أحمد جرادات ▣
[إلى أم ناهض ورندة ومعتز ومعتصم وشقيقاتِه وأشقائِه: لقد كان حبيبُكم مفكراً ومناضلاً وطنياً وعروبياً وأممياً عنيداً وشخصيةً مميزة، ترك لكم إرثاً ثميناً يحق لكم الاعتزازُ به وذكرى وارفةً تأوون إليها كلما فاض نهرُ أحزانكم.]
"مات عرار وكان يئن
أما الأردن فلا يحتمل الأحرار
وكأن النصفَ الأولَ من عِشق الأردن يستهلكُ النصفَ الثاني."
بهذه الأبيات الثلاثة من قصيدة "قمرٌ على البلقاء" التي ألقاها في جنازته بنفسه، لخَّص ناهض مسيرته الكفاحية في وطنه- الأردن لا يحتمل الأحرار، والنصفُ الأول من عشقه يستهلكُ النصفَ الثاني- وترك لنا التفاصيل "يسهرُ الخلق جرَّاها ويختصمُ" -المتنبي:
تمهيد
لقد كان ناهض حتر في حياته الصاخبة ومماته الفاجع نموذجاً للبطل التراجيدي الأرسطوي تتجلى فيه الخصائص التي رآها أرسطو في الأبطال التراجيديين الإغريق، وأكثر: شخصية عظيمة تنطوي على نُبلٍ داخلي، "مقدَّرٌ" له، بأفعاله ومواقفه وأحكامه وأخطائه النابعة من مقاصد سليمة، الوصولُ إلى نهاية مفجعة، تثير تعاطفَنا وخوفَنا؛ التعاطفُ لأنه يصادف حظاً سيئاً لا يستحقه، والخوفُ لأن انقلاب حظه يمكن أن يحدث لأيٍّ منا في أي وقت. إنه مع الناس ومنهم، لا هو فوقهم إلى حد الانفصال عنهم، ولا هو تحتهم إلى حد التأخر عن خطواتهم (أسير مع الجميع وخطوتي وحدي-سعدي يوسف)، ذلك لأنهم لن يأبهوا بمصيره في الحالة الأولى وسيشعرون بأنه نال جزاءه في الثانية، بل يتماهون معه، ولذا فإنه يبعث فيهم كل هذا التعاطف مع قضيته وكل هذا الخوف من مآله. ثم يدركُ، أو يعترفُ بأن ما يحدث له ناجمٌ عن أفعاله ومواقفه وأفكاره وأحكامه وميزاته. كما أنه يتَّسم بكبرياء جارف واعتداد مفرط بالرأي والمعتقد وإيمان مطلق بما يفكر به ويقوله، ويلقى مصيراً أقسى مما يستحق بما لا يُقاس بمقاصده النبيلة. إنه ينتهي نهايةً تراجيدية لأنه يهوي من علٍ بأفعال لا يمكنه العودة عنها، ولكنه يتقبل موته بكل شجاعة وشرف. إنه مثخن بالجراح الجسدية والروحية جراء معاناته وتجربته التي تفضي إلى نهايته التراجيدية. وهو يتمتع بذكاء حاد يعينه على الاستفادة من أخطائه وبالتالي على الإصرار والمثابرة على السير نحو أهدافه بلا تردد، ويمتلك قدرات غير عادية ويتمتع بالشهرة وسعة الانتشار والمنزلة الرفيعة، مما يجعل نهايته أكثر تراجيدية عند انقلاب حظه رأساً على عقب. إن "المثلبة" التراجيدية المميتة ليست عيباً في شخصيته، وإنما هي خطأ في "التسديد" على الهدف، أي في اتخاذ قرار خاطئ أو حسابات خاطئة، لكن بنوايا حسنة، نتيجةً لمنطقِ معالجةٍ ذاتيٍّ أو عواملَ خارجية لا يدَ له فيها ولا سيطرةَ عليها.
إن الاتساق من أهم سمات البطل التراجيدي، أي أنه يتصرف ويتحدث بطريقة متسقة، لا مع شخصيته وحسب، بل مع تصورات الآخرين لسلوكه وكلامه، أي بما يتماشى مع نموذجه الخاص للشخصية. ويتمتع بصفات بطولية: النُبل والإقدام وعدم التهيُّب من أي شيء أو أحد، ويصارع ضد مصيره باقتدار. ولأنه لا يقبل بنظرة متدنية للذات، وبسبب الخطأ الذاتي في الحكم، فإنه يفشل في هذا الصراع الوجودي الملحمي في نهاية المطاف.
هل هو إذن "مخيَّرٌ أم مسيَّر" بالمصطلح الدارج؟ ما هو الشيء المسؤول عن المعاناة التي يكابدها في حياته، القدر أم الإرادة الحرة؟ لست هنا بالطبع بصدد الدخول في موضوع القدرية والجبرية، وأكتفي بالقول إن مأساته تنطوي على خيارات، أي أن لديه حرية الإرادة، ينتج عنها تناقضاتٌ تؤدي إلى نهاية "محتومة"- ليس بالمفهوم الديني طبعاً. كما تؤدي تراجيديا البطل إلى تغيير مآله ومآل أهدافه، فيتحول، مثلاً، من منقذ لمجتمعه إلى ضحية. بيد أن ذلك لا يعني أن معاناته مجانية، ذلك لأنه يستمد الاستنارة من قلب المعاناة، ويصبح قادراً على معرفة ذاته ومكانه تحت الشمس جيداً.
ولا يقتصر تأثير مصير البطل التراجيدي على ذاته، بل يمتد إلى النطاق العام (الناس، المجتمع، البلد) والنطاق الخاص (العائلة، الأصدقاء المقربون). إذ يمكن للناس العاديين أن يستمدوا طاقة إيجابية من مأساته لأنها تطال مصائر الجميع، من الملوك إلى المعدمين؛ فالشخص العادي برأي آرثر ميلر (جو كيلر في مسرحية "كلهم أبنائي") يمكن أن يكون شخصية تراجيدية طالما أنه يسعى إلى التمتع بهوية حقيقية وكرامة شخصية (السعي إلى هوية وطنية حقيقية وكرامة شخصية؟ هذه هي ضالَّةُ ناهض طوال حياته الغنية).
من هو ناهض حتر؟ من الذي قتل ناهض حتر؟ ولماذا قُتل ناهض حتر؟ (تكرار الاسم مقصود)
- ناهض مفكر وكاتب وحركي في آن معاً، يُنتجُ فكراً سياسياً ويدوِّنه في كتب وبحوث ومقالات لا تُحصى، ويهبط به من علياء النظرية إلى أرض الواقع ويجرِّبُه عيانياً، وعلى أساسه ينظِّم نشطاء ويشكِّل مجموعات وحركات ويُنشئ مؤسسات. يكتب بغزارة وبلا انقطاع ويحرص على نشر ما يكتبه، وكلما سُدَّت نافذةُ تعبيرٍ في وجهه، بحثَ عن أخرى؛ مثابرٌ في القول والعمل، يكتب بأسلوبٍ خاصٍ به تماماً، لعله أشبهُ ببصمة الأصبعِ والعين، بحيث يمكن لمتابعيه تمييزُه من النظرة الأولى- أنا مستعد للقول إن ناهض حتر أهمُّ كاتبِ مقالٍ سياسي في الأردن على الإطلاق، وأحد أهم كتاب هذا اللون من المقال في العالم العربي بأسره. ويبتعد الكاتب بوعي عن الأسلوب الدائري المعتاد لكتابة المقال، أي الذي يعود في نهايته إلى حيث بدأ، ويعتبره نقيصة، ويكتب بالأسلوب المتنامي الصاعد الذي يشبه حركة التاريخ التي آمن بها. وهو يعبِّر عن أكثر الأفكار تعقيداً بأبسطِ العبارات وأجملِها وأسْلسِها... بلا جملة ولا كلمة زائدة عن الحاجة- حاجةِ موضوع المقال وهدفِه ونطاقِه - يجترحُ الحلولَ ويبلورُ المواقفَ وينحتُ المصطلحاتِ المناسبةَ إذا لزم المقام.
- ناهض كينونة سياسية محض، ليس في قاموسه السياسي مداورةٌ أو مناورة، ولا خوفٌ من خصم، أو مجاملةٌ لصديق أو سكوتٌ عن حليف. لا يتذكر، وهو يكتب أو يقول، شيئاً أو أحداً غيرَ ما يكتبه أو يقوله، لا يهمه ما سيقوله أو ما قد يقوله الآخرون؛ فالثقةُ الفياضة بالنفس والاعتدادُ المفرط بالذات والإيمانُ المطلق بصحة ما يطرح تمدُّه بشعور "الاكتفاء الذاتي" إن صحَّ التعبير. إنه لا يخجلُ من أفكاره أو أطروحاته السياسية ولا يراوغُ في التعبير عنها مهما كانت صادمة لغيره. يعشقُ الخوضَ في وحل النضال الواقعي اليومي العياني، ولا يخشى التلوّثَ بأوساخ فن الممكن، ولا يترددُ في البوح أو الفعل إذا اعتقد أن ذلك يعود على قضيته بالنفع.
- ناهض دائم التنقل من مشروع سياسي، وحتى ثقافي، إلى آخر، لا يكلُّ ولا يملُّ ولا ييأس، وكلما كبا نهضَ (له من اسمه كلّ ُنصيب، كما يُقال)، من اتحاد الطلبة الأردنيين إلى الحزب الشيوعي إلى اتحاد الشباب الديمقراطي في السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم، إلى الجبهة الوطنية الأردنية في التسعينيات منه، الى مناهضة العولمة الرأسمالية، إلى حركة اليسار الاجتماعي، إلى حركة المتقاعدين العسكريين، التي سنضيئ عليها لاحقاً، إلى مجلس العلاقات الخارجية في منقلب القرن الحالي، إلى مشروع المشرقية التقدمية الأخير، الذي قفز به قفزة كبرى إلى الأمام بعدما أدرك أن ماءَ الأردن، الذي طالما عشقهُ وتغنَّى به و"قدَّسه"، ضحلةٌ لا تحمل الغطاس، وربما في محاولةٍ لإيجاد حلٍ "للمعضلة" المستعصية التي تحول دون إحداث التغيير الذي ينشده ويحلم به في الأردن بمفرده ومن داخله، وذلك عن طريق وضعه في إطار مشروع المشرقية الكبير، مشروعِ التوحيد في زمن التقسيم، الذي يكون فيه الأردن جزءاً من سوريا الكبرى والعراق. وكان يحضِّر مع رفاقه لعقد مؤتمره التأسيسي في دمشق في الوقت الذي تتصدى مع حلفائها لأبشع عدوان إمبريالي صهيوني رجعي عليها في هذا القرن، وأصدر معهم جريدة ينسجم اسمها مع مشروعه المشرقي: ميسلون. ولا يعود العجز عن حل المعضلة الأردنية إلى أسبابٍ ذاتية، أو إرادة الأشخاص أو عدم وجود مناضلين أو مخلصين أو حتى حالمين، وإنما إلى طبيعة تكوين الدولة الأردنية ونشأتها ووظيفتها الجيو-سياسية الأمنية كدولة عازلة، ثم تحويلها إلى كيان هجين وخزان ديمغرافي مفتوح لجهات الريح الأربع، مع هندسة البلد والمجتمع بما يؤدي إلى تحويلهما إلى كيان رث ومجتمع رث، لا يمكن أن تظهر فيه أم كلثوم أو فيروز أو عبد الناصر أو الجواهري أو مهدي عامل أو انطون سعادة الذي تأثَّر به ناهض في مشروعه المشرقي.
- ناهض أحبَّ يعقوب زيادين ووصفي التل معاً-لا تستغربوا، فهذا هو ناهض، لا يجد في هذا الحب المركَّب غضاضةً أو تناقضاً - فقد قال بلسان الشاعر حبيب الزيودي إنَّ فيه شيئاً من وصفي وشيئاً من زيادين، مستشهداً بأبيات الأخير عن الأردن:
"يا سدومُ الغريبةُ... التي عقرتْ ناقةَ الله
ما أنتِ أغنيتي يا جَحود ولا لغتي
ولا أنتِ قافيتي يا جَحود ولا وطني
وطني حيثما مرَّ يعقوب زيادين يحمل ألواحه وصليبه..."
أحبَّ وصفي التل واتَّخذه مثلاً أعلى، فلقي المصير نفسه، وعلى نحو مشابه: خطةٌ مُحكمة وتقاطعُ مصالح لأطرافٍ عدة وتطميناتٌ مضلِّلة وقاتلٌ محترف: هناك قناصٌ أمريكي أشقر حليق ببدلة وربطة عنق، وهنا إرهابيٌّ أسمر بدشداشة وكوفية بلا عقال ولحية "على السنة" (دعكم من خرافة أيلول الأسود، فقد كان هؤلاء مجردَّ كومبارس على مسرح الجريمة لتحميلهم تبعات حقبة كاملة).
- ناهض وثِقَ كلَّ الثقة بالبيروقراطية الأردنية "الدولة العميقة"، وآمنَ كلَّ الإيمان بأنها ستحمي البلد من خطر "الدولة الموازية" وستكفلُ عدمَ انكشاف ظهرِه لرجالها في أتون الصراع بين تيار "الأردنة" وتيار "الأسرلة" كما كان يسميه. لقد كانت الدولة الأردنية بلا عقل فأراد ناهض أن يمنحها عقلاً، وكانت البيروقراطية الأردنية بلا فكر، فأراد أن يمنحها أفكاراً، و"نظَّر" لها طويلاً ودافع عن مصالحها وأضفى عليها نوعاً من"الأناقة" الوطنية، إلا انها عندما خُيِّرت بين الرضى بتقليص حصتها من الفريسة/الأضحية (الأردن) وبين فقدان كل شيء عندما تحينُ لحظة الحقيقة الوشيكة ويأتي الطوفان القريب، اختارت الأول، "فأنكرت ناهض قبل صياح الديك وباعته بثلاثين من الفضة"، الأمر الذي ينسجم تماماً مع طبيعتها الطبقية البنيوية وتبعيتها الراسخة للنظام، التي طالما جادلَ ناهض بعكسها.
إن كلَّ من أسهم في الحملة الممنهجة ضد ناهض حتر إنما هو شريك في التمهيد "لوجستياً" لاغتياله. فالقاتل المباشر المدعو رياض إسماعيل، إمام المسجد والموظف في وزارة التربية والتعليم والعائد للتو من الحج الذي استطاع إليه سبيلاً بلا عوائق، بحسب جريدة الوفد المصرية، ليس سوى كاتمَ صوت في يد القاتل الحقيقي: وهو كلُّ من حقَنَه بالأيديولوجيا الوهابية ودرَّبه على سلاح القتل واستخدمه لتنفيذ أهدافه السياسية، ومن أعطى الأوامر بالقتل وأعدَّ المسرح لقتله بالتحريضِ عليه والتجييشِ ضده وإصدار الفتاوى بهدرِ دمه والإيعازِ باستباحته. فالقاتل المباشر لا يعرف من هو ناهض حتر ولا يعي أهميته ولا يأبه بفكره وثقافته ودوره، شأنُه شأنُ من قتل فرج فودة وحاول قتل نجيب محفوظ وأحرق مكتبة هيكل.
كما أسهمت قوى سياسية عديدة، يساريةٌ وقومية وإسلاموية، منذ فترة طويلة، في حملةٍ واسعةِ النطاق استهدفت ناهض، تارة باسم اليسار وأخرى باسم القومية وثالثة باسم الوحدة الوطنية ورابعة باسم الإسلام- الإخوان المسلمون على وجه الخصوص- وخامسة بسبب مواقفه الصريحة والثابتة المؤيدة لجبهة المقاومة، سوريا وحزب الله وإيران وروسيا، ضد الحرب الامبريالية الصهيونية الرجعية على سوريا، الأمر الذي ساعد على الانفراد به واستهدافه.
لقد حمَلَ ناهض في رأسه وعلى كاهله مشروعاً ذا شقيْن، أثقلَ من أن يحملَه رأسٌ واحد وكاهلٌ واحد، وعصيّاً على التنفيذ ومحكوماً بالفشل- لا لخطأ في الفكرة أو لنقص في صاحبها، وإنما لأن أخطاراً "تكتونية" تقف دون تنفيذه - وهو ما أسميه "مشروعَ المستحيليْن"، أو "مشروعَ فك الارتباط المزدوج": فكُّ الارتباط بين الأردن والضفة الغربية، وهو ما روَّجه تحت العنوان الشهير: "دسترة قرار فك الارتباط" الذي ملأ الدنيا وشغلَ الناس؛ وفكُّ الارتباط بين الأردنيين والنظام الحاكم، وهو ما وضعه تحت عنوان "بناء الحركة الوطنية الأردنية".
أما بالنسبة للشِّق الأول من مشروعه، فكُّ الارتباط مع الضفة الغربية، فيعتقد بعض الباحثين أنه بمثابة تحديث جوهري لمشروع كل من رئيسيْ الوزراء هزاع المجالي ووصفي التل، بما يواكب التطورات التي طرأت على القضية الفلسطينية عموماً وعلى وضع الضفة الغربية خصوصاً، وأن مشروعهما كان سبباً في اغتيال الرجلين (اغتيل رئيس الوزراء هزاع المجالي في آب/أغسطس1960 في دار الرئاسة بعمان، واغتيل رئيس الوزراء وصفي التل في تشرين الثاني/نوفمبر 1971 في فندق شيراتون بالقاهرة).
وقد أوضحَ ناهض وأسهبَ في العديد من كتاباته ومقابلاته وندواته أنه طرحَ مشروعَ فك الارتباط مع الضفة الغربية كمشروع مضاد لمشاريع تصفية القضية الفلسطينية نهائياً على حساب الأردن وفلسطين معاً وشطْب حقوق الشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حقُه في تحرير أرضه التاريخية والعودة إلى وطنه التاريخي فلسطين، وأخطرها مشروع إقامة ما سُمي بــ "الوطن البديل" من خلال التوطين الناعم، ومفرداته الشائعة "التجنيسُ والمحاصصةُ والحقوقُ المنقوصة"، في إطار تحويل الأردن إلى "حوض سكاني" لاستيعاب جميع المهاجرين واللاجئين والمستوطنين من شتى أنحاء المنطقة، حيث يُسمح للأفاقين واللصوص والجواسيس وصائدي الفرص والمكافآت وغاسلي الأموال بالاستيطان والاستثمار والتملُّك بلا قيود والحصول على جنسية والوصول إلى المناصب العليا في الدولة. وأكَّد ناهض غيرَ مرة أنه للحؤول دون وقوع هذه الكارثة اجترحَ هذا الحل الذي أسماه "دسترة قرار فك الارتباط"، لعام 1988"، الذي أُسيء فهمه، عمداً أو سهواً، بوعي أو بدون وعي، فباتَ بالنسبة للعديد من خصومه والكثير من الناس العاديين اسماً كودياً للنزعة "الإقليمية"؛ فما أن تُذكر العبارة حتى تثور العواصف وتقوم الدنيا ويُرمى صاحبها بالسهم "الإقليمي" الزُعاف (نسبة إلى "إقليم"، وهو مصطلحٌ متفشٍ في الأردن وفلسطين فقط ولا محلَّ له من الإعراب في القاموس الأيديولوجي أو السياسي).
وأما الشقُّ الثاني من المشروع، فك الارتباط بين الأردنيين والنظام الحاكم الذي أتْبعهم له منذ عام 1970، فقد نادى به وعمل في سبيله على بناء "حركة وطنية أردنية" مستقلة عن النظام، وهذا بيت القصيد وهنا مربط الفرس وفيه مَكمن الخطر. وفي هذا الإطار جاءت المبادرة الشهيرة التي أُعلنت في بيان أيار المدوِّي وهدفت إلى خلق شكل تنظيمي للمتقاعدين العسكريين، ممن كانوا جزءاً عضوياً في تركيبة النظام، وبدأوا يستشعرون الخطر على بلدهم وأنفسهم. وقد رأى ناهض أن حركتهم تنطوي على إمكانية الاستقلال عن النظام أو النأي عنه على الأقل.
هذه محاولةٌ متواضعة، لكن دعوةٌ جادة إلى إنصاف الشهيد ناهض حتر بإطلاق مشروع ثقافي يُعنى بالكتابات والفكر السياسي لهذا المقاتل الذي دفع حياته ببسالة ثمناً لحبه المستحيل للأردن الذي لا يحتمل الأحرار والذي يستهلك النصفُ الأول من عشقه النصفَ الثاني، فالمجد له.
عمان في 15 تشرين الأول/أكتوبر 2016
Ahmadjaradat09@gmail.com