ياسر قبيلات ▣
من المعروف أن اليسار الأوروبي حينما أراد أن يتخفف من ماركس، وأن يتنصل من تأكيدات إنجلز على الماركسية بصيغتها التي وردت في المؤلفات ما بعد الهيغلية لناسك الفكر العالمي، لجأ إلى السطو على بيت غوركي!
وهذه واحدة من «أعظم عمليات السطو» في التاريخ، وتستحق حلقة طويلة من برنامج يحمل ذات الاسم، تبثه محطة ناشيونال جيوغرافيك؛ وربما تكشف مثل هذه الحلقة عن العلاقات المتبادلة التي ربطت الكاتب الروسي والأديب السوفيتي الشهير مع بعض أصدقائه من أركان الثقافة في أوروبا وأميركا، خصوصاً جورج برنارد شو ومارك توين ورومان رولان وأندريه جيد ولويس أراغون، وغيرهم ممن كانوا الشرفة التي قفز منها اللصوص إلى بيت ألكسي مكسيموفيتش (غوركي)!
ومن المؤكد أنه سيلفت المحققين في «الجريمة» أن مرتكبيها ابتدأوا بالتقاط الاهتمامات والتقنيات الإبداعية، قبل أن تقع أيديهم على قيم الحريات والحقوق المدنية وحرمة الثقافة وأولويتها على السياسة وحصانة المبدعين وتمكين الإنسان بمواجهة الحكومة وتعزيز دور المجتمع مقابل الدولة، إلى جانب كل تلك الأشياء الثمينة التي انتشلها اللصوص الغربيون من الدرج الذي يضم ملابس ألكسي مكسيموفيتش الداخلية!
يمكن مراقبة «الموجة الجديدة» في السينما والأدب التي وضعت فرنسا على خارطة التجديد الإبداعي منذ النصف الثاني من القرن العشرين..!
وهذا كله يعيدنا إلى المستقبليين الروس، الذين حولوا المستقبلية «الإيطالية المولد» وكانوا، إلى جانب الشكلانيين (كانوا هم أنفسهم)، وقوداً لفكر أوروبي «رأسمالي» جديد في الثقافة والفن، تعمق حتى وصل إلى اللغة وعلومها الرياضية وطال العمارة؛ فنتذكر أن هؤلاء كلهم كانوا حلقة «السُكر» اليومية، التي كانت تلتقي في بيت شاعر روسيا، السوفيتي العظيم، الشيوعي فلاديمير فلاديميروفيتش مايكوفسكي، ووازاهم في الفن التشكيلي كازيمير ماليفيتش، شريك تاتالين بإقامة أول معرض فني «مستقبلي» قبل ما يزيد عن مئة عام من اليوم، فأحدث انقلابه الشهير في الوعي الفني في الغرب.
وهذا، كذلك، ينقلنا إلى عامين بعد الثورة الاشتراكية العظمى؛ تفاقمت الأزمة بين غوركي ولينين حول تعامل الثورة مع الثقافة في وجودها المعنوي والمحسوس (المادي)، وحول ما أجازه لينين من تعامل «دولة الثورة» مع المثقفين.
تلك الأزمة (مع لينين)، التي بنتيجتها اختار غوركي السفر، على خصومةٍ مع الثورة ودولتها، إلى ألمانيا لـ«العلاج»، قادت لينين، الفَطِن، إلى التنبه إلى حراجة أن تتجاهل الثورة الموقف التقدمي المبدئي الذي تمسك به غوركي، فاختار أن يرسل القائد الثوري والناقد الأدبي اللامع، وأكثر الحزبيين ثقافة، نيكولاي بوخارين الشهير، الذي لا يشكو من علة، لـ«العلاج» في ألمانيا، بمهمة تم ضبطها بفكرة مركزية واحدة:
أن يبقى غوركي على خصومة مع الثورة، وأن لا يتجاوز ذلك إلى العداء.
طبعاً، كان ذلك الخلاف، بين غوركي ولينين، «بسيطاً»؛ على إثره سينتحر يسينين ثم يتبعه مايكوفسكي بعد سنوات من إدانته لانتحار يسينين وعلى إثر اكتشافه العمق التروتسكي المفزع في دولة الثورة، ويهاجر آخرون في الأثناء، بينما سيظل غوركي المنزعج من تروتسكي يدافع عن فكرته الحاسمة:
- ليس أخطر من الموت بقرار!
ويؤكد في الأثناء، أن قرار الموت في حالة المبدعين ليس قراراً شخصياً، بل هو موقف اجتماعي. وهذا الموت لا يقع إلا ببندقية محشوة ببارود من أمل خائب؛ ويصر تبعاً لذلك على وجوب أن تتوخى الآمال الكبيرة السداد، وأن لا تخيب، ولا تُخيِّب أمل الإنسان، من بدايتها حتى آخر أفقها!
الحوارات الطويلة بين غوركي وبوخارين في المنتجع العلاجي في ألمانيا، ورسائلهما المتبادلة لاحقاً بعد عودة بوخارين إلى الوطن السوفيتي، تكشف جزءاً مهماً من خبايا التطورات في ذلك الوقت، وبعض الحيثيات المهمة حول التروتسكية، التي يتحفظ غوركي على صاحبها، مع علاقته الجيدة به، التي تمتد إلى سنوات ما قبل الثورة. والملفت أن هذه الحوارات منحت غوركي في شخص بوخارين صديقاً مقرباً، إلى جانب صديقه الأعزّ الآخر، رفيقه القديم في مجموعة «إلى الأمام» الحزبية، أناطولى لوناتشارسكي..!
ومنذ بداية العشرينات، وحتى أواخرها، تنشط المراسلات والملاحظات والاستشارات بين ستالين من موسكو وغوركي من ايطاليا؛ ويتعامل الرجلان في البداية مكتفيين بالإعجاب المتبادل، فقد كان غوركي يعتقد أن الثورة كان يمكن أن تتحول إلى أضحوكة بغياب ستالين، وكان غوركي بالمقابل الكاتب المفضل عند القارئ ستالين (في أدبه وآرائه) مكرراً بذلك اعجاب أنطون بافلوفيتش تشيخوف الكبير بالكاتب الروسي «الشاب» سابقاً، وعميد الكتاب السوفيت لاحقاً.
ولكن الأمور تدفع المراسلات إلى حمل أسرار دولة..
أسرار دولة تعيش ظروفاً حرجة وتحتل مكانة بين الأمم الأولى، لدرجة أن حرب استخبارات دولية هائلة دارت أواخر الثلاثينات، بعد وفاة غوركي، للسيطرة على أرشيفه في أيطاليا. ولم تهدأ هذه الحرب الجاسوسية إلى أن تنبه الجميع أن الـ«كي.جي.بي»، التي لم تكن بعد «كي.جي.بي»، كانت شدت قبل أسبوعين من الهوسة الاستخباراتية حول الأرشيف كل أنظار الأجهزة النظيرة إلى تتبع محاولة جريئة نظمتها للوصول إلى هدف مكين في وزارة الداخلية الايطالية..
تلك العملية الاستخباراتية كانت في الواقع إلهاء للأجهزة المنافسة من خلال عملية «فاقعة» مقلقة، هدفها الحقيقي تأمين سيطرة هادئة على أرشيف غوركي في أيطاليا، وتهريبه بعد ذلك عبر مراكب غير شرعية إلى بارجة سوفيتية كانت بالانتظار، في عملية ربما كان اسمها «جوني ووكرر»، لأن جوني في الإنجليزية قريب في شيوعه من اسم ألكسي بالروسية، واسم «ووكر» بالإنجليزية يرادف معنى «بيشكوف» اسم عائلة الكاتب بالروسية.
وربما حمل الجزء البري من العملية اسم «ريد ليبل» بناء على ملاحظة خرقاء من عميل استطلاع لم يعرف طبيعة المهمة، فانكب بحكم تخصصه العلمي على وصف التربة، ما أشعل فكاهة واضعي الخطة بعد الكأس الثالثة.
وفي أواخر العشرينات، حينما دق أبو الخارجية السوفيتية الشهير، فيتشسلاف مولوتوف، ناقوس الخطر متنبئاً بحرب عالمية امبريالية محتومة تقع في غضون أربع إلى ست سنوات، استنفرت أعصاب ستالين ووعيه نحو تمتين الوضع الداخلي، وكانت ضمن أولوياته العاجلة استعادة غوركي إلى موسكو، بدور نافذ، بدأه مع بداية الكساد العظيم في أميركا!
وعاد غوركي، فأضاف إلى أعباء الحرب كلفة عالية للثقافة وفرض احتضانها في كل مؤسسات الدولة، بدءاً من التعليم وليس انتهاء بالجيش. فرضها على الدولة السوفيتية، وسرت من بعده إلى اليوم، تتحملها روسيا ما بعد السوفيتية، ولم تتخل عنها إلا روسيا يلتسين وكوزيريف «الأميركية»، الميالة إلى الطعن بغوركي.
طبعاً، مات غوركي بداية النصف الثاني من الثلاثينات، ولم يعش حتى تحقق نبوءة مولوتوف، ونشوب الحرب التي أمضى ستالين ووزير خارجيته عشر سنوات في التحسب لها. لكن خلال تلك الحرب، كان ستالين يسهو فيشير إلى غوركي بكلام لا يستقيم مع حقيقة أنه مات، وحينما ينبهه الحاضرون إلى ذلك، كانت ترتسم على وجهه لهنيهة إمارات الفزع، كأنما تلقى للتو أنباء خسارته الحرب برمتها. وكان عادة ما يعاجل بالخروج من لحظته المفزعة طالباً إيصاله هاتفياً بهذا القاطع العسكري أو ذاك.
عليّ أن أقول هنا، هذه التي سلف ذكرها هي بعض الرفوف من خزانة غوركي التي جرى السطو عليها، وأفرغها اللصوص من محتوياتها: الحريات، والحقوق المدنية، وحرمة الثقافة وأولويتها على السياسة، وحصانة المبدعين، وتمكين الإنسان بمواجهة الحكومة، وتعزيز دور المجتمع مقابل الدولة. تلك الرفوف التي أفرغها اللصوص الغربيون من جوهرها الثوري وحولوها إلى قيمة احسانية توعوية تبيعها، في مجتمعاتنا اليوم، منظمات دولية، خُلِقٓتْ لتستوعب في إداراتها الكادر الإنتهازي الذي كان أعلن عن نفسه مع بداية الحرب الباردة، بصخب هائل، باعتباره «اليسار الأوروبي»!
وهذا كله، يعيدني إلى فكرة جوهرية:
لقد عاشت الرأسمالية العالمية طوال المئة عام الماضية على فائض القيمة السوفيتية، تحديداً!
بعد سنوات من وفاة ستالين، سيعيش الكاتب السوفيتي صاحب ملحمة «الدون الهادئ» ميخائيل شولوخوف تجربة مماثلة، إلى حد ما، مع الدولة السوفيتية. ولكن الدولة بقيادتها الخروتشوفية تخذله بنزعة تعيد التذكير بمواقف غوركي من التروتسكية وصاحبها، وجفول الشاعر الروسي الخلاق، والسوفيتي المبدع، والشيوعي المندفع، فلاديمير مايكوفسكي، من ليف تروتسكي..
وسيضطر ميخائيل شولوخوف أن يهتف في لحظة حرجة ضد الخروتشوفية، واختلاقها موضوعة عبادة الشخصية (ستالين) بغرض فرض إجراء مراجعات ارتكاسية ونكوصية على المجتمع ومؤسسات الدولة تحاكم ستالين وتجربة دولة الثورة، فيقول قولته الشهيرة التي هزت النخبة الخرتشوفية، وهيأت للإطاحة بخروتشوف:
نعم. أقر. لقد كانت لدينا «عبادة شخصية»، ولكن على الأقل كانت لدينا شخصية (تستحق العبادة)!
وفي السنوات العشر الأخيرة، شاع في الأدبيات الروسية اقتباس لمقولة مجهولة المؤلف، تقول:
الشيوعيون يؤكدون أن ستالين شيوعي. والقوميون يجزمون انه قومي روسي. ووحدهم الأوغاد يصرون على انه كان وغداً..
وبالطبع، فإن الأقوال التي تشيع بينما يضيع اسم مؤلفها هي بالضرورة رأي من عمق قناعات المجتمع، تماماً مثل الحكم والأمثال، وهي بالأصل شكل من القول لا يقبل مؤلفاً فرداً، ويجنح لأن يكون من تأليف ثقافة شعبية..
المؤسف هنا، وسط كل هذه التجاذبات السياسية حول ستالين، التي تسير بموازاة موقف غوركي المبدئي الهادئ، تغيب كل المحددات التي كانت تحكم موقف الكاتب الروسي والمبدع والسوفيتي الشهير، ويستحضر أحد مواقفه من تروتسكي وستالين، ويتذكر أحد لماذا راجع موقفه من لينين فكتب فيه ما كتب.
يتذكر أحد على جه التحديد إصرار غوركي على الحريات، والحقوق المدنية، وحرمة الثقافة وأولويتها على السياسة، وحصانة المبدعين، وتمكين الإنسان بمواجهة الحكومة، وتعزيز دور المجتمع مقابل الدولة. ذلك في الوقت نفسه الذي يبيع فيه اللصوص الغربيون، اليوم، هذه البضاعة نفسها في السوق السوداء، بحماية عصابات صندوق النقد الدولي!
ذلك هو السطو، الوقح، على بيت غوركي، بعينه!