جيلها تقيسه بمقاييسها وتتفاعل مع قضاياه وتتعاطف. وهذا مهم للغاية لفهم وجهة النظر العربية وتقريب قضايا الأنسان العربي إلى ذهن الجيل الأميركيّ الجديد وقلبه. فبالرغم من مرور الزمن، إلا إن هناك عوامل مشتركة عديدة بين القضايا التي يواجهها الشاب العربي اليوم وما واجهه عربي وجيله قبل عقود.
أما طالبة العلاقات الدولية المتخصصة بدراسة العالم العربي، فكتبت تقول: «أشعر أن عربي كان صادقاً في حديثه... فالأحداث التي طرحها من الصعب مناقشتها، وليست من نوع الأحداث التي يمكن للفرد تخيلها».
وأضافت: «إن أقوى مشاهد الرواية هو محاولة عربي الانتحار بينما هو منشغل بأوجاع وطنه والدمار الذي لحق به. شعرت بالحزن لمجرد التفكير أن شخصاً ما مُجبر على أن يمر بمثل هذه التجارب وحيداً. لقد تعاطفت بشكل بالغ مع عربي حين بدأ ينتحب مُتذكراً ما مر به وبعالمه من ظلم خلال العصور الغابرة».
ثم عادت توضح: «إن السرد الذي قدمه تيسير لأحداث حرب 1967 على لسان عربي لا يقدر بثمن لأنه غير متوفر في التحاليل السياسية والمراجع الأكاديمية التي تغطي الأحداث».
وبعد ذلك أضافت: «لقد ساعدتني الرواية على فهم أحداث حرب 1967 بشكل جديد يركز على البعد الإنساني للحدث وتفاصيل ردود فعل الناس عليه كما في وصف الجندي القتيل الذي بقي مُسجياً ببدلته وحذائه اللامع قرب الجسر المُهدم لأيام حتى فاحت منه رائحة الموت. مثل هذه المشاهد حركت مشاعري وأوضحت لي ما يدفعه الإنسان ثمناً للحرب. لقد جعلتني الرواية أفكر لمدة طويلة من الزمن في هذا الواقع وأعيد النظر في مفاهيمي المتعلقة بهذه الحقبة من التاريخ العربي».
من الواضح أن رواية تيسير ووصفه للأحداث أضفت على ما درسته هذه الطالبة عن العالم العربي نزعة إنسانية، فلم يعد ضحايا حرب 1967 مجرد أعداد واحصائيات بل أشخاص صورهم تيسير بإتقان ونفخ فيهم الحياة فإذا بهم أحياءً يعيشون ويموتون ويؤثرون على أفكار القارئ ومشاعره ومفاهيمه.
ولم يقلّ تفاعل الطلاب عن تفاعل الطالبات مع نص رواية تيسير؛ حيث كتب أحد الطلاب يقول: «إن حياة عربي وصابر بدت مشابهة لحياة الشباب في أميركا. في الغالب كانا يمضيان الوقت معاً، ويذهبان إلى الحانة ليتحدثا عن الحياة والضوابط الاجتماعية والأخلاقية وعلاقاتهما الاجتماعية، ويمضيان بعض الأمسيات في علاقات مع الجنس الآخر، هذا ما يفعله الشاب الأميركيّ أيضاً. الفرق هو نشاطاتهم السياسية. الشابّ الأميركيّ غالباً لا يهتم بالسياسة، وقد يكون ذلك لأن الأوضاع السياسية مستقرة في أميركا».
ويصف عربي قائلاً: «كان عربي طوباوياً، تأثر بشكل كبير بمقتل قطة... ليكتشف بعد ذلك، بعد تجارب قاسية حقيقة الحياة، وفقد براءته، ليس باختياره، ولكن نتيجة الإرهاصات والظروف والضغوط التي تعرّض لها».
أما عن طريقة السرد، فيقول: «انسجم تصاعد الأحداث في الرواية مع أسلوب الكاتب. الجمل والوحدات القصيرة تحولت إلى فقرات أطول، وتركيز على فترات زمنية أقصر، بدأت كأنها تزداد سرعة لتصل بنا إلى الذروة، انهيار عربي وفقده القدرة على تحمل واقعه... يمكنك أن تحس وترى هذا التحول أمام عينيك حتى قبل أن يخبرك به الكاتب بشكل صريح».
وبعد ذلك، يسهب الطالب في شرح الأحداث الخاصة والعامة التي كان لها الأثر الأكبر في حياة عربي، ومنها اعتقاله، واعترافه، مزاودات الإذاعة، وخطبة الخطيب، ويعلق على ذلك بقوله: «كل هذه الأحداث الكبيرة أدت إلى تحولات جذرية في حياتي وحياة عربي على حد سواء. راقبته يفقد قدرته على التحمل، وكان هذا صعباً عليّ، خاصة وأنه إنسان حساس وعاطفي... لم يفشل النص أبداً في أن يحمل لي زخم المشاعر والأفكار التي أراد الكاتب إيصالها للقارئ».
أما أحد الطلاب المحافظين، فقد وصف مشاعره تجاه الرواية بأنها «مختلطة»، فهو لا يتفق مع بعض تصرفات عربي الأخلاقية والتزاماته السياسية، بدءاً بالسماح لنفسه بأن ينشئ علاقات جنسية دون التفكير في تأثيرها على حياة الفتيات اللواتي يعاشرهن، ثم عدم إخلاصه للحزب الذي كان ينتمي إليه، والبوح بتفاصيل عن التنظيم وخصوصياته قد تضر به. ومع ذلك، يتعاطف الطالب نفسه بشكل كبير مع ردود فعل عربي تجاه الحرب ويقول: «جعلني الكاتب أشعر أنني كنت مكان عربي، أراقب الأحداث، وأشم رائحة الجثث المتعفنة».
وربما كان حكمه على عربي صارماً من جهة ومتعاطفاً من جهة أخرى لأنه عاش التجربة مع عربي؛ حيث يقول في هذا الصدد: «جعلني الكاتب أشعر أنني أسير بجانب عربي في رحلته».
وقال طالب آخر: «إن استخدام المنهج الواقعي بصدقه الصارخ في ما يتعلق بشخصيات الرواية، أثر بشكل جذري على فهمي للثقافة العربية. كان فعل التجربة الشخصية المجردة من أي ادعاءات مزيفه فعالاً في فهمي للأحداث، مما دفعني للتفكير في قناعاتي وممارساتي خلال قراءة الرواية وبعدها. لقد استطاعت شخصية عربي التي حركتها المشاعر الجياشة والانفعالات الصادقة أن تربطنا بأحداث اجتماعية وسياسية في غاية التعقيد، بما فيها من إيجابيات وسلبيات، ذات صلة ليس فقط بالزمن الذي تمثله، وإنما بالحاضر أيضاً».
وكما كان الأمر مع الطالبات، فقد تفاعل الطلاب مع النص أيضاً، وتعرفوا على عربي وحكموا عليه حسب فهمهم لما هو متوقع منه كشاب عربي يعيش في مجتمع محافظ. تفهم الليبراليون موقفه، وأدان المحافظون بعض تجاوزاته الأخلاقية. وبغض النظر عن رأيهم بشخصية عربي وشعورهم تجاهه، فقد اتفق الجميع على أنّ سرد تيسير الصريح، الصادق، الشفاف، دفعهم للتعاطف مع عربي وقضيته الأساسية، الحرب، والسياسة، وضياع الوطن، وتشرد الأهل.
لقد بينت هذه التجربة المتواضعة، ونماذج مداخلات الطلاب، مدى تأثير ترجمة رواية تيسير السبول الأدبية المحكمة، المشوقة، الصريحة، على مفاهيم الطالب الأميركيّ ومشاعره. فقد شرح تيسير بمهارة الأديب المبدع الحساس وأمانة الصحفي النزيه، ما عاشه ورآه، مضحياً بخصوصيته وموظفاً إياها في إظهار حجم المعاناة والانتقال بالأحداث من العام المجرد إلى حميمية السرد الخاص، تاركاً لنا بذلك سجلاً إنسانياً حافلاً حياً استطاع - حتى مُترجماً - أن ينقل ما عاناه شعب برمته.
ولقناعتي بأهمية أعمال تيسير السبول، خاصة بعد الاطلاع على ردود أفعال طلابي على رواية «أنت منذ اليوم»، قمت بترجمة باقي قصص تيسير، وهي «الهندي الأحمر» و«صياح الديك»، كما ترجمت مجموعته الشعرية الكاملة «أحزان صحراوية»، بالتعاون مع شاعر أميركيّ من أصول إفريقية وقع في حب تيسير بعد قراءته لقصيدة كنتُ قد قمت بترجمتها في وقت سابق، وأصر على ضرورة التعاون لترجمة المجموعة كاملة ونشرها، إيماناً منه بأنها من أفضل وأرق وأصدق ما كُتب من الشعر الحديث.
لقد أثبت تيسير السبول بأن الأدب الأردني المتقن، حتى لو كان مترجماً، قادر على تخطي حدود الزمان والمكان، فما علينا إلا أن نترجمه ونعمل جاهدين على نشره.
1 هلسا، غالب. القارئ مبدعا. من موقع: http://tayseersboul.com
2 يرى الأستاذ أحمد مجذوبه في مقال بعنوان "رواية تيسير السبول، أنت منذ اليوم في إطار نظرية ما بعد الحداثة" أن الرواية من أوائل الروايات العربية التي تمثل هذا المنهج ولها تأثير واسع على ما جاء بعدها من أدب عربي في هذا المجال.
3 هلسا، غالب. القارئ مبدعاً. من موقع: http://tayseersboul.com
4 عبيد الله، محمد (16-11-2007). تيسير السبول... المسافر إلى البلد البعيد. من موقع: http://tayseersboul.com