جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣
تنقّل «حماس» بين المحاور المتناقضة
رجل دين شيعيّ يؤمُّ الصلاة بوفد حماس في طهران

يوجد، الآن، وفدٌ مِنْ قيادة «حركة حماس» في طهران. وقبل مدَّة، ذهب وفدٌ آخر من الحركة إلى موسكو.

استدارت «حماس»، خلال العقدين الماضيين، أكثر من استدارة كاملة في علاقاتها بالمحاور السياسيّة المتناقضة.

في البداية، كان يحتضنها المحور الآخر الدائر في فلك واشنطن؛ فكان بعض قادتها (موسى أبو مرزوق، على سبيل المثال) يقيم في واشنطن، والقسم الآخر الأكبر منهم كان يقيم في عمَّان (خالد مشعل، على سبيل المثال، وآخرون). وكانت الحركة تحظى بعلاقاتٍ قويّة مع السعوديّة ودول الخليج.

ثمَّ قامت واشنطن باعتقال موسى أبو مرزوق، وما لبثتْ أنْ أبعدته إلى عمَّان. وبعد ذلك، تمَّ إبعاد مشعل وزملائه مِنْ عمَّان، فرفضت الدول العربيّة الخليجيّة، التي توجَّهوا إليها، أنْ تستقبلهم، فعادوا إلى عمَّان ومكثوا مدَّةً في المطار مِنْ دون أنْ يُسمح لهم بالخروج منه.

في النهاية، استقبلتهم دمشق، وأقاموا هناك، وتلقّوا رعايةً فائقة، وتمَّ تطوير تسليح «حماس» مِنْ سوريا و«حزب الله» وإيران. وقد قدَّم «حزب الله» أكثر مِنْ مئة شهيد في سبيل إيصال السلاح إلى غزَّة. وإحدى خلاياه، التي كانت مكلَّفة بإيصال السلاح، ألقت السلطات المصريّة القبض عليها في عهد حسنى مبارك، واُشتُهِرَتْ في الإعلام المصريّ بـ«خليّة سامي شهاب» (نسبة إلى الاسم الحركي لقائدها)، وظلّ أعضاؤها في السجن إلى أنْ تمكّنوا من الفرار منه بعد سقوط حسني مبارك.

لا نريد أنْ ندخل في تفاصيل التسهيلات والدعم والمساندة التي حظيت بها «حماس» مِنْ دمشق؛ فهي أكبر بكثير مِنْ أنْ نحيط بها. لكنَّني سأكتفي، هنا، بالإشارة إلى بعض ما لمسته مِنْ ملامحها بنفسي..

في العام 2008، زرتُ دمشق مع وفد شعبيّ ضمَّ الأساتذة: همَّام سعيد، وحمزة منصور، وليث شبيلات، ورياض النوايسة، وموسى الحديد وآخرين. وكان الهدف مِنْ زيارتنا هو لقاء خالد مشعل (رئيس المكتب السياسيّ لـ«حماس» في حينه) للتعبير عن تضامننا مع غزّة التي كانت تتعرَّض لعدوان صهيونيّ غاشم آنذاك.

في مركز الحدود السوريّ (نصيب)، تمَّ استقبالنا في قاعة الشرف، وأُخِذَتْ جوازات سفرنا منّا وخُتِمَتْ ونحن جالسون ونحظى بالضيافة والتكريم، ثمّ سُيِّرَتْ معنا حراسة أمنيّة إلى أن وصلنا إلى مقصدنا في دمشق. وكلّ ذلك رغم أنَّنا لم نكن ضيوفاً على الدولة السوريّة ولم نقابل أيّ مسؤول سوريّ في زيارتنا تلك.

ولدى لقائنا بمشعل، أفاض في الحديث عن ما يقدِّمه السوريّون مِنْ دعم ومعاملة خاصّة لـ«حماس». وعندما انتهى لقاؤنا به، أصرّ على أنْ نتناول العشاء معه قبل عودتنا إلى عمَّان. وفي أثناء ذلك، قال لنا إنَّه سيذهب بعد العشاء مباشرة إلى لقاء وزير الخارجيّة الروسيّ سيرجي لافروف، الذي كان يزور دمشق. واستغلَّ الفرصة ليقول إنَّ «الأشقاء السوريين» هم الذين رتَّبوا له ذلك اللقاء مشكورين.

في الواقع، لم تقلّ مساندة سوريا وإيران لـ«حماس» عن مساندتهما لـ«حزب الله». ولكن، عندما اُستُهدِفَتْ سوريا ابتداءً مِنْ ربيع العام 2011، راح «حزب الله» شيئاً فشيئاً يصطفّ مع دمشق، بينما راحت «حماس» شيئاً فشيئاً تصطفّ ضدَّ دمشق ومع المحور المعادي لها! وعندئذٍ، فُتِحَتْ لها الأبواب التي سبق أنْ أُغلِقتْ في وجهها؛ فغادر خالد مشعل حاضرة الشام في لحظتها الحرجة تلك، وذهب للإقامة في الدوحة.

كان المحور المعادي لدمشق كما هو معروف برئاسة واشنطن وعضويّة دول حلف الأطلسي والأنظمة العربيّة التابعة.. في عمَّان والسعوديّة وقطر وسواها، وكذلك تركيا.. رأس حربة حلف الأطلسيّ في المنطقة وركيزته الكبرى. وبالمناسبة، ضمّ تركيا إلى لأطلسيّ وحلف بغداد تمَّ في عهد عدنان مندريس حبيب الإسلاميين وليس في عهد الأتاتوركيين.

ولم تكتفِ «حماس» بالاصطفاف الكلامي ضدّ سوريا، بل إنَّها جيَّرت كلّ التسهيلات والوسائل التي نالتها مِن السلطات السوريّة لتُستَخدَم ضدّ القوّات السوريّة وأجهزة الدولة هناك وحلفائها وأنصارها على نحوٍ آذى السوريين كثيراً. بل إنَّها راحت تقيم بيوت عزاءٍ علنيّة في غزَّة للمسلَّحين المحسوبين عليها الذين قُتِلوا على أرض سوريا وفي مواجهة الدولة السوريّة.

سقط مشروع إسقاط سوريا وتفتيتها وتقسيمها في النهاية، فـ«أفلتت الصيدة»، كما عبَّر حمد وزير خارجيّة قطر السابق، بل وأيضاً تفكَّك المحور المعادي لها وتحوّل إلى محاور؛ حيث اصطفَّت السعوديّة على رأس أحد هذه المحاور، واصطفَّت قطر و«الإخوان المسلمون» وتركيا في محورٍ آخر مقابل. وراح كلٌّ منهم يتَّهم الآخر بمساندة الإرهاب. ودخلت السعوديّة ورطتها اليمنيّة التي لا تزال مستعرة.

وفي كلّ الأحوال، لم تتسلَّم «حماس» طلقةً واحدةً من المحور الذي اصطفَّتْ فيه ضدّ سوريا؛ فلم يكن في وارد ذلك المحور أنْ يعادي «إسرائيل» أو يعمل ضدّها، وكلّ ما كان يهمّه مِن العلاقة مع «حماس» هو استخدامها في حربه على سوريا. والآن، كلّ أعضاء ذلك المحور من العرب والمسلمين بما فيهم تركيا وقطر يقيمون علاقاتٍ متينة وعلى مختلف الأصعدة مع «إسرائيل». وهذا ثابت بالوقائع والأرقام، ولا يمكن دحضه بالمزاعم والأقوال.

وطوال ذلك الوقت، بذلتْ طهران، وبذل «حزب الله»، كلّ جهدٍ ممكن لاستمرار حبل تواصلهما مع «حماس»، بل ومع «الإخوان المسلمين» أيضاً.. حتَّى بعد الهجوم المذهبيّ الحادّ وغير المبرَّر الذي شنَّه الرئيس الراحل الدكتور محمد مرسي في مؤتمر دول عدم الانحياز الذي عُقِدَ آنذاك في طهران. وكانت قد سبقت ذلك زيارة قام بها مرسي إلى الرياض؛ حيث دعا مِنْ هناك إلى قيام ما أسماه «حلف سنِّيّ» بقيادة السعوديّة!

ومع ذلك كلّه، استمرّ إيصال السلاح مِنْ طهران و«حزب الله» إلى «حماس». ما أدَّى إلى تطويرٍ كبير لقدراتها التسليحيّة. ولم يتمّ ذلك بدعمٍ من المحور الآخر.

وفي السنوات الأخيرة، شرعتْ «حماس» بإرسال الوفود مِنْ قيادتها إلى طهران وبيروت. وبدأتْ قياداتها تعترف علناً بواقع دعم إيران «وحزب الله» الكبير لها، وبأنَّ هذا الدعم لم ينقطع في أيّ مرحلة من المراحل. وتمَّ ذلك، مؤخَّراً، بكلّ وضوح، في خطابٍ متلفز لقائد «حماس» الجديد (السنوار) الذي حرص في الخطاب نفسه على النأي بحركته عن المواقف المعادية لدمشق.

وفي لقاءات قيادات «حماس»، التي عادت إلى الانتظام والدفء مع «حزب الله» والمسؤولين الإيرانيين، دأبت «حماس» على طلب وساطتهم لإعادة المياه إلى مجاريها مع دمشق.

فهل ستستجيب دمشق لهذه المساعي؟

أستبعدُ ذلك، في المدى المنظور على الأقلّ؛ فجراح دمشق التي سبَّبتها طعنة «حماس» النجلاء لم تندمل بعد، كما أنَّها تشعر بأنَّه تمَّ الغدر بها في لحظةٍ حرجة جدّاً. أي عندما هوت عليها سكاكين الأعداء. وهي لذلك لا تأمن أنْ يتمّ الغدر بها مجدَّداً في أوَّل فرصةٍ سانحة.. إذا هي أعادت فتح الأبواب لـ«حماس».

على أيَّة حال، كلّ قوّة سياسيّة جدّيّة قامت بما قامت به «حماس» من استداراتٍ كبرى، تحتاج، بالضرورة، إلى إجراء مراجعة نظريّة سياسيّة جادّة ومعمّقة؛ فالناس الذين ينضوون في صفوفك أو يؤيِّدونك أو يساندونك، ليسوا قطيعاً يمكن أنْ تهشَّ عليه فيسير معك في هذا الاتِّجاه، ثمَّ تهشَّ عليه مرَّةً أخرى فيسير معك في الاتِّجاه المضادّ، مِنْ دون أنْ يطلب منك تفسيراً أو توضيحاً لهذا التضارب الفادح في المواقف.

فهل أجرت «حماس» مثل هذه المراجعة لتوضيح استداراتها القصوى تلك وتبريرها؟

على حدّ علمي، هذا لم يحدث.

فعلى ماذا تراهن، إذاً، «حركة حماس»؟!

وبالأحرى، هل هذه هي آخر نقلة حادّة لها؟
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال