في
وقفة الخميس الماضي عند الدوّار الرابع، لاحظتُ أنَّ عدد الذين تجهَّزوا بكراسٍ
يمكن طيّها على شكل عكّازة قد ازداد بصورةٍ ملحوظة؛ ففكَّرتُ بانَّه عندما يتجشَّم
الإنسان عناء البحث عن كرسيٍّ نادرٍ كهذا ويشتريه، متحمِّلاً عبء تكلفته الماليّة،
ليستخدمه أثناء مشاركته في وقفات «الرابع»،
فترجمة ذلك هي إدراكه أنَّ هذه الوقفات الاحتجاجيّة قد تستمرّ طويلاً، وأنَّه –
رغم هذا – مصمِّمٌ على
الاستمرار بالمشاركة فيها.
النظام،
بالمقابل، يواصل حالة الانكار التي تلبَّسته، فيردّ على الاحتجاجات المتواصلة
بالسعي إلى تكميم الأفواه وبالفيديوهات سيّئة الحبكة والإخراج!
بالمناسبة،
لا أعرف ما هو «الرابط العجيب»
المفتَرَض بين الرسائل التي تتضمّنها تلك الفيديوهات وبين المطالب السياسيّة والاجتماعيّة
والاقتصاديّة للشعب!
ليس
ثمَّة ما يمكن قوله، في هذا الشأن، سوى: أعيدوا السلطة إلى الشعب وأعيدوا إليه
وطنه، ثمَّ كلوا واشربوا وعيشوا حياتكم الخاصّة كما تريدون.
وطوال
الأشهر الماضية، بُذِلَتْ جهود كبيرة في إعلام النظام (الذي يطالب المحتجّون
بتحريره والارتقاء به ليصبح بمستوى إعلام وطن ودولة) لتشويه الحِراك والدسّ عليه..
بغية تقليص حجم قاعدته الاجتماعيّة الكبيرة والحدّ مِنْ فاعليّته الملموسة؛ كأنَّ
المشكلة في الحِراك وليست في النظام! وكأنَّ الحراك لم يولد أصلاً مِنْ رحم أزمة
النظام!
ولذلك،
ذهبت كلّ تلك الجهود سدى ولم تقنع سوى المقتنعين أصلاً.
وبالإضافة
إلى هذا، جرتْ (وتجري) محاولات حثيثة ومكثَّفة داخل ساحة الاعتصام، نفسها، لبثّ
اليأس والشكوك في نفوس الحِراكيين. وذلك، أحياناً، عن طريق توجيه أسئلة تبدو بريئة
ومخلصة وليس لها أيّ هدفٍ مريب؛ وأحياناً بمحاولة الإيحاء ببعض التصوّرات والأفكار
المحبطة؛ وفي أحيانٍ أخرى بتقديم اقتراحات ظاهرها العمل لصالح الحِراك وفعاليّاته
وباطنها يضمر الإضرار به وتخسيره.. الخ.
وقبل
الانتقال إلى التفاصيل وتقديم الإيضاحات، أؤكِّد بأنَّه ليس كلّ مَنْ تقدَّم بمثل
هذه الأسئلة والتصوّرات والاقتراحات، التي سأتناولها تالياً، مشبوه وسيِّئ النيّة؛
ففي كثيرٍ من الأحيان يوضع بعض حَسًني النيّة في مواقف تتعارض مع نواياهم الحسنة
مِنْ دون أنْ يفطنوا.
على
أيَّة حال،
ليس
نادراً ما يأتيك أحدٌ ما وأنت على «الرابع»،
ليسألك عن سبب عدم مشاركة الكثير من الناس في الوقفة الاحتجاجيّة. والسائل، هنا، ينسى
(وربَّما يتجاهل) أنَّه يوجِّه سؤاله هذا نحو الاتِّجاه الخطأ. فالصحيح هو أنْ يوجِّهه
إلى الناس المعتصمين في بيوتهم..
أليسوا
متضرِّرين، هم أيضاً، مِنْ سياسات النظام الجائرة.. مثلهم مثل الموجودين على «الرابع»؟
أليست
كراماتهم مهدورة مثلهم؟
ألا
يشعرون، مثلهم، بأنَّه من المهين للإنسان أنْ يكون محكوماً بواحدٍ مِنْ آخر تسعة
أنظمة حكم ملكيّة أوتوقراطيّة قروسطيّة في العالم؟
أليس
لديهم، مثلهم، طموح للحريّة والديمقراطيّة والتحرّر الوطنيّ والعدالة الاجتماعيّة
والتنمية المتمحورة على حاجات الناس وعلى المصالح الوطنيّة؟
البثّ
المباشر الذي يجريه (ائتلاف الحِراكات والقوى الوطنيّة «مش
ساكتين») يحظى بمشاهدات عالية
تبلغ عشرات الألوف. فلماذا لا يأتي هؤلاء المشاهدون (أو على الأقلّ ربعهم أو خمسهم..
أو حتَّى سدسهم) إلى «الرابع»
ليكونوا شركاء في الحدث ومؤثِّرين.. وليسوا مجرّد مشاهدين له ومتابعين مِنْ وراء شاشات
الهاتف أو اللابتوب؟
على
أيّ حال، نحن ننظر إلى مشهد «الرابع»
مِنْ زاوية أخرى مغايرة، فنرى ما يلي:
أوّلاً،
هذا العدد من الناس المثابرين على الاحتجاج، الذين لا يكلّون ولا يملّون.. أصحاب العزيمة
والإرادة وطول النفس، هو عددٌ كبير بكلّ المقاييس.. بل إنَّه أكبر بكثير مِنْ أولئك
الذين ثابروا على الاحتجاج على مدى سنواتٍ طويلة في «ميدان
التحرير» في القاهرة في
عهد حسني مبارك؛
وثانياً،
مطالب الحِراك تشمل حاجات وحقوق ومصالح أوسع قطاعات الشعب الأردنيّ؛ ولذلك
(ولسواه)، نحن نعتبر أخوتنا رجال الأمن المحيطين بنا جزءاً مهمّاً مِنْ وقفتنا
الاحتجاجيّة وليسوا نقيضاً لها كما يريدهم النظام. وبهم يتضاعف حجم وقفتنا ويتَّسع
ويزداد تمثيلها.
ثمَّ
يأتيك مَنْ يسألك عن مدى جدوى استمرار الاحتجاجات..
السائل،
هنا، لا يرى (وربّما يتعامى عن) مدى الارتباك الملحوظ الذي يطبع قرارات النظام
وإجراءاته وتصرّفاته في المدَّة الأخيرة، ولا يرى أيضاً مدى الإسفاف الذي بلغه
النظام في بعض الأحيان وهو يحاول أنْ يسوِّق نفسه عند الشعب أو يحاول أنْ يواجه
الخطاب المضادّ الذي يصدر عن الحِراك وعن الشعب. كما أنَّه يتجاهل كم عدد
الحِراكيين البارزين الذين تمّ اعتقالهم، والذين تمَّت ممارسة مختلف أنواع الضغوط
عليهم، والذين استُخدِمَتْ مختلف الدسائس لكسرهم. هل هذا كلّه لأنَّهم لم يؤثِّروا
ولم تكن ثمَّة جدوى لنضالهم؟!
بالمناسبة،
لا يزال صبري المشاعلة ونعيم أبو ردنيّة مضربين عن الطعام، ووضعهما يسوء. فلو جرى
لهما شيء (لا سمح الله)، هل يضمن النظام أنْ يمرّ هذا بهدوء وأنْ تكون عواقبه
سليمة؟!
ثمَّ
لا يلبث أنْ يأتيك مَنْ يحاول أنْ يوحي لك، مباشرةً أو بصيغة سؤال، بأنَّ الحِراك
مشتَّت وشعاراته فوضويّة وعشوائيّة، وأنَّه ثمَّة ردود أفعال وأقوال غير مناسبة
مِنْ بعض الحِراكيين.. الخ.
وأردُّ
على هؤلاء بما يلي:
الحِراكات
الأساسيّة الحقيقيّة، التي لها وجود فعليّ على «الرابع»
وفي المحافظات، ومعها عدد من الأحزاب والقوى السياسيّة، تمَّ توحيدها منذ أشهر في إطار
(ائتلاف حِراكات وقوى «مش
ساكتين»). وهذا الائتلاف
مفتوح باستمرار لكلّ مَنْ يمكن أنْ تكون له مساهمة حقيقيّة في تطوير عمل الحِراك
وزيادة فعاليّته.
و«مش
ساكتين» أصبح الآن منظَّماً
بصورة مقبولة، ويطمح إلى تطوير إطاره وعمله باستمرار. حيث توجد له الآن لجنة تنسيق
يجتمع فيها ممثِّلون لأطراف الائتلاف، وتوجد له لجنة إعلاميّة يشارك فيها إعلاميّون
محترفون، وتوجد لجنة حرّيّات أعضاؤها محامون ونشطاء في مجال الحرّيّات وحقوق
الإنسان، وتوجد لجنة تنظيم مهمّتها الإشراف على ترتيبات الوقفة الاحتجاجيّة على «الرابع»
والحرص على انتظامها بشكلٍ سليم.
وتوجد
الآن صفحة فيسبوك لـ«مش ساكتين»
وبثّ مباشر ينطق باسمه مستخدماً صفحته، كما توجد له قناة يوتيوب. ويحظى بثّه
المباشر بعددٍ كبيرٍ من المشاهدات.
وإضافة
إلى هذا، فإنَّ قادة الحِراك موجودون في الميدان. وعند كلّ طارئ، يتواصلون سريعاً
وينسِّقون مواقفهم ويضبطون ردود أفعالهم.
وكلّ
يوم أحد، تجتمع تنسيقيّة الائتلاف لتقيّم الأداء في الخميس الذي سبقه، وتُعِدَّ
لوقفة الخميس التالي، وتتوافق على العنوان الرئيس لتلك الوقفة وعلى صياغة الدعوة
الخاصّة بها وعلى الهتافات التي ستُطلَق فيها وعلى أسماء الحِراكيين الذي سيتولّون
الهتاف، وتتباحث في سبل تطوير الاحتجاجات.. ليس على «الرابع»
وحده، وإنَّما في مختلف المحافظات.
والآن،
توجد منصّة واحدة للهتاف على «الرابع»،
يديرها بالكامل ائتلاف «مش
ساكتين».
ورغم
ذلك كلّه، يمكن لأيّ جهة –
وهذا حدث فعلاً أكثر مِنْ مرَّة –
أنْ تدسّ أحداً ليقف في زاوية ما مِنْ زوايا ساحة الاعتصام ويدلي بما يشاء من الأقوال
المسيئة. وبقدرة قادر، سرعان ما يتمّ نشر هذه الأقوال على نطاقٍ واسع مع نسبتها –
زوراً وبهتاناً –
إلى الحِراك.
ولكن،
الآن، مع وجود جهة واضحة محدَّدة تمثِّل الحِراك (ائتلاف الحِراكات والقوى الوطنيّة
«مش ساكتين»)،
أصبح من الصعب أنْ ينجح أحدٌ في الدسّ على الحِراك وتحميله المسؤوليّة عن ما ليس
له من التصرّفات والمواقف.
وفي
تنسيقيّة «مش ساكتين»
يوجد ممثِّلون لحِراكات المحافظات، ولذلك فإنَّ مِنْ ضمن أعمال التنسيقيّة البحث في
أشكال دعم فعاليّات الحِراكات في المحافظات وتعزيزها.
وفي
الحِراك تمثيل لمختلف مكوِّنات المجتمع الأردنيّ الثقافيّة والسياسيّة
والاجتماعيّة. ونحن نعتزّ، بشكلٍ خاصّ، بدور المرأة الملموس في الوقفات الاحتجاجيّة،
وبالأخصّ في تنسيقيّة «مش
ساكتين»؛ حيث تقوم رفيقتنا
نهى الفاعوريّ بدور أمين سرّ التنسيقيّة. ودورها هذا ليس شكليّاً. بل إنَّها –
بحقّ – دينامو الائتلاف.
ثمَّ
يأتيك مَنْ يقترح نقل فعاليّات الاحتجاج من «الرابع»..
ونقول
لحَسَني النيّة فقط مِنْ هؤلاء:
«الرابع»
بالنسبة لنا ليس صنماً، لكنَّه أصبح عنواناً معروفاً لكلّ الأردنيين، ونحن أصلاً سعينا
بشكلٍ واعٍ إلى إيجاد مثل هذا العنوان. فلماذا نتخلّى عنه بعدما تمّ تكريسه؟!
«الرابع»
الآن منبر مرئيّ ومسموع جيّداً مِنْ أوسع قطاعات الشعب؛ فلماذا لا نواصل استثماره والاستفادة
به؟!
لماذا
علينا أنْ نبدأ طائعين من الصفر لنؤسِّس عنواناً آخر؟!
إذا
اضطررنا فقط، سيكون مبرَّراً ومفهوماً أنْ نفكِّر في خياراتنا الأخرى.
وفي
الختام،
لسنا
مستعجلين، وبالنا طويل طويل، وهذا هو عملنا الأساسيّ الآن الذي لا يعلو عليه أيّ
عملٌ آخر.
وفي
مثل هذه المناسبة، أحبُّ دائماً أنْ أتذكَّر قول الطاهر وطَّار في روايته «اللاز»:
«الثوريّ
الحقيقيّ ينكش الجبل بالإبرة».
ونحن
أيضاً سنواصل نكش الجبل بالإبرة.. مهما أخذ منّا مِنْ وقتٍ ومهما كلَّفنا مِنْ
جهدٍ ومهما كبَّدنا مِنْ تضحيات، وسنحرص دائماً على أنْ تكون حركتنا سلميّة
ديمقراطيّة واعية.. مهما واجهنا من عسفٍ واستفزازات؛ فهذا وطنناً وليس وطن عصابة
الفساد والاستبداد، ونحن الأكثر حرصاً عليه (نحن أمّ الولد الحقيقيّة وهم الأمّ
الزائفة).
وكما
يقول نيكوس كازنتزاكي في روايته «الأخوة
الأعداء»:
«الغاية
ليست ثمرة ناضجة تتدلَّى معلَّقة في نهاية الطريق تنتظر حضورنا لنقطفها. لا، وألف مرَّةٍ
لا! الغاية ثمرة تنضج مع كلِّ فعلٍ مِنْ أفعالنا، وتكتسب طعمها مِنْ كلِّ فعلٍ
مِنْ هذه الأفعال. والطريق الذي نختاره يعطي هذه الثمرة جمالها وشكلها ومذاقها، ويملأها
بالعسل أو بالسمّ».
وللمعتصمين
في بيوتهم، نستعير مِنْ كازانتزاكي أيضاً ومن الرواية نفسها، ما يلي:
«تعالَ
معنا. نحن لا نزال قلَّة صغيرة. فهكذا تكون الخميرة: حفنة، لكنَّها تكفي لترفع العجين
كلّه فيصبح خبزاً».