سعود قبيلات ▣
في
أعقاب انهيار الاتِّحاد السوفييتيّ في أوائل تسعينيَّات القرن الماضي، تاه كثيرٌ
من اليساريين (ومِنْ ضمنهم بعض الشيوعيين)، فصاروا يبحثون عن مبرِّراتٍ نظريَّة
(وأخلاقيَّة) «مقنعة» لرفع الراية البيضاء أمام الخصم الطبقيّ والسياسيّ الذي راح
منظِّروه يزعمون أنَّه انتصر إلى الأبد (كما في «نهاية التاريخ» لفوكوياما..
منظِّر البنتاغون).
ومن
الأفكار الهزيلة التي قيلت – آنذاك – في هذا السياق، هي إنَّ الطبقة العاملة
بمفهومها الذي تحدَّث عنه ماركس وأنجلز لم تعد موجودة. ولكنَّهم، بالمقابل، لم
يقولوا إنَّ البرجوازيَّة أيضاً لم تعد موجودة! كما أنَّهم لم يقولوا كيف يمكن
للبرجوازيَّة أنْ تستمرّ بالوجود إذا كانت البروليتاريا قد اختفت، كما زعموا.. مع
أنَّ وجودَ كلٍّ منهما شرطٌ لوجود الأخرى؟!
على
أيَّة حال، لكي نكون منصفين، يجب أنْ نوضِّح أنَّهم تحدَّثوا عن تغيّر
البرجوازيَّة أيضاً (بل والنظام الرأسماليّ الدوليّ بمجمله كذلك)؛ لكن مع كلّ
الرطانة التي استخدموها ليشرحوا فكرتهم عن هذا التغيير، إلا أنَّهم تجاهلوا حقيقة
أنَّ البرجوازيَّة أصبحت أكثر ميلاً بكثير إلى النمط الاحتكاريّ وأنَّ النظام
الرأسماليّ الدوليّ راح يتَّجه إلى استعادة طبيعته الوحشيَّة التي كانت سائدة في
القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
لقد
كان أحد الأسباب الرئيسة لمثل هذه التنظيرات البائسة، هو، بالإضافة إلى
الانتهازيَّة السياسيَّة، الضعف النظريّ الشديد وقصور التفكير العلميّ، لدى
أصحابها؛ حيث ظلَّتْ صورة الطبقة العاملة في أذهانهم هي صورتها كما كانت في
القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والنصف الأوَّل من القرن العشرين، أي العمالة
التقليديَّة محدودة المهارات وعمّال المصانع، فقط. متجاهلين أنَّ هاتين مجرَّد
فئتين مِنْ فئات الطبقة العاملة.
وهنا
أريد أنْ أعود إلى مفهوم البروليتاريا (والبرجوازيَّة، بالطبع)، لدى ماركس وأنجلز؛
لكي أرى هل حقّاً أنَّ البروليتاريا، كما حدَّدها هذا المفهوم، قد انتهت، أم
أنَّها ما زالت موجودة.
يقول
أنجلز في ملاحظة له على الطبعة الإنجليزيَّة للبيان الشيوعيّ عام 1888 :
«نعني بالبرجوازيَّة طبقة الرأسماليين المعاصرين، مالكي وسائل
الإنتاج الاجتماعيّ الذين يستخدمون العمل المأجور. ونعني بالبروليتاريا طبقة
العمّال الأجراء المعاصرين الذين لا يملكون أيَّة وسائل إنتاج فيضطرّون بالتالي
إلى بيع قوّة عملهم لكي يعيشوا».
وبهذا
المعنى، كم هي الفئات الاجتماعيَّة التي لا تملك أيَّة وسيلة إنتاج فتضطرّ إلى بيع قوّة عملها لكي تعيش؟
وهذا بغضّ النظر عن التفاوت في مقادير الأجور وعن
الشكل الذي يُترجم به توظيف قوَّة العمل.
ولذلك،
حين يتحدَّث أنجلز عن خطط الشيوعيَّة المستقبليَّة بالنسبة للمِلكيَّة، يوضِّح
قائلاً: «إنَّ الشيوعيَّة لا تسلب أحداً القدرة على تملّك منتجات
اجتماعيَّة، إنَّها لا تنزع سوى القدرة على استعباد عمل الغير بوساطة هذا
التملّك*».
وهذا
النمط من التملّك يؤدِّي، بحسب البيان الشيوعيّ، إلى المفارقة المأساويَّة
التالية: «في المجتمع البرجوازيّ، الرأسمال مستقلّ وشخصيّ في حين أنَّ الفرد الذي
يعمل تابع لغيره ومحروم مِنْ شخصيَّته».
ولذلك،
يخاطب البيانُ الشيوعيُّ الخصومَ البرجوازيين الذين يهاجمون الشيوعيَّة مِنْ زاوية
أنَّها تريد أنْ تلغي كلّ أشكال المِلكيَّة، قائلاً: «فأنتم تأخذون علينا إذن
أنَّنا نريد محو شكلٍ للمِلكيَّة، شرط وجوده أنْ تكون الأكثريَّة الساحقة محرومة
مِنْ كلّ مِلكيَّة».
ثمّ
يوضِّح قائلاً: «ومفهومات الشيوعيين النظريَّة لا ترتكز مطلقاً على أفكار أو مبادئ
اكتشفها أو اخترعها مصلح مِنْ مصلحي العالم. فما هي سوى التعبير الإجماليّ عن
الظروف الواقعيَّة لنضال طبقيّ موجود ولحركة تاريخيَّة تتطوَّر مِنْ ذاتها أمام عيوننا.
وليس هدم علاقات المِلكيَّة القائمة أمراً يلازم الشيوعيَّة وحدها. فقد كابدتْ
جميع علاقات المِلكيَّة تغييراتٍ تاريخيَّة متتابعة وتعاقُباً تاريخيّاً مستمرّاً.
فالثورة الفرنسيَّة مثلاً قضتْ على المِلكيَّة الإقطاعيَّة لمصلحة البرجوازيَّة.
غير أنَّ المِلكيَّة الخاصَّة في الوقت الحاضر، أيّ المِلكيَّة البرجوازيَّة، هي
آخر وأكمل تعبير عن أسلوب الإنتاج والتملّك، المبنيّ على تناحرات الطبقات واستغلال
بعض الناس لبعضهم الآخر**. وعلى هذا، باستطاعة الشيوعيين أنْ يلخِّصوا
نظريَّتهم بهذا الصدد في هذه الصيغة الوحيدة وهي القضاء على المِلكيَّة الخاصَّة».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
تغميق الخطّ، هنا، مِنْ فِعلِ كاتب المقال.
**
تغميق الخطّ، هنا، أيضاً، مِنْ فِعلِ كاتب المقال.