اِندَرَجَت
الأنظمةُ العربيّةُ التابعةُ كُلُّها في النهاية –
كما هو متوقَّع –
في الطابور الذليل الذي رسمته لها مشيئة راعيها الأميركيّ الإمبرياليّ، لتلتحق بالحظيرة
الجديدة التي أُعدَّتْ لها في المنامة. وبالنتيجة، تبخَّرتْ كلُّ مظاهر التمنّع
والتردّد الزائفة.
وبعد
كلّ تلك اللاءات، التي كان الغرض منها تخدير الناس، قرَّرت السلطة الحاكمة في
بلادنا في النهاية أنْ تشارك في مؤتمر البحرين بممثِّلٍ لها مِنْ رتبة نائب وزير.
فهل سيؤدِّي هذا المستوى من التمثيل إلى تخفيض مستوى عار المشارَكة إلى النصف
مثلاً؟ أم ماذا؟
لا
يصلح أحدٌ لوصف هذا الموقف سوى مظفَّر النوَّاب: «شارك
في الحلّ السلميّ قليلاً…».
ثمّ
ما الذي ستفعله السلطة الحاكمة لبلادنا في البحرين؟
ستمدُّ
يدها – كالعادة –
بانتظار بعض المِنَح والعطايا التي تتوقَّعها لقاء موقفها اللاوطنيّ هذا. فانظروا يا
رعاكم الله! مئة سنة مرَّت على قيام هذا النظام وهو يمدُّ يده إلى الآخرين ليقبِّضوه
مقابل خدماتٍ سياسيّة رديئة يؤدِّيها، فيواصل عيشه المأزوم بالمال الذي يقبضه، ويُسيِّر
أموره يوماً بيوم، حائلاً بذلك دون وضع البلاد على طريق التنمية الوطنيّة والتقدّم
الاجتماعيّ والتحرّر الوطنيّ.
ولكن،
إذا كان هذا النظام في السابق، يقبض مقابل وظيفةٍ طويلة الأمد وبدوامٍ كاملٍ (مع
بعض الإجازات، بالطبع)؛ فهو الآن سيقبض مكافأة نهاية الخدمة، ليجلس في صفوف
الاحتياط الخلفيّة ويعمل بالقطعة والمياومة.
ما
سيتمّ بيعه هذه المرَّة هو الأردن وفلسطين (أي موضوع الوظيفة)، وليس أدواراً
ومهامّ تفصيليّة في سياق خدمة المشروع الإمبرياليّ الصهيونيّ في المنطقة.
فباسم
مَنْ سيتحدَّث، في مؤتمر البحرين، المندوب الذي سيجلس على المقعد المسمَّى باسم
الأردن؟ ثمّ عندما ينظر هذا المندوب إلى جانبه فيرى مقعد فلسطين شاغراً، فماذا
سيكون شعوره يا ترى؟
الشعب
الفلسطينيّ، بكلّ تيّاراته السياسيّة، أعلن رفضه لهذا المؤتمر جملةً وتفصيلاً، ولا
يوجد في المنامة مَنْ يستطيع الزعم بأنَّه يمثِّله.
والشعب
الأردنيّ أيضاً رافض لهذا المؤتمر ولصفقة القرن.
ويكفي
للبرهنة على ذلك أنْ نقول إنَّ النظام، نفسه، حين أراد، خلال الشهرين الماضيين،
استجداء شيءٍ من التأييد الشعبيّ، فعل ذلك باسم الرفض: كلّا، كلّا، كلّا.
وآنذاك،
سُيِّرَتْ مسيرات «ولاء وانتماء»
رسميّة، تحت هذا العنوان.
ولكن،
عندما حان وقت مطابقة الفعل للقول، تُرجِمَتْ كلّا –
بقدرة قادر – إلى نعم خانعة..
نعم،
نعم، نعم..
وبناء
عليه، فإنَّ هذا المندوب، الذي سيجلس في المنامة على المقعد المسمَّى مقعد الأردن،
سيمثِّل نفسه ومَنْ أرسله فقط وليس الشعب الأردنيّ. فالشعب الأردنيّ لم يفوِّضه
ولم يفوِّض مَنْ فوَّضه؛ بل تمّ انتدابه بقوّة السلطة القهريّة. والقهر قد يعطي
أمراً واقعاً، ولكنّه لا يعطي شرعيّة.
الأردن
وشعب الأردن.. سيكونان غائبين ومقاطعين.
والأردن
(الوطن) ليس للبيع (ولا للمبادَلَة)، وكذلك فلسطين. وأمَّا صفقة البيع والشراء،
التي يستعدّون لإتمامها في البحرين، فستكون بين مَنْ لا يملك ومَنْ لا يستحقّ.
وفي
كلّ الأحوال، سيظلّ الشعب الأردنيّ يناضل مِنْ أجل أنْ يستردّ بلده، ويمتلك الحقّ
في تقرير مصيره؛ ليصبح هو وحده –
كما ينصّ الدستور –
مصدر السلطات، وليصبح حقُّ اتِّخاذ القرار مشروطاً بالتمثيل الديمقراطيّ المنبثق
من الانتخاب النزيه، وتصبح الدولة دولة قانون ومؤسَّسات، والحكومة تُتشكَّل من
الأغلبيّة النيابيّة المنتخبة انتخاباً يحقِّق التمثيل الصحيح للشعب وتكون هي
وحدها صاحبة الولاية العامّة. ولا يعود البلد والشعب معروضين للبيع بأيّ صورة من
الصور.
عندها
فقط، يصبح مِنْ حقّ كلّ مَنْ يُنتَدب لتمثيل الأردن، في أيّ محفل عربيّ أو دوليّ،
أنْ يجلس في الكرسيّ المخصَّص لبلده بكلّ ثقة وأنْ يتحدَّث باسم شعبه مِنْ دون أنْ
يعترض على ذلك أحد.
أمَّا
الآن، فمِنْ حقّ الشعب الأردنيّ أنْ يقول بأعلى صوته بأنَّه لا أحد يمثِّله بين
الأشخاص الذين سيلتقون في المنامة، وبأنَّه ليس ملزماً بما يتَّفقون عليه.. خصوصاً
إذا انطوى اتِّفاقهم على مسٍّ بكيانه الوطنيّ وبحقوقه المشروعة.
لقد
ارتبط مصير الأردن ومصير فلسطين ببعضهما البعض منذ بداية المؤامرة التي
استهدفتهما. حيث منح الاستعمار البريطانيّ فلسطين للحركة الصهيونيّة، ثمَّ –
بخلاف إرادة الشعب الأردنيّ –
منح الحكم في الأردن لنظامٍ وظيفيٍّ استقدمه ليخدمه وليسخِّر البلاد لاستيعاب كلّ النتائج
الكارثيّة للاستيطان الصهيونيّ وليُعدّها عبر سنين طويلة لتكون ملائمة لتصفية
القضيّة الفلسطينيّة على أرضها. وهذا هو الاستحقاق الذي نقف أمامه الآن وجهاً
لوجه.
ولهذا
كلّه، تمَّ حرمان الشعب الأردنيّ بشكلٍ مزمن مِنْ حقوقه الأساسيّة، وفي مقدِّمتها
حقّه في أنْ يكون سيّداً حُرّاً في وطنه، وعومل كما لو أنَّه غير موجود، وأنَّ
تاريخه يبدأ مع تاريخ النظام الذي فُرِضَ على بلاده ولا تاريخ له قبله.
لقد
رفض الشعب الأردنيّ ما دُبِّر لوطنه ولفلسطين منذ البداية، وقَرَنَ نضاله الشجاع
والدؤوب مِنْ أجل استرداد وطنه وحقوقه المشروعة بنضاله ضدّ المشروع الاستيطانيّ
الصهيونيّ. وقد عبَّر عن رفضه هذا، بكلّ وضوح وقوّة.. في مؤتمر قم (6 نيسان 1920)،
وفي مؤتمر أم قيس (2 أيلول 1920) وفي المؤتمر الوطنيّ الأردنيّ الأوّل (25 تمّوز
1928). وكذلك بموقف الشيخ سلطان العدوان والشيخ ماجد العدوان.. حين عرض الانتداب البريطانيّ
عليهما صفقةً1 يتمّ بموجبها تنصيب الشيخ ماجد العدوان حاكماً للبلاد مقابل أنْ
يوافقا على تسهيل تنفيذ وعد بلفور في فلسطين، فرفضا ذلك مِنْ دون تردّد.
ولقد عمَّد الأردنيّون هذا الرفض بدماء
الشهداء.. ابتداء بدماء الشهيد كايد المفلح العبيدات (على ثرى فلسطين في تاريخ 20 نيسان
1920)، ثمَّ دماء الشهداء صايل الشهوان وجديع أبو قاعود ورفاقهما (في ثورة البلقاء
في تاريخ 16 أيلول 1923)، ثمَّ الشهداء الذين قضوا بعد ذلك في بقاع مختلفة مِنْ ثرى
فلسطين.. وخصوصاً في المعارك البطوليّة التي خاضها «الجيش
العربيّ» الأردنيّ في
اللطرون وباب الواد وباب العمود ووادي التفّاح، ثمّ في الكرامة.. على الأرض
الأردنيّة.
نستعيد
المقدّمات لأنَّنا نقف الآن أمام الخواتيم. وبالأحرى، أمام «لحظة
الحقيقة»؛ فها هم الآن يريدون
إنهاء القضيّة الفلسطينيّة والقضيّة الأردنيّة معاً وبصفقةٍ واحدة.
باختصار،
نقول لهم:
هذا
وطن له شعبٌ حرٌّ كريم (وليس مزرعةً خاصّة)، والشعب لن يبيع وطنه ولن يتنازل عنه
ولا عن أيِّ حقٍّ مِنْ حقوقه فيه.. مهما كان الثمن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1«ثورة
البلقاء ومشروع الدولة الماجديّة»
(رسالة دكتوراة صدرتْ في كتاب) –
الدكتور عبد الله العسَّاف.
..
ردحذف