يستحقّ النائب غازي
الهواملة الاحترام والتقدير والمساندة والتضامن، وليس الصياح في وجهه ومطالبته
بالاعتذار وبالتراجع عن كلامه.. على النحو الغريب الذي واجهه به بعض زملائه
ورئيسهم.
عن ماذا يجب أنْ يعتذر
النائب الهواملة؟ وهل هو مَنْ يجب أنْ يعتذر أم سواه؟
النائب الهواملة قام
بواجبه الدستوريّ.. ألا وهو المساءلة، وتحدّث في صلب الموضوع المثار هذه الأيّام
من الحكومة ومن الجميع.. ألا وهو موضوع «العقد الاجتماعيّ»1. وبالمناسبة، فهو قال
كلاماً واضحاً ومحدّداً في هذا المجال، في حين أنَّ الآخرين ما زالوا يهوّمون مِنْ
دون أنْ يعرف أحدٌ ما الذي يعنونه بكلامهم عن العقد الاجتماعيّ.
النائب الهواملة تحدّث عن
ضرورة إعطاء الولاية العامّة للحكومة، وعن تداخل الصلاحيّات بين الملك وبين زوجته،
وعن وجود آلاف الموظّفين في الديوان الملكيّ.. الخ. وهذا تقوله الغالبيّة الساحقة
من الأردنيين وتشكو منه.. ليس في المجالس الخاصّة فقط، وإنّما علناً وعلى مواقع
التواصل الاجتماعيّ.
ما فات النائب الهواملة
قوله هو أنَّ الملك يمسك بيده جميع السلطات، وأنّ آلاف الموظّفين الموجودين في
الديوان الملكيّ هم بمثابة دولة فوق الدولة. وكلّ أولئك الذين يتدخّلون في شؤون
الدولة مِنْ دون مسوّغ دستوريّ، إنّما يفعلون ذلك بالاستناد إلى الصلاحيّات
المطلقة (الأوتوقراطيّة) التي يمسك بها الملك.
إنَّ هذا الخلل الفادح في
النظام السياسيّ القائم في الأردن هو أُسُّ كلّ جوانب الخلل الأخرى. وإذا لم
يتحدّث عنه الذين يثرثرون عن «العقد الاجتماعيّ»، فعن ماذا سيتحدّثون
إذاً؟
العالم تغيّر كثيراً مِنْ
حولنا، فمِنْ بين اثنين وأربعين نظاماً ملكيّاً وراثيّاً (مملكة، إمارة، مشيخة،
دوقيّة) قائماً الآن، توجد اثنتان وثلاثون ملكيّة نيابيّة. أي ممالك تحكمها
الأغلبيّة النيابيّة التي يشكّل رئيسُها الحكومةَ، فتكون الحكومةُ هي وحدها صاحبة
الولاية العامّة. أمّا رأس الدولة (الملك، أو الأمير، أو الدوق.. الخ)، فيكون
رمزاً للدولة وضامناً للدستور.
الدول العشر الباقية هي
ملكيّات أوتوقراطيّة (حُكمُها فرديّ مطلق)، وهي الأردن والمغرب ودول الخليج وبروناي.
تجدر الإشارة، هنا، إلى
أنَّ الأوتوقراطيّة (الحكم الفرديّ المطلق) قد تكون دستوريّة وقد تكون
غير دستوريّة. ففي هاتين الحالتين كلتيهما يجمع الحاكمُ الوراثيُّ، كلَّ
الصلاحيّات بيده، سواء برّر ذلك بنصوص دستوريّة أو مِنْ دونها. بيد أنَّ كثيرين لا
يعرفون هذا الفرق في المفاهيم ويخلطون بين الملكيّة النيابيّة وبين الملكيّة
الدستوريّة. ففي الأردن والمغرب توجد ملكيّة دستوريّة، لكنَّها مِنْ نمط الحُكم الفرديّ
المطلق (أوتوقراطيّة).
المَلَكيّة الوراثيّة
نظام ينتمي إلى العصور الوسطى؛ لذلك، فإنَّ البلدان المتحضِّرة التي توجد فيها
مَلَكيّات وراثيّة قامت بعقلنتها وتشذيبها وتهذيبها وعصرنتها، فحوَّلتها إلى أنظمة
برلمانيّة.. الولاية العامّة فيها للحكومة المنبثقة مِنْ مجلس نيابي منتخب، أمَّا
الملك (رأس الدولة) فهو رمزٌ لها وضامن للدستور.
والشعب الأردنيّ يستحقّ
نظامَ حكمٍ ديمقراطيٍّ حقيقيّ وعصريّ؛ فهذا كان مطلبه وحلمه دائماً.. منذ ما قبل
قيام الدولة الحاليّة. كما أنّ هذا هو ما طالبت به الحركة الوطنيّة الأردنيّة،
طوال عمر الدولة الذي يُقارب القرن. ونجد تعبيراً واضحاً عن بواكيره في الخطاب السياسيّ
الراقيّ للمؤتمر الوطنيّ الأردنيّ الأوّل الذي عُقِدَ في العام 1928، بل وما
قبله.. في مؤتمرات: قم، وأمّ قيس، والسلط.. الخ.
والدستور الأردنيّ،
أيضاً، يُفتَرَض أنّه يؤسّس لملكيّة نيابيّة وليس لملكيّة أوتوقراطيّة بقناع
دستوريّ؛ حيث تنصّ المادّة (1) فيه على أنَّ «نظام الحكم نيابيّ ملكيّ
وراثيّ». أي أنَّ النيابة هنا مقدَّمة على كلّ ما عداها. وفي الفصل الثالث
منه – المادّة 23 ينصّ على أنَّ «الأمّة مصدر السلطات».. حتَّى إنْ كان
معظم التعديلات التي جرت على الدستور، وكذلك بعض النصوص القديمة فيه، يتعارض مع
هذا البند الجوهريّ التأسيسيّ الذي يُعرِّف طبيعة النظام السياسيّ.
على أيّة حال، النائب
الهواملة لم يخطئ، لكي يطالبه رئيس المجلس بالاعتذار ويقدّمه للمساءلة؛ فكلّ ما
قام به هو أنّه أدّى بعض أوجه واجبه كنائب. ومَنْ يجب عليه أنْ يعتذر هو النوّاب
الذين قصّروا ويقصّرون في أداء واجبهم الدستوريّ، ورئيس مجلس النوّاب الذي – بخلاف الدستور
والقانون – يعاقب نائباً لأنّه قام بواجبه الدستوريّ.
النوّاب يُفتَرَض أنْ
يكونوا ممثّلين للشعب وليس لسواه، وأنْ يذودوا للدفاع عنه وعن حقوقه.. لا أنْ
يساعدوا أصحاب السلطة والنفوذ في التغوّل عليه. وعلى رأس حقوق الشعب هذه التي مِنْ
واجب النوّاب الدفاع عنها، حقّه الدستوريّ في أنْ يكون مصدر السلطات المُصادَر
عنوةً، وحقّه وحقّ النوّاب أنفسهم في المساءلة.. المعطّل بسبب تعطيل المبدأ
الدستوريّ القائل بأنّه لا مسؤوليّة مِنْ دون مساءلة.
ولذلك، فإنّه من العجيب
أنْ ينبري النوّاب للتصدّي لزميلٍ لهم.. لا لشيء سوى أنّه حاول مساءلة صاحب
المسؤوليّة الأولى في البلاد!
قبل مداخلة النائب
الهواملة الشجاعة تلك، لم أكن أعرفه، بل ولم أكن أهتمّ بما يجري في مجلس النوّاب.
وأظن أنّ هذا كان موقف أغلب الأردنيين. ولكن، بعد هذه المداخلة، فلدينا نائب اكتسب
شرعيّة وطنيّة واسعة.. وكلّ أملنا أنْ يثبت على موقفه ويصمد في وجه الرياح العاتية
التي ستهبّ ضدّه، وأنْ لا يتركه الشعب والوطنيّون والديمقراطيّون الأردنيّون يواجه
مصيره وحده. فإذا تركناه، سينطبق علينا القول المأثور:
«أُكِلتُ يوم أُكِلَ الثور
الأبيض».
بل أيضاً: «لات ساعة مندم».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1كانت الحكومة قد
تحدَّثتْ – آنذاك – عن «العقد الاجتماعيّ»، بصورةٍ تفتقر إلى
الوضوح والتحديد. وطبعاً، لم يحدث أيّ تقدّم في هذا المجال بعد ذلك.
(هذا هامش أضفته اليوم
الأحد 10 تشرين الثاني 2019، لدى إعادة توزيع هذا المقال بوساطة وسائل التواصل
الاجتماعيّ).
- تجدر الإشارة، هنا، إلى أنَّه تمّ تحديث الصورة التي كانت مرفقة بالمقال.