عندما
يكلّمنا أحد ما (شخص أو حزب أو جماعة) عن الديمقراطيّة، فمن الطبيعيّ انْ نسأله عن
برنامجه الاجتماعيّ الاقتصاديّ السياسيّ؛ كي لا نتعرّض لعمليّة خداع كبيرة، ونجد
أنفسنا ندور في حلقة مفرغة مع مسنَّنات ماكينة غاشمة تطحن أحلامنا وتطحننا وتغيِّب
حقوقنا ومصالحنا المشروعة.
الديمقراطيّة
في معناها اللغويّ هي حكم الشعب. وهذا يؤدِّي إلى الوهم السائد بأنَّها أداة
محايدة لإيصال الشعب إلى حكم نفسه بنفسه. ولكنّ الواقع ليس كذلك؛ فالديمقراطيَّة
مسمَّى يُطلَق على مسارات مختلفة للحكم.. تختلف باختلاف مضامينها الاجتماعيَّة
والاقتصاديَّة والسياسيّة، والمصالح الرابحة فيها والخاسرة مقرَّرة سلفاً؛ حيث
يتمّ تصميمها في الأصل لتخدم مصالح اجتماعيّة اقتصاديّة سياسيّة بعينها. وهذه
المصالح قد تكون مصالح فئة محدودة ضيّقة وقد تكون مصالح أغلبيّة الشعب الواسعة.
وبالاستناد
إلى وهم (أو إيهام) حياد الديمقراطيّة، تجري غالباً (بخبثٍ أو بحسن نيّة) المطابقة
بين مفهوم الديمقراطيَّة وبين مفهوم الليبراليَّة، وكأنَّه لا معنى آخر
للديمقراطيّة سوى الليبراليّة؛ في حين أنَّ الليبراليَّة، في جوهرها، هي المبادئ
التي تؤسِّس لهيمنة رأس المال الكبير منفرداً على السلطة، وحصر تداولها في شرائحه
العليا الضيّقة، وإطلاق يده لاستغلال الطبقات الشعبيَّة الفقيرة والمتوسِّطة.
والليبراليّة،
بهذا المعنى، قد تكون علمانيّة وقد تكون دينيّة. وفي العقود الأخيرة (بعد انهيار
الاتّحاد السوفييتيّ) ظهرت فئات ليبراليّة تزعم انتسابها إلى اليسار1..
لكن النتيجة في جميع هذه الحالات هي نفسها. ولذلك، فإنَّ هذه الأطراف، التي تبدو
في الظاهر متناقضة، تلتقي مواقفها في العديد من القضايا السياسيّة الأساسيّة..
سواء أكانت محلّيَّة أم إقليميّة أم دوليّة. فثمَّة رابط مادِّي متين يربطها بعضها
ببعض، وهو البرنامج الاقتصاديّ الاجتماعيّ.
ويقود
هذا المفهوم المشوّه للديمقراطيّة إلى حصر عملها بصندوق الاقتراع. وكأنَّ هذا الصندوق
معزول عن ما يسبقه أو يلحقه أو يحيط به من السياقات الاجتماعيّة الاقتصاديّة والسياسيّة.
أي كأنَّه يعمل «لله وفي الله»
ليفرز، مِنْ تلقاء نفسه، ما هو أفضل وأعدل.. أي ما يعبِّر عن الأغلبيّة الشعبيّة،
ويمكِّنها مِنْ حكم نفسها بنفسها فعلاً، ويؤمِّن لها مصالحها وحقوقها المشروعة.
الصيغة
الأكمل مِنْ صيغ الديمقراطيّة هي ذات المحتوى الاجتماعي الاقتصاديّ المنحاز إلى
مصالح الطبقات الشعبيَّة الواسعة والتي تلبِّي أحلامها وطموحاتها. أمَّا
الديمقراطيّة الليبراليّة، فهي ديكتاتوريّة مقنَّعة، غايتها تأمين هيمنة الطغم
الماليَّة الجشعة والشركات الكبرى عابرة الجنسيَّة (ومتعدِّدة الجنسيّة) على
السلطة.. في كلّ بلد على حدة، وعلى الشعوب الفقيرة المهمَّشة في العالم ككلّ.
وكأنَّ مهمّتها، في هذه الحالة، هي جعل الحمل يسلِّم بأنَّ دوره الوحيد في الحياة
هو أنْ يكون وجبة سائغة للذئب. وتتلخَّص قيمها العليا في الاحتكام إلى نمطٍ وحشيّ
مِنْ شريعة الغاب؛ حيث يصبح الاستغلال بأبشع صوره مباحاً، والمال هو القيمة العليا
الأساسيّة، والإنسان مجرَّد سلعة تُباع وتُشتَرى مثل سائر السلع الأخرى.
وفي
ظلّ الاستقطاب الحادّ الذي يتَّسم به النظام الرأسماليّ الدوليّ بين مراكزه وبين
أطرافه، لا يمكن لنا أنْ نتحدَّث بجدّيّة عن الديمقراطيّة في ما يُسمَّى العالم
الثالث (أو هوامش النظام الرأسماليّ وأطرافه) إلا في إطار برنامج واضح وجدّيّ
للتحرّر الوطنيّ. بخلاف ذلك، تكون «الديمقراطيّة»
مشروطة بسقف المصالح الخارجيّة الإمبرياليّة ومصالح الشركات متعدِّدة (ومتعدِّية) الجنسيّة.
وفي النهاية، تكون مجرّد أداةً سياسيّة لضمان إدامة التبعيّة.
الدوائر
الحاكمة في الغرب تعرف هذا جيّداً، وتتعامل على أساسه؛ فتضع مصالحها الخاصَّة
الجشعة كمعيار عامّ زائف للحريَّة والديمقراطيَّة في كلِّ مكان. وبناء عليه، نراها
تؤيِّد نتائج الاقتراع بحماس في بلد وترفضها بشدّة في بلد آخر.. بغضّ النظر عن مدى
انسجام إجراءات الانتخاب مع المعايير الديمقراطيَّة التي يزعم الغرب أنَّه يلتزم
بها. ومِنْ هذا الجذر، نشأت معضلة «المركزة
الثقافيّة على الغرب».. كما يسمِّيها
سمير أمين، التي تفاقمت وبلغت حدَّ اختزال «المجتمع
الدوليّ» بعواصم المتروبول
وحدها. ما يعني أنَّ ما عداها لا شيء.
في
العام 1973، أطاحت شركة ITT الأميركيّة، بوساطة أدواتها المحلِّيّة وبانقلاب عسكريّ
دمويّ، حُكم سلفادور أليندي الذي انتخبته الأغلبيّة الشعبيّة في تشيلي. رفض أليندي
الاستسلام للانقلابيين وفضَّل المنيّة على الدنيّة، فاُستُشهِد وهو ممسك برشاشة
مدافعاً عن مقرّ الرئاسة مع ثلّة مِنْ حرسه الشجعان، وحُكِمَتْ تشيلي بعد ذلك
بالديكتاتوريّة العنيفة لعقودٍ طويلة.
وقبل
ذلك (في خمسينيّات القرن الماضي)، أطاح الأميركيّون، بوساطة أدواتهم المحلّيّة
حكومة محمّد مصدّق.. الحكومة المنتخبة من الأغلبيّة الشعبيّة في إيران، ليسيطر
الشاه محمّد رضا بهلويّ على السلطة طويلاً بعد ذلك ويحكم البلاد بقبضة السافاك
الإجراميّة.
وفي
الفترة نفسها تقريباً، أطاح الأميركيّون والبريطانيّون، بوساطة أدواتهم المحلّيّة،
حكومة سليمان النابلسيّ.. الحكومة المنتخبة مِنْ أغلبيّة شعبيّة كاسحة في الأردن،
لتُحكَم البلاد بنظام الأحكام العرفيّة القمعيّ وبالأسلوب البوليسيّ الممنهج
لمدّةٍ طويلة بعد ذلك.
والآن،
يسعى الأميركيّون (والمراكز الرأسماليّة الغربيّة عموماً) إلى إطاحة السلطات
الحاكمة المنتخبة مِنْ أغلبيّات شعبيّة في دول أميركا اللاتينيّة (نيكاراغوا،
وفنزويلا، وبوليفيا وسواها) بكلّ السُّبل الممكنة، ولا يهمّهم بعد ذلك ما البديل
الذي يحلّ محلَّها.. شرط أنْ يلغي برامج التحرّر الوطنيّ والديمقراطيّة
الاجتماعيّة الاقتصاديّة. بل إنَّ صندوق الاقتراع، نفسه، يصبح، في هذه الحالة، في
آخر سلّم أولويّاتهم.
ولذلك،
فإنَّ المسألة المركزيّة للصراع الدائر الآن في العالم العربيّ (وعموماً، في أطراف
النظام الرأسماليّ الدوليّ وهوامشه) هي مسألة التحرّر الوطنيّ. إنَّها معضلة مزمنة
مطروحة على جدول أعمال تاريخ الشعوب العربيّة منذ عهد محمَّد علي الكبير وحتَّى
الآن. وحلّ هذه المعضلة ليس مهمّة أساسيَّة فقط؛ بل هو، أيضاً، البوَّابة الوحيدة
التي يمكن للأمّة أنْ تَعبُر مِنْ خلالها إلى ساحة التاريخ، لتصنع أحلامها
وطموحاتها الأساسيَّة الأخرى: الحريَّة، والديمقراطيَّة، والتقدّم الاجتماعيّ،
والوحدة.
وقد
أدَّى غياب مفهوم التحرّر الوطنيّ، في منطقتنا العربيَّة، خلال العقود الأخيرة،
إلى ضياع البوصلة الوطنيّة (والقوميّة) الديمقراطيّة السليمة في النظر إلى
الصراعات والأحداث التي عمَّت وتعمّ منطقتنا في الوقت الحاليّ؛ فأصبح كثيرون
ينظرون إلى وقائع هذا الصراع بمعزل عن مضمونه الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ
وبمعزل عن أبعاده الإقليميَّة والدوليَّة في إطار النظام الرأسماليّ الدوليّ،
ويركِّزون على ما يسمّونه «الديمقراطيّة»
كمفهوم مفرغ مِنْ سياقاته ومضامينه الحقيقيّة.
أدَّى
هذا، أيضاً، إلى بروز مفاهيم وتصوَّرات زائفة، انبنت عليها اصطفافات سياسيّة
شائهة. ومِنْ تلك المفاهيم والتصوّرات، الحديث السطحيّ الخادع، الذي أصبح شائعاً،
عن إمكانيَّة تحقيق الديمقراطيَّة مِنْ دون برنامج للتحرّر الوطنيّ يؤدِّي إلى
انهاء التبعيَّة، ومِنْ دون تغليب مصالح الفئات الشعبيَّة الواسعة لتكون هي مضمون
العمليّة الديمقراطيّة وغايتها.
أصحاب
مثل هذا الحديث يقفزون عن حقيقة أنَّه لا يمكن للديمقراطيَّة أنْ تتحقَّق في بلد
من البلدان إذا ظلَّت الثروة والنفوذ فيه بيد الطّغم الكومبرادوريَّة
الطُّفيليَّة، المرتبطة بدورها بالمصالح الانانيَّة الجشعة للشركات الكبرى
متعدِّدة (ومتعدِّية) الجنسيَّة.
ولذلك،
فإنَّ الحديث الليبراليّ عن الحريَّة والديمقراطيَّة مِنْ دون بعدهما الاجتماعيّ
الاقتصاديّ ومِنْ دون شرط التحرّر الوطنيّ، لا يضمر أكثر مِنْ محاولة بائسة
لاستعادة نمط الأنظمة الليبراليَّة التابعة التي كانت قائمة في العالم العربيّ في
أربعينيَّات القرن الماضي وحتَّى أوائل خمسينيَّاته، والتي انهارتْ تباعاً تحت
وطأة توق الشعوب العربيَّة للتخلّص من التبعيَّة، وتحقيق التنمية الوطنيَّة
المستقلّة والتوزيع العادل للثروة ومكاسب التنمية.. وصولاً إلى إنجاز
الديمقراطيَّة الحقيقيّة التي تقوم على هذه الشروط المنصفة لأوسع القطاعات
الشعبيّة.
فهل
يظنَّن عاقلٌ أنَّ محاولة استعادة نمط الأنظمة الليبراليَّة التابعة، تلك، في
البلاد العربيَّة، ستقود هذه المرّة إلى نتيجة أفضل مِنْ تلك التي كانت قد قادت
إليها في أربعينيَّات القرن الماضي وخمسينيَّاته؟!
بالخلاصة،
هذه
هي البوصلة التي يسترشد بها الديمقراطيّون الحقيقيّون في النظر إلى كلّ الأحداث
التي تجري في المنطقة والعالم. وبالاستناد إليها يضعون برامجهم الاجتماعيّة
والاقتصاديّة والسياسيّة، ويبنون تحالفاتهم المحلّيّة والإقليميّة والدوليّة.
أمّا
البوصلة التي يسترشد بها الليبراليّون وأشباههم، فتقود إلى إسقاط برنامج التحرّر
الوطنيّ، والنظر إلى «الديمقراطيّة»
نظرةً ميتافيزيقيّة.. تجوهر بعض إجراءاتها الشكليّة، وتعتِّم على جوهرها الطبقيّ..
في بعده المحلِّيّ وبعده الدوليّ، وفي الوقت نفسه، تستبعد كلّ الآليّات الديمقراطيّة
التي يمكن أنْ تقود ممثِّلي المصالح الشعبيّة إلى الاقتراب مِنْ دفَّة السلطة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1من
الطريف في هذا المجال أنَّ يلتسين وجماعته صنَّفوا أنفسهم في البداية على يسار
الشيوعيّين.