سرَّني
جدّاً ما حظي به كتاب الدكتور عبد الله العسَّاف «ثورة البلقاء ومشروع الدولة
الماجديّة» مِنْ تنويهٍ منصف في موقع goodreads
الشهير.. التابع لشركة أمازون الشهيرة هي أيضاً.
جاء هذا على شكل مقالٍ احتفى بالكتاب وبالمؤلِّف، قائلاً:
«لفت نظري جهد المؤلِّف الذي غطَّى ما أوردته الكتب من
تاريخ سياسيّ.. مع ما أوردته الوثائق البريطانيَّة.. ولم يترك المؤلِّف الروايات
الشفهيَّة للأحداث. فقد جمعها بنفسه مِنْ 73 شاهد عيان قد قابلهم. ولم يترك حتَّى
الأشعار التي قيلت..»
ثمَّ خلص إلى القول:
«يمكن اعتبار جهد المؤلِّف بانَّه نموذج رائع، لكلّ
مؤرِّخ ينوي التأريخ لحدثٍ ما».
ويبدي المقال إعجابه بكيفيّة تعامل المؤلِّف مع الوثائق
البريطانيّة، قائلاً:
«كما لفتت نظري جرأة المؤلِّف على تخطئة الوثائق
البريطانيَّة باقتدار. فقد كان يجمع المرويَّات الشفهيَّة للأحداث بدقَّة وصبر
واجتهاد حتَّى يجتمع عنده ما يمكِّنه مِنْ معارضة الوثائق البريطانيَّة بما هو
أوثق منها عنده. وهذه نادرة بين مؤرِّخي العرب، أنْ يجرؤ أحدهم على نقد الوثائق
البريطانيّة بمرويّات أدقّ».
وينوِّه المقال بإخلاص المؤلِّف للحقيقة مهما كانت وبغضّ
النظر عن دلالاتها ونتائجها.
وفي معرض التقييم، يخلص في النهاية إلى قول ما يلي:
«يستحقّ الكتاب أكثر مِنْ خمس نجوم على الجهد المبذول».
وبرأيي، يمكن اعتبار الجهد التأريخيّ الذي بذله ويبذله
الدكتور عبد الله العسَّاف، والجهد الذي بذله ويبذله الدكتور عصام السعديّ، تدشيناً
لمرحلة المؤرِّخين الجدد الأردنيين التي نتمنَّى أنْ تتواصل ويكثر عدد المنتسبين
إليها. وأقصد، هنا، بـ«المؤرِّخين الجدد» المؤرِّخين الذين يلتزمون بالأصول
والمعايير العلميّة للتأريخ ويكتبون خارج المحدِّدات والأغراض الرسميّة السلطويّة.
وتقتضي الحقيقة، هنا، أنْ لا نتجاهل مدرسة تأريخيّة أخرى
مهمّة مهَّدت لهذه المرحلة، وهي المدرسة التي أنشأها الدكتور عدنان البخيت
وتلميذته الدكتورة هند أبو الشعر. فقد اهتمَّا بتاريخ الأردن قبل قيام النظام
الهاشميّ فيه، ونبشا عن كلّ ما يتَّصل بوقائع الحياة الأردنيّة في المرحلة العثمانيّة
وفي المرحلة المملوكيّة.. الخ.
وبالمجمل، كان لهذه المدرسة فضل كبير في البرهنة، بطريقة
غير مباشرة، على أنَّ الأردن كان عامراً بأهله وبأنشطتهم المختلفة وأدوارهم
المهمّة قبل العام 1921.
وهذا ما نقض، بقوّة، الجهود الرسميّة الضخمة التي
بُذِلَت عبر عقود طويلة للإيهام بأنَّ الأردن لم يكن شيئاً قبل النظام الحاليّ!
كان التاريخ الرسميّ السلطويّ، قبل ذلك، يتعامل مع هذه
البلاد كأنَّها لم تقم فيها دولة قبل عشرين قرناً مِنْ ميلاد المسيح.. هي الدولة
الأدوميّة التي كان لها أسطول برّيّ وآخر بحريّ للتجارة؛
وكأنَّها لم تقم على أرضها الحضارة النبطيّة التي كان
الرومان يسمّونها البلاد العربيّة، والتي استطاعت أنْ تكون مكتفية ذاتياً بإنتاجها
وأنْ تصدِّر منه إلى جوارها؛
وكأنَّ معركة مؤتة ومعركة اليرموك التي كانت لها نتائج
تاريخيّة حاسمة، لم تقعا على ترابها؛
وكأنَّ الدولة الأمويّة لم تنشأ بالتحكيم الذي قام على
أرضها في «أذرح»؛
وكأنَّ الدولة العبَّاسيّة لم تنطلق دعوتها من «الحميمة»
(في جنوب الأردن) وأنَّ مؤسِّس الدعوة العبّاسيّة وأوَّل خليفتين عبّاسيين لم
يولدوا ويترعرعوا على أرضها! حيث كان عمر «أبو العبّاس السَّفَّاح» عندما غادرها
إلى العراق يبلغ 37 سنة، وكان عمر «أبو جعفر المنصور» أقلّ مِنْ ذلك بقليل؛
وكأنَّ وجود أكبر مدرَّج روماني، خارج روما، في عمَّان؛
ووجود آثار جرش وعدد كبير مِنْ أطلال الكنائس في أمّ الرصاص؛ وجود سبعة مِنْ عشرة
مِنْ مدن الديكابوليس على الأرض الأردنيّة.. وسوى ذلك الكثير الكثير (ممّا هو
معروف)، كان لـ«المنظرة» فقط وليس لخدمة سُكّان كثيرين كانت تعمر بهم هذه البلاد
وكانت لهم أنشطة ثقافيّة وسياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وسواها.
وتُشير وثيقة مأخوذة مِنْ جريدة فلسطين، ونشرها موقع «زمانكم»،
إلى أنَّه كان يوجد في الأردن في العام 1920 حوالي خمسين ألف مسلَّحاً.
كتاب الدكتور عبد الله العسَّاف «ثورة البلقاء ومشروع
الدولة الماجديّة»، مع أنَّه رسالة دكتوراة تلتزم بالأصول العلميّة وبالمعايير
البحثيّة الصارمة، إلا أنَّه يمكن اعتباره أيضاً ملحمة حقيقيّة تسرد وقائع مأساة
الشعب الأردنيّ في العصر الحديث.. هذا الشعب الذي تآمر عليه الاستعمار البريطانيّ،
في سياق تآمره على فلسطين، فأُخِذَتْ بلاده منه واُستُقدم إليها نظامٌ من خارجها
ليحكمها ويُقصي شعبها عن إدارة نفسه بنفسه ويحرمه مِنْ حقّه في تقرير مصيره ومن
التنمية الوطنيّة والنهوض ويسلبه جميع حقوقه الوطنيّة والإنسانيّة.
والشيخ سلطان العدوان، والشيخ ماجد العدوان، والشهيدان
صايل الشهوان وجديع أبو قاعود ورفاقهما الشهداء الآخرون، إنَّما هم أشبه بأبطال
تراجيديا إغريقيّة؛ حيث هبَّوا للدفاع عن بلدهم وكرامة شعبهم، في مواجهة أكبر قوّة
استعماريّة في العالم آنذاك وفي مواجهة وكلائها.
وقبل ذلك، بسنوات قليلة، كان ماجد العدوان ووالده سلطان
العدوان، قد رفضا، رفضاً قاطعاً، العرض الذي قدَّمه «المندوب البريطانيّ السامي»
في القدس (هربرت صموئيل)، لهما، بتنصيب الشيخ ماجد حاكماً للبلاد مقابل موافقتها
على تسهيل تنفيذ مؤامرة وعد بلفور في فلسطين.
وهذه واحدة فقط من الحقائق التاريخيّة الساطعة التي
كشفها كتاب الدكتور عبد الله العسَّاف، بعدما طمسها التاريخ الرسميّ السلطويّ
طويلاً.
وقبل سنوات قليلة أيضاً مِنْ ثورة البلقاء، كان يوسف
العظمة قد رفض قرار الحكومة الفيصليّة بالاستسلام استجابةً لإنذار الجنرال
الفرنسيّ غورو؛ فرغم إدراكه عدم تناسب القوّة، وأنَّ المعركة محسومة سلفاً لصالح
العدوّ، إلا أنَّه اعتبر أنَّ من العار أنْ تستسلم دمشق مِنْ دون مقاومة.
كان العظمة عندها شابّاً في ثلاثينيّات عمره، ودفع حياته
في معركة ميسلون.. ثمناً لكرامة شعبه وبلده. ولا يزال العرب، من المحيط إلى
الخليج، يحتفون باسم «ميسلون» رغم أنَّه اسم معركة خاسرة عسكريّاً. ولكن الأمور لا
تقاس هكذا؛ فمنطق الربح والخسارة هو منطق التجّار وحدهم، أمّا منطق الثوّار
والأحرار (والشعوب عموماً) فيقول إنَّ معركة ميسلون كانت أمثولة رائعة للمقاومة والبطولة..
تماماً كما أرادها الشهيد يوسف العظمة.
ومن المؤسف (والمحزن) أنَّ التاريخ الأردنيّ مغيَّب..
فهذا، نفسه، هو ما فعله صايل الشهوان وجديع أبو قاعود
ورفاقهما الشهداء، عدما خاضوا معركة الكرامة الوطنيّة (في العام 1923) إلى جانب
الشيخ ماجد العدوان ووالده الشيخ سلطان العدوان. لقد واجهوا دبَّابات الإنجليز
وطائراتهم (التي كان يحتمي بها وكلاؤهم) بصدورهم العارية وبأسلحة فرديّة بسيطة،
وهجموا على الموت بكلّ معنى الكلمة، فاستُشهِدوا مختارين بدلاً مِنْ أنْ يستسلموا
صاغرين.
كتاب «ثورة البلقاء ومشروع الدولة الماجديّة» يستحقّ
قراءةً أعمقَ وأوسعَ، ويستحقّ الاحتفاء به وبمؤلِّفه مِنْ كلّ الوطنيين والأحرار؛
فهو عمل وطنيّ حقيقيّ كبير.
وفي الختام،
أحيّي الدكتور عبد الله العسّاف، وأحيّي الدكتور عصام
السعديّ. كما أحيِّي أيضاً الدكتور عدنان البخيت والدكتورة هند أبو الشعر وكلّ
مَنْ ساهم ويساهم بإنصاف شعبنا.