التقيت
بصديقي ورفيقي الغالي الراحل محمَّد طمَّليه في العام 1977 أو 1978، وكان ذلك في الحزب
الشيوعيّ الأردني. أمَّا المعرفة بيننا، أو على الأقلّ بين أسرتينا، فهي سابقة على
ذلك بكثير؛ إذ أنَّ المرحوم الأستاذ عبد الله طمَّليه، والد محمَّد، كان مديراً لمدرسة
«مليح»
ومدرِّساً فيها في أوائل ستينيّات القرن الماضي، وقد استقرَّتْ أسرته هناك لسنوات،
بل إنَّها تملَّكت بعض قطع الأرض في القرية، وولد العديد من أشقاء محمَّد وشقيقاته
فيها، أمَّا هو فوُلِدَ في قرية «أبو
ترابة» في الكرك. وكان يعتزّ
جدّاً بأنَّ «أبو ترابة»
هي مسقط رأسه.
لذلك،
فعندما التقينا في الحزب الشيوعيّ الأردنيّ، بدا الأمر كما لو أنَّنا كنَّا نستأنف
علاقة قديمة أكثر ممَّا لو كنَّا قد بدأنا التعارف للتوّ. ومع أنَّ المصادفة التي
جمعتنا كانت أشبه بالمصادفات غير المبرَّرة فنيّاً في المسلسلات والأفلام المصريَّة
التقليديَّة ذات الحبكة الساذجة، إلا أنَّني سُررت بها، وأظنُّه شعر بالشعور نفسه.
ترى
هل كان لـ«مليح»
(بلدتنا المشتركة) دورٌ في هذا الأمر؟
أعني
اتِّجاه كلٌّ منّا على حدة إلى الانتماء للحزب نفسه، ثمَّ ميل كلينا إلى حرفة
الأدب والكتابة، ثمّ التقاءنا مجدّداً في الجامعة الأردنيّة.
كان
محمَّد، حينذاك، لا يزال يكتب الشعر، وكانت لديه بوادر للاتِّجاه إلى كتابة
القصَّة. وكنتُ قد هجرت كتابة الشعر منذ سنوات قليلة واتَّجهت إلى كتابة القصَّة.
ولا
أزال أذكر أوَّل مرَّة قرأ لي فيها إحدى قصائده وإحدى قصصه، وكان ذلك على هامش أحد
الاجتماعات الحزبيَّة. ومع أنَّني لا أتذكَّر شيئاً من القصيدة، إلا أنَّني لا
أزال أتذكَّر بعض التفاصيل المتعلِّقة بالقصَّة. كانت تتحدَّث عن طالب جامعيّ ذهب
للدراسة في بغداد (ومحمَّد كان قد فعل ذلك)، لكنَّه لم يستطع أن يتحمَّل الحنين
إلى وطنه، فترك الدراسة هناك وعاد إلى عمَّان. وهذا ما فعله محمَّد أيضاً؛ حيث
أنَّه عاد إلى عمَّان قبل أن يتمَّ السنة الأولى مِنْ دراسته في بغداد، والتحق
بالدراسة في الجامعة الأردنيَّة.
لاقت
القصّة تجاوباً عميقاً في نفسي؛ إذ أنَّني، أنا نفسي (يا للمصادفة!) كنت قد امتنعت
عن الذهاب إلى مصر في منحة حكوميَّة لدراسة الفنون الجميلة في جامعة الاسكندريّة،
لأنَّه تصادف في اليوم نفسه والجريدة نفسها أن أُعلِنَ عن قبولي في بعثة أخرى
للدراسة في الجامعة الأردنيَّة؛ فاخترت الجامعة الأردنيَّة، بلا تردّد.
وأذكر
أنَّ بطل قصَّة محمَّد طمّليه تلك، بينما هو في بغداد ويعذِّبه الحنين إلى وطنه،
كان يغالبه التأثُّر كلّما سمع صوت فيروز في حافلة ما أو مقهىً ما وهي تغنِّي «ردَّني
إلى بلادي».
على
أنَّني أحسست، آنذاك، بأنَّه ثمَّة نقص ما أو خلل ما يعتور بنية كلٍّ من تلك
القصَّة وتلك القصيدة، وهو ما أحسست به لاحقاً تجاه كتابات أخرى لمحمَّد طمّليه في
تلك السنوات البعيدة الحافلة بالحياة وبالأحداث. وقد بدا لي غريباً أنَّ تلك
الكتابات، رغم ذلك، كانت ممتعة ولها نكهتها الخاصَّة وتملك قدرة مميَّزة على
الإدهاش كما أنَّها تعبِّر عن فكرة جميلة وملفتة وتثير أقوى نوازع الإحساس بالجمال
لدى الإنسان.
ولم
ألبث أنْ أدركت لاحقاً أنَّ هذا الخلل أو النقص، أو بالأحرى هذا الخروج على
المواصفة المحدَّدة، هو أساس النكهة الخاصَّة والهوية الخاصَّة لكلّ مبدعٍ أصيل
(وليس لمحمد طمّليه وحده)؛ لكن شرط أن يتمكَّن، بالمقابل، من إيجاد قانونه
الفنِّيّ الخاصّ والبديل، الذي ينتظم عمله الإبداعيّ وفقه.
وأعود
إلى لقائي الأوَّل بمحمَّد طمَّليه في الحزب الشيوعي الأردنيّ، فقد أبلغني الرفيق
الراحل عوني فاخر (أبو موسى)، الذي كان آنذاك من أنشط قادة الحزب ويتمتَّع بعلاقات
قويَّة مع أوساط الشباب فيه، أبلغني بأنَّه يريد أن يعرِّفني على خليَّة حزبيَّة
طلاّبيّة لها وضع خاص، وطلب منِّي أنْ أحرص على أنْ تكون صلتها بالحزب من خلالي
وحدي وأنْ أتجنَّب خلطها بباقي التنظيم.
وفهمت
من سياق كلام الرفيق أبي موسى بأنَّ أعضاء هذه الخليَّة مشاغبون وفوضويّون نوعاً
ما وأنَّه قد جرى تجميع أعضائها مع بعضهم البعض وعزلهم في هذه الخليَّة عن بقيَّة
التنظيم للحيلولة دون تسرَّب تأثيراتهم الفوضويَّة وشغبهم إليه.
هيأت
نفسي لمواجهة قدر كبير من المتاعب مع هؤلاء المشاغبين «المنبوذين»،
إلا أنَّني عندما التقيت بهم فوجئت بما بدا عليهم من ملامح جادَّة، ومن حماس
لمبادئهم وللعمل من أجلها، ومن شعور عالٍ بالمسؤوليَّة، كما أنَّهم بدو لي على قدر
كبير من الظُرف والجاذبيَّة.
وسررت،
يوجه خاصّ، كما سبق أنْ قلت، عندما اكتشفت أنَّ محمّد ابن الأستاذ عبد الله
طمَّليه عضو في هذه الخليَّة، التي كان يوجد فيها أيضاً خالد مساعدة ومروان
الشماس.
وشيئاً
فشيئاً، أصبحنا نستمتع بصحبة بعضنا البعض، ولم تعد لقاءاتنا تقتصر على مواعيد
الاجتماعات الحزبيَّة؛ ثمَّ لم نلبث أن ركنَّا تعليمات الحزب المشدَّدة وأسس
التعامل في التنظيم السريّ وأصوله جانباً وأصبحنا بالكاد نفترق تقريباً؛ لا في
الجامعة ولا خارجها.
وما
لبث رفاقي الجدد أن أقنعوني بالرحيل من الغرفة التي كنت أسكنها في صويلح لدى أسرة
زميلة عزيزة في الجامعة، لأسكن في غرفة أخرى في وادي الحدادة لا تبعد عن بيت أسرة
محمّد سوى حوالي مئة متر. وما لبث محمَّد أن ترك بيت أسرته وجلب معه فراشاً وسكن
عندي. ثمَّ تلاه خالد؛ حيث ترك بيت أسرته في الشميساني هو أيضاً وجلب معه فراشاً
وسكن في الغرفة، ثمَّ تلاه مروان فترك أهله في الضاحية وجلب فراشاً وسكن معنا.
وإذا
ما أضفنا شقيقي سالم الذي كان كثيراً ما يأتي للمبيت معنا في تلك الغرفة الصغيرة،
فقد أصبح المكان مكتظاً تماماً بالسكّان ممَّن يجب أن لا يجتمعوا في مكانٍ واحد
إلا في الاجتماعات الحزبيَّة السريَّة.
وكان
هذا، بحسب تعليمات الحزب في حينه وأصول العمل التنظيميّ السرّيّ، يُعتبر كارثة
حقيقيَّة. لذلك، تواطأنا على إخفاء مخالفتنا الخطيرة تلك عن قيادة الحزب. وعندما
علمت القيادة بالأمر، انتقدتنا بشدّة في البداية وطالبتنا بإنهاء هذا الخلل
التنظيميّ الفادح بأسرع وقت. ولكن، بلا فائدة. وسرعان اُضطرّت للتسليم بالأمر
الواقع على مضض، بعدما يئست مِنْ إمكانيّة تغييره.
بخلاف
ذلك، فقد عشنا في تلك الغرفة البسيطة، وانطلاقاً منها، بعضاً مِنْ أجمل أيَّام
حياتنا. ولا أظنّ أنَّ أيّاً مِنْ رفاقي المشاغبين أولئك كان يخالفني في ذلك.
كنَّا
في صباح كلّ يوم نصعد، مشياً، من أسفل وادي الحدادة إلى دوَّار جمال عبد الناصر
(الداخليّة)، وقد ملأ نفوسنا الأمل والتفاؤل.. رغم أنَّ جيوبنا كانت على الأغلب
شبه فارغة من النقود. ومن دوَّار جمال عبد الناصر، كنّا نستقلّ إحدى حافلات
مؤسَّسة النقل العامّ إلى الجامعة، لنظلّ هناك حتَّى المساء.
وفي
تلك الفترة نفسها، تعرّفنا في الجامعة على صديقنا ورفيقنا العزيز (الشهيد لاحقاً) ناهض
حتَّر الذي كان عضواً في قيادة «اتِّحاد
الشباب الديمقراطيّ الأردنيّ»
القريب من الحزب الشيوعيّ الأردنيّ؛ فكنّا نمضي معاً أوقاتاً طويلة في الجامعة.
وبعد ذلك، نذهب إلى رابطة الكتّاب الأردنيين، أو إلى بيت أسرة ناهض الذي كان آنذاك
في وادي سرور.
ولقد
كانت حياتنا في الجامعة غنيَّة جدّاً بالأحداث المثيرة والحماس وبالأصدقاء
والصديقات. واكتشفتُ، آنذاك، في محمَّد طمَّليه شخصاً مدهشاً في قدرته على تكوين
العلاقات بسهولة وكسب الكثير من الأعضاء والأصدقاء للحزب. ولم يكن يؤثِّر عليه، أو
يحبطه، أنَّ حماسه واجتهاده ذاك كان يقابل من قيادة الحزب بالكثير من عدم التفهُّم
لشخصيَّته وأسلوبه في الحياة، وعزله (هو وخالد ومروان) في تلك الخليَّة الحزبيَّة القاعديَّة
التي يمكن تشبيهها بمكانٍ لـ«الحجر
الصحيّ»، واستثنائهم بصورة
مستمرَّة مِنْ تحمَّل أيَّة مسؤوليَّات في قيادة التنظيم الطلاّبيّ للحزب.
من
هنا، فقد كانت ثمَّة مفارقة كبيرة ما بين الدور الجماهيريّ الواسع الذي اضطلع به
هذا الثلاثي في الجامعة آنذاك (وهو ما كان يوحي بأنَّهم لا بدَّ أن يكونوا من قادة
التنظيم الطلاّبيّ للحزب) وما بين إقصائهم وتهميشهم داخل التنظيم الحزبيّ.
وقد
حاولتُ مراراً وتكراراً أن أدفع باتِّجاه تغيير هذا الوضع الشاذ والمزعج، ولكن من
دون جدوى؛ بل إنَّني كنت أواجه دائماً بالاستنكار والصدود وعدم التفهُّم كلّما
ألححتُ في ذلك.
وأنا،
الآن، لا أضع اللوم كلّه على مَنْ كانوا يتَّخذون مثل هذا الموقف السلبيّ العنيد
في قيادة الحزب؛ فقد كانت شخصيَّة محمَّد طمّليه، هي أيضاً، تتسم بتلك الميزة
الغريبة التي تتسم بها كتابته: إعطاء انطباعٍ خاطئ بوجود نقصٍ ما أو خللٍ ما. ولو
سألت أحداً ممَّن كانوا يأخذون منه موقفاً سلبيّاً آنذاك، لأورد لك سلسلة من
التحفظات الشخصيَّة التي قد تكون صحيحة، مِنْ وجهة نظر تقليديَّة سطحيّة، ولكنَّها
ليست كافية لتكون سبباً حقيقيّاً لاتّخاذ مثل ذلك الموقف السلبيّ منه.
ببساطة،
كانت شخصيَّة محمَّد طمّليه خارجة على الكثير من المواضعات والمقاييس التقليديَّة
المتعارف عليها. ومثل هذا الأمر يكون في العادة مدعاة للحذر والتشكّك وعدم
التفهُّم مِنْ كثيرين.
وآنذاك،
تعزَّزتْ، مِنْ جديد، علاقتي بجميع أفراد أسرته: المرحومة والدته (أمّ مروان)، وشقيقاته،
وأشقّائه (الذين رحل معظمهم بالتتابع عن هذه الفانية). فعادوا إلى التردّد على «مليح»..
وخصوصاً على بيت أسرتي هناك.
وعندما
سُجِنتُ، تعاملتْ والدته وشقيقاته كما لو كان محمّد هو الذي سُجِنَ؛ فلم تنقطع
أيٌّ منهنّ عن التناوب على زيارتي طوال السنين التي أمضيتها في سجن المحطّة. وكانت
أمّ مروان – طيَّب الله
ثراها – تحرص على
أنْ تكبِّد نفسها، مرَّةً في الشهر على الأقلّ، عناء (وتكلفة) إعداد «وليمة»
باذخة لي مِنْ طهوها الخاصّ.. وبكمّيّة كبيرة كانت تحسب فيها حساب رفاقي في الغرفة
جميعاً.
لو
أردت الاسترسال في الحديث عن ذكريات تلك المرحلة الغنيَّة بالأحداث والمواقف
لتطلَّب الأمر حيِّزاً أكبر بكثير من هذا؛ ولكنَّني أودّ أن أقول، باختصار: كان محمَّد
طمَّليه صعلوكاً حقيقيّاً، وساخراً أصيلاً، ومبدعاً كبيراً، ومثقّفاً عميقاً. لذلك،
ترك بصماتٍ واضحةً في الصحافة الأردنيَّة (وفي الكتابة الأردنيّة أيضاً)، وتتلمذ على
يديه – برغبته أو
مِنْ دونها – العديد من
الصحفيين.. الساخرين بوجه خاصّ. والفرق بينه وبين تلاميذه وأتباع مدرسته شاسع
جدّاً، بل نوعيّ. لإنَّه فرق في الثقافة، والوعي، والتجربة الحياتيّة بمختلف
ألوانها، والأصالة الإبداعيّة بكلّ شروطها ومتطلَّباتها.
من
«مليح»
إلى «أبو ترابة»
إلى وادي الحدَّادة، كانت الحصيلة تجربة إنسانيّة فريدة وثريّة، وبالاستناد إليها
تشكَّلتْ رؤى محمد طمّليه ومواقفه في الحياة والسياسة وكلّ شيء. كتب ذات مرَّة يقول:
«أعتبرُ طفولتي في قرى الجنوب وانتقالي
عند اليفوع للعيش في "مخيم الحسين" وضعيّة خاصّة جعلتني أرى نفسي "أردنيّاً
من أصل فلسطينيّ" و"فلسطينيّاً من أصل أردنيّ". وقد بنيت كلّ
مواقفي، السياسيّة منها تحديداً، على أساس العلاقة "الكاثولوكية" بين الشعبين
الشقيقين».
وإذا
ما نظرنا إلى الأمر من زاوية كون محمّد طمّليه عاش حياته وفق أسلوبه الخاصّ ووفق
رؤيته الخاصَّة للحياة، مهما كان الثمن ومهما كانت المعاناة، فعندها سننظر إليه
على أنَّه كان إنساناً جادّاً جدّاً، بل أكثر جدّية مِنْ كثيرين مِن الذين كان
الناس ينظرون إليهم على أنَّهم جادّون.
وإنَّني
لأقدِّر، بوجه خاصّ، أنَّ رفيقي العزيز القديم محمّد طمّليه لم يتغيَّر ولم
يتبدَّل ولم يتخلَّ عن قناعاته الراسخة، حتَّى آخر يومٍ في حياته. وهذا بخلاف ما
فعله كثيرون في زمن الرويبضة هذا الذي يجثم علينا الآن بثقله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*استعارة
مِنْ اسم زاوية محمّد طمّليه الصحفيّة الشهيرة «تداعيات
رجل جالس على جاعد».