تكرَّر،
في العقود الأخيرة، تذمّر البعض مِنْ ما يعتبرونه أيّام عطلٍ طويلة. ويدعم هؤلاء وجهات
نظرهم تلك بتصوّرات نمطيّة سطحيّة زائفة عن وقت الفراغ ووقت العمل في «الشَّرق»
وفي «الغرب».
تالياً،
أتقدّمُ بمحاولة لتفكيك هذه التَّصوّرات النَّمطيّة والغوص تحتها لرؤية المشهد بصورته
الحقيقيّة الكلّيّة:
في
سياق انطباعاته عن زيارته لتونس في العام 1920، قال عالم النَّفس السّويسريّ الشَّهير كارل
غوستاف يونغ يصف فارساً تونسيّاً قابله في إحدى الواحات: «ها
هو ذا رجل لا يملك بالتَّأكيد ساعة جيب ولا ساعة معصم، لأنَّ من الواضح أنَّه شخص لا
يعي ذاته كما كان على الدَّوام. تنقصه اللمحة الخفيفة من الجنون الملتصقة
بالأوروبِّي. فمن المؤكَّد أنَّ الأوروبِّي على يقين أنَّه لم يعد ذلك الإنسان
الَّذي كانَه في الأزمنة البعيدة لكنَّه لا يعرف ما صار إليه. تخبره ساعته أنَّه منذ
"القرون الوسطى" كان الزَّمن، ورديفه التَّقدّم، قد زحفا عليه وأخذا منه
شيئاً لا يمكن استعادته. ويبقى مسافراً حاملاً حقيبته بسرعة تتزايد بثبات نحو
أهداف مشبوهة. ويعوِّض عن فقدان الجاذبيَّة والإحساس بالنَّقص بانتصارات وهميَّة مثل
السّفن التِّجاريَّة وسكك الحديد والطَّائرات والصَّواريخ الَّتي تسرق منه الدَّيمومة وتنقله
إلى واقع آخر هو واقع السّرعة والتَّعجيل المتفجِّر».
ويتابع
يونغ قائلاً:
«كلَّما
أوغلنا في الصَّحراء كلَّما أبطأ الزَّمن بالنِّسبة لي، حتَّى أنَّه هدَّدني بالتَّراجع. وساهمتْ
موجات الحَرّ اللاهب في حالتي الحالمة، وحين وصلنا إلى النَّخلات الأولى ومنازل الواحة
بدتْ لي وكأنَّ كلَّ شيء هنا هو بالضَّبط كما يجب أنْ يكون وكما كان منذ الأزل».
(مِنْ
كتاب «ذكريات، أحلام وتأمّلات»
– كارل غوستاف يونغ).
هنا،
الزَّمن مقسَّم ما بين «الشَّرق»
وبين «الغرب»
على أساس الجغرافيا والمناخ والبيئة، وهذا أحد نماذج الرّؤية الاستشراقيَّة النَّمطيّة
للزَّمن. وقد ينقسم الزَّمن –
وفق هذه الرّؤية الاستشراقيَّة نفسها –
أحياناً على أساس الاختلافات الثَّقافيَّة، وأحياناً أخرى على أساس بعض التَّصنيفات
البيولوجيَّة.. عندما تتَّخذ الرّؤية الاستشراقيَّة طابعاً عنصريّاً صريحاً.
والحقيقة
أنَّ موضوعة الزَّمن من الموضوعات الَّتي تشيع فيها أفكار نمطيَّة مستهلكة جدّاً،
ووهميَّة في الكثير من الأحيان، حول علاقة «الشَّرق»
بـ«الغرب»
والفروقات بينهما. وهي أفكار مشتركة ما بين النَّاس في «الشَّرق»
و«الغرب».
ولكن هذا التَّشارك شكليّ تماماً؛ إذ بينما تعبِّر الأفكار النَّمطيَّة تلك لدى النَّاس في
«الغرب»
عن مضمون استشراقيّ، تعبِّر الأفكار نفسها في «الشَّرق»
عن مفهوم «استشراقيّ معكوس».
أي أنَّها تتأسَّس في «الغرب»
على مركزيَّة «الغرب»
في النِّظام الرَّأسماليّ الدَّوليّ، بينما هي تتأسَّس في «الشَّرق»
على طرفيَّة «الشَّرق»
وهامشيَّته في هذا النِّظام.
ما
نحن بإزائه، في الحقيقة، ليس زمنين (أو ساعتين) كما يشاع أيضاً بصورة نمطيَّة،
وإنَّما ثلاث أزمان (أو ثلاث ساعات). حيث «السَّاعة»
الأولى هي ساعة المراكز الرَّأسماليَّة، و«السَّاعة»
الثَّانية هي «ساعة»
أطراف النِّظام الرَّأسماليّ الدَّوليّ وهوامشه. أمَّا «السَّاعة»
الثَّالثة، فهي «ساعة»
النِّظام الرَّأسماليّ الدَّوليّ ككلّ، وهي تشمل «الشَّرق»
و«الغرب»
معاً.
وبصورة
عامَّة فإنَّنا إذا ما أردنا أنْ نتناول مفهوم الزَّمن بصورة جديَّة، فيجب أنْ
نتجاوز عندئذٍ الأفكار النَّمطيَّة السَّطحيَّة السَّاذجة الَّتي تقوم في العادة على
الاستشراق أو الاستشراق المعكوس، لنبحث في مضمون الزَّمن ومحتواه الاجتماعيّ
الاقتصاديّ (والسِّياسيّ بالضَّرورة). وإلا فإنَّنا لن نخرج بأيّ تصوّر حقيقيّ لمفهوم
الزَّمن، وسنحصر أنفسنا في إطار التَّعامل معه كمعيار كميّ لمعطى وهميّ. أمَّا إذا
نظرنا إلى الزَّمن بناء على محتواه، فسيبدو لنا الانفصال بين هذين الزَّمنين (بل
الثَّلاثة) تعسفيّا وزائفاً لا يساعد على فهم الصّورة الحقيقيّة.. لا بكلِّيَّتها ولا
بتفاصيلها، بل يزيّفها ويزوّرها.
ومن
الأفكار النَّمطيَّة الدَّارجة، الفكرة الَّتي تتحدَّث عن أهمّيَّة الزَّمن الكبيرة في «الغرب»
وعدم أهميَّته في «الشَّرق».
إلا أنَّ أصحاب هذه الفكرة لا يبحثون في أسسها الماديَّة، وبالنَّتيجة فهم لا يقولون
لنا ما هي أسبابها الحقيقيَّة، كما أنَّهم يتحدَّثون عن هذا التَّقييم باعتباره
مطلقاً وعامّاً في «الشَّرق»
وفي «الغرب».
وطبعاً،
الصّورة الَّتي تنشأ بناء على هذا التَّصوّر الغامض إنَّما هي صورة مقلوبة رأساً على
عقب؛ حيث يتمّ تفسير مشاكل الإنسان العربيّ في الكثير من الأحيان بكونه لا يتميَّز
بخاصيَّة تقدير أهميَّة الوقت. ولكن، لا أحد مِنْ هؤلاء يقول لنا في الواقع أيّ
وقت هذا الَّذي يجب أنْ يهتمّ به الإنسان ويقدِّره حقَّ قدره؟ ولماذا يجب عليه أنْ
يقدِّره؟ أو بالأحرى لماذا هو لا يهتمّ به ولا يقدِّره.
إنَّ
وقت الإنسان الَّذي تتراكم أرباحه الضَّخمة كلَّ ساعة وكلّ يوم ليس مثل وقت الإنسان
الَّذي تتراكم ديونه بدلاً مِنْ ذلك. ووقت الإنسان الَّذي تتوفَّر لديه كلُّ
احتياجاته، ويتمتَّع بشروط إنسانيَّة عالية، ويحظى بقدر جيِّد من الحرّيَّة، ليس
مثل وقت الإنسان الَّذي ينقصه الكثير مِن الاحتياجات الضَّروريَّة، ويفتقر للكثير
مِنْ شروط الحياة الإنسانيَّة، ولا يتمتَّع بالحدّ الأدنى الضَّروريّ من الحرّيَّة..
في مختلف جوانب حياته.
ولكن،
كما هو الحال في جميع التَّفسيرات الاستشراقيَّة والاستشراقيَّة المعكوسة، يتمّ
تفسير الموقف من الوقت في «الشَّرق»
وفي «الغرب»
(الَّذي يتَّخذ في هذه الحالة طابع التَّعميمات المطلقة) بأسباب غامضة مثل الجغرافيا أو
البيئة الطَّبيعيَّة أو البيئة الثَّقافيَّة والتّراثيَّة، أو حتَّى العوامل البيولوجيَّة..
لدى أصحاب التَّوجّهات العنصريَّة الصَّريحة في «الغرب»
أو العنصريَّة المعكوسة (ضدّ الذَّات) في «الشَّرق».
والوقت
في «الغرب»،
بحسب الفكرة العاميَّة وشبه العاميَّة الدَّارجة لدى النَّاس في «الشَّرق»،
يُصوَّر على أنَّه مملوء دائماً بالعمل؛ بحيث أنَّ الإنسان الغربيّ أشبه ما يكون بالآلة
في مخيِّلة الإنسان الشَّرقيّ، في حين يُصوَّر وقت الإنسان الشَّرقيّ على أنَّه دائماً
مملوء بالفراغ. وطبعاً يُنظر للفراغ، بحسب رواسب التَّفكير العبوديّ والإقطاعيّ
(وبمفهوم الرَّأسماليَّة المتوحِّشة أيضاً) على أنَّه مفهوم سلبيّ بالمطلق.
والحقيقة
أنَّ هذه تصوّرات غير حقيقيَّة، وهي مبنيَّة على فهم كمِّي سطحيّ قاصر؛ فـ«الغرب»
لا يتميَّز، كما هو شائع، بكونه يهتمّ بتعبئة وقته كلّه بالعمل، بل بكونه يحظى
بمقدار جيِّد من الفراغ، وكبير بالمقارنة مع ما يُتاح للشّعوب الأخرى الأقلّ تقدّماً. فهو اكتشف،
مِنْ خلال تجربته، ومِنْ خلال تطوّره العلميّ الشَّامل.. خصوصاً في مجال العلوم
الإنسانيَّة، ما للفراغ مِنْ أهميَّة كبرى في تطوّر الحضارة وفي تطوّر شخصيَّة
الإنسان.
وطبعاً
ليس المقصود هنا القول إنَّ الفراغ خيرٌ مطلق وإنَّ العمل شرٌّ مطلق، بل هو ضرورة
إيجاد معادلة علميَّة وإنسانيَّة سليمة تكفل التَّوازن بين وقت العمل وبين وقت
الفراغ. وهذه المعادلة بالذَّات هي الَّتي انبنت عليها الحضارة الإنسانيَّة بمجملها،
ولولاها لبقي الإنسان بمستوى الحيوان.
وفي
البداية، قامت هذه المعادلة على أساس تقسيم العمل إلى عمل ذهنيّ وآخر بدنيّ، وكلٌّ
منهما منفصل عن الآخر. حيث تخصَّص بعض النَّاس بإنتاج الأفكار، وتخصَّص بعضهم الآخر
بإنتاج الخيرات الماديَّة وأدوات الإنتاج بصورتها البدائيَّة. وقد أدَّى هذا إلى
إرساء القواعد الأساسيَّة لتطوّر الحضارة الإنسانيَّة بمستوياتها المختلفة.
ولكن،
في ما بعد، ولآلاف السِّنين، تباطأتْ إلى حدٍّ كبير حركة تطوّر الحضارة الإنسانيَّة
ولم تشهد أيَّ اختراق نوعيّ في العلوم أو الزِّراعة أو الصِّناعة أو أسلوب حياة النَّاس
وأفكارهم طوال تلك المدَّة. والسَّبب هو الانفصال شبه التَّامّ ما بين عمليَّة إنتاج
الأفكار، مِنْ جهة، وبين عمليَّة إنتاج الخيرات الماديَّة وأدوات الإنتاج، مِنْ
جهةٍ أخرى. وفي سياق هذا الانفصال الطَّويل، نشأ احتقار متبادل ما بين المنتجين في هذين
الحقلين لا تزال رواسبه موجودة في عقول النَّاس حتَّى الآن؛ حيث كان منتجو الخيرات
الماديَّة ووسائل الإنتاج يقلِّلون مِنْ شأن الأفكار المجرَّدة، ومنتجو الأفكار
المجرَّدة يقلِّلون مِنْ شأنْ عمليَّة إنتاج الخيرات الماديَّة وأدوات الإنتاج.
وبالنَّتيجة،
فقد كان الَّذين يعملون في إنتاج المواد لا يملكون وقت الفراغ اللازم للتَّفكير في
مشكلات عملهم وكيفيَّة حلِّها وتطوير نوعيَّة إنتاجهم ومستواه، وقبل هذا وذاك لم
تكن تتوفَّر لهم الإمكانيَّة لتلقِّي العلوم الضَّروريَّة مِنْ أجل تطوير مستوى
تفكيرهم. وهذا بينما لم تكن لدى منتجي الأفكار أيَّة تصوّرات حقيقيَّة عن ظروف
إنتاج الخيرات الماديَّة ومشكلاته وسُبل حلِّها.. ما أدَّى إلى أنَّ
الأفكار الَّتي كان ينتجها هؤلاء لم تكن لها علاقة بحياة غالبيَّة النَّاس واحتياجاتهم،
بل فقط باحتياجات الأقليَّة المتسلِّطة والمترفة.
وظلَّ
الأمر يسير على هذا النَّحو إلى أنْ أدَّى التَّطوّر الاجتماعيّ الاقتصاديّ «الطَّبيعيّ»،
في الهوامش الإقطاعيّة للنِّظام الخراجيّ، إلى ولادة الطَّبقة الوسطى وانتشارها في المدن،
أي نسبيّاً خارج ميدان الصِّراع التَّناحريّ بين الطَّبقتين الرَّئيستين آنذاك؛ طبقتي الأرستقراطيّين
والأقنان، اللتين كان الرِّيف وعلاقات العمل فيه هما ميدان صراعهما الأساسيّ.
بعد
ذلك، بدأتْ الخطوات الأولى الحقيقيَّة الَّتي أسَّستْ للاختراق الحضاريّ الكبير
اللاحق في العلوم بمختلف مجالاتها وفي الصِّناعة والزِّراعة والقيم الإنسانيَّة
والأفكار.. الخ، وهو ما سُمِّي بعصر النَّهضة.
ولقد
نشأ هذا التَّطوّر، في البداية، على أكتاف مجموعات الحرفيّين المغلقة ومعاملها
البدائيَّة الصَّغيرة. وكان على هذه الطَّبقة الجديدة الصَّاعدة أنْ تجتهد مِنْ أجل خلق
السِّياق الاجتماعيّ الاقتصاديّ والسِّياسيّ الجديد الَّذي يسيِّدها ويفتح لها آفاق
التَّطوّر الواسعة. وهنا، وجدتْ نفسها في حالة تحالف موضوعيّ مع الأقنان وتناقض مع
الإقطاعيّين ومع علاقات العمل الإقطاعيَّة.
وقد
ساعدت هذه الطَّبقة الأقنان على التَّحرّر مِنْ ربقة الإقطاع ليتحوَّلوا إلى طبقة
عاملة لديها بظروف عمل لا تقلّ بشاعة وقسوة عن ظروف الاستغلال الإقطاعيَّة.
وهكذا،
نشأتْ الرَّأسماليَّة المتوحِّشة الَّتي خطتْ خطوات مهمَّة في البداية على صعيد تطوير
الحضارة والعلوم. ثمَّ راحتْ تراوح مكانها في ما بعد.. بسبب شروط العمل القاسية
والبدائيَّة الَّتي كانت تفرضها على الطَّبقة العاملة وعلى غالبيَّة المجتمع بالنَّتيجة.
وفي هذا السِّياق، نشأتْ الحركات والأفكار الاحتجاجيَّة العماليَّة
للمطالبة برفع الأجور وتحسين شروط العمل وخفض عدد ساعاته. وبعد كفاحٍ طويلٍ ومرير،
بدأتْ هذه الحركات والأفكار تحقِّق شيئاً من النتائج المرجوَّة، فحصل العاملون على
ظروف معيشة أفضل نسبيّاً، وجرى تحديد ساعات العمل وتوفير وقتٍ للفراغ، وعندئذٍ انفتحتْ
الآفاق مجدَّداً أمام تطوّر الحضارة الإنسانيَّة وأمام مستويات أخرى نوعيَّة من
الثَّورات الصِّناعيَّة والعلميَّة والفكريَّة.
وهنا،
انفتح عصر الأفكار والاكتشافات والحركات والتَّطوّرات الجماهيريَّة، ولم يعد ممكنناً
لأيّ بلد أنْ يتحوَّل إلى بلد صناعيّ متطوِّر بالاعتماد على أفكار النّخبة
ومبادراتها فقط. بل أصبح من الضَّروريّ أنْ تترافق مع ذلك تهيئة حقيقيَّة للمجتمع
ليكون مستقبِلاً جيِّداً لتعميم العلوم والقدرات التَّصنيعيَّة في حدِّها الضَّروريّ
الأدنى على الأقلّ. وهي العمليَّة التي يشير إليها البعض أحياناً بصورة غامضة عن طريق
استخدام مفهوم «توطين التّكنولوجيا».
ومِنْ
الطَّبيعيّ أنَّ هذا تطلّب (ويتطلَّب) من المجتمعات الصِّناعيَّة أو الرَّاغبة في
الانتقال إلى التَّصنيع خلق معادلة علميَّة مدروسة تضمن المواءمة ما بين وقت العمل
وبين وقت الفراغ.
ولذلك،
فبخلاف الخرافة الشائعة في «الشَّرق»
عن «الغرب»،
يتمتَّع الإنسان الغربيّ الآن بمساحة مِنْ وقت الفراغ تفوق بكثير ما يتمتَّع به النَّاس
في المجتمعات الأقلّ تطوّراً. ويمتدّ وقت الفراغ هذا في «الغرب»
على مساحة كبيرة نسبيّاً من العطل؛ منها العطل الأسبوعيّة المكوَّنة على الأغلب
مِنْ يومين، والإجازات والعطل والأعياد السَّنويَّة، وهذا إضافة إلى كون ساعات العمل
اليوميَّة قليلة نسبيّاً بحيث أنَّها تتكوَّن في بعض البلدان الغربيَّة المتقدِّمة
مِنْ 35 ساعة فقط.. أسبوعيّاً.
وهنا،
ينتقل الحديث في عالمنا العربيّ، في العادة، من التَّأكيد على ضرورة زيادة مساحة
الوقت المخصَّص للعمل قياساً بما هو متوهَّم عن «الغرب»،
إلى المقارنة ما بين مستوى إنتاجيَّة وقت العمل في «الغرب»
ومستوى إنتاجيَّته في «الشَّرق».
ويُشار، في العادة، إلى أنَّها في «الغرب»
أفضل مِنْ ما هي عليه في «الشَّرق».
بيد أنَّ القائلين بهذا الكلام يتجاهلون، بالمقابل، حقيقة الاختلاف الكبير ما بين شروط العمل والحياة في
«الشَّرق»
وبين شروط العمل والحياة في «الغرب».
حيث أنَّ تلك الشروط في «الغرب»
أفضل بكثير –
كما هو معروف –
مِنْ ما هي في «الشَّرق».
وطبيعيّ
أنَّه حيثما تكون شروط الحياة وشروط العمل أفضل تكون إنتاجيَّة العمل أيضاً أفضل. أكبر
دليل على صحَّة هذا الكلام، نأخذه مِنْ تجربة «الغرب»
نفسه؛ فحين كان «الغرب»
يعيش في طور الرَّأسماليَّة المتوحِّشة لم يكتفِ العمَّال هناك، آنذاك، في ما يخصّ ردّهم على شروط
العمل والحياة السَّيئة الَّتي كانت مفروضة عليهم، بتقديم مستوى منخفض من الإنتاجيَّة
فقط، وإنَّما أيضاً كانوا يقومون بتخريب الآلات ومرافق المصانع، وخصوصاً عندما
أصبحتْ الآلات تهدِّد وظائفهم.
إنَّه،
لكي يشعر الإنسان بالمسؤوليَّة، يجب أنْ يكون حرّاً أوَّلاً، ويجب أنْ تكون شروط
حياته جيِّدة قبل ذلك.. أي إنسانيّة. بينما عندنا، في «الشَّرق»،
يتمّ تقديم هذه الفكرة بصورة معكوسة تماماً؛ حيث يجري الحديث في العادة عن المسؤوليَّة
كشرط مسبق للحرّيَّة، بل وكقيد عليها. في حين أنَّ المسؤوليَّة هي الحرّيَّة والحريَّة
هي المسؤوليَّة وليستا أمرين مختلفين ومتعارضين. أمَّا في عالمنا «الشَّرقيّ»
فلا حريَّة ولا مسؤوليَّة ولا شروط إنسانيَّة حقيقيَّة.
وبمقدار
ما يكون هناك انتقاص لحرّيَّة الإنسان وشروط إنسانيَّته بمقدار ما تقلّ إنتاجيَّته
ويقلّ إبداعه ويقلّ شعوره بالمسؤوليّة. لكن التَّفكير عندنا في هذه المسألة لا يزال
في مستوى التَّفكير الإقطاعيّ أو في أحسن الأحوال في مستوى تفكير النَّمط الأوَّليّ
المتوحِّش من الرَّأسماليَّة.
وهذا
طبيعيّ، لأنَّنا محكومون بشروط هوامش النِّظام الرَّأسماليّ الدَّوليّ. وبالنَّتيجة،
فأفكارنا العامَّة محكومة هي الأخرى بمفاهيم وتصوّرات أيديولوجيَّة الهوامش الَّتي
تعود بالأساس إلى أفكار ومفاهيم وقيم ما قبل الرَّأسماليَّة.
وهكذا،
فالمهمّ في «شرقنا»
ليس مقدار إنتاج العامل ونوعه، وإنَّما مقدار الوقت الَّذي يمضيه على رأس علمه. في حين
أنَّ الدَّراسات العلميَّة الحديثة أثبتتْ أنَّه بعد عدد معيَّن مِنْ ساعات العمل تقلّ
إنتاجيَّة العامل، وبعد ذلك تصبح كلفة تشغيله أعلى مِنْ قيمة إنتاجه، كما أنَّ
أخطاءه في العمل تصبح أكبر وأكثر ضرراً.
ولذلك،
فبالإضافة إلى العطل وأوقات الفراغ الكثيرة نسبيّاً، أصبح بعض الشَّركات الغربيَّة
يمنح عامليه وقتاً معيّناً لنوم القيلولة أثناء العمل؛ حيث اكتشفوا هناك أنَّ نوم
القيلولة يزيد مِنْ نشاط العامل ويحسِّن أداءه.
في ضوء ما سبق جميعه، فإنَّني أستغرب الدَّعوات الَّتي أخذتْ تنطلق في العقود
الأخيرة معبِّرة عن التَّذمّر مِنْ عدد أيَّام العطل المتاحة للعاملين. وقد شُرِعَ
في تخفيضها مع الأسف كاستجابة لمثل تلك الدَّعوات، مع أنَّ مجموعها لا يزيد إلا
قليلاً عن عطل أعياد الميلاد وحدها في بعض دول «الغرب».
وأجد، عند تأمّل خلفيَّات دعاة تقليص عدد أيَّام العطل هؤلاء، أنَّهم لا
يخرجون عن صنفين؛ الصِّنف الأوَّل، لديه مشكلة اجتماعيَّة في ما يتعلَّق بكيفيَّة
قضاء وقت فراغه؛ فهو لا يعرف كيف يمضي يوماً كاملاً مع أسرته وليس لديه أصدقاء
حقيقيّون ولا أيَّة هواية يملاً بها وقت فراغه كما أنَّه لم يتعوَّد أنْ يخلو إلى
نفسه ويستمتع بالتَّفكير بصورة حرَّة. وبالنَّتيجة، فالعطلة بالنِّسبة له إنَّما
هي جحيم حقيقيّ.
أمَّا
الصِّنف الثَّاني، فهم مِنْ دعاة العودة إلى النَّمط المتوحِّش من الرَّأسماليّة، وهؤلاء
على درجة من الخواء بحيث أنَّهم لا يعرفون سوى لغة الأرقام الصَّمَّاء. أمَّا
الأبعاد الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة لتلك الأرقام وخلفيَّاتها الإنسانيَّة، فهي
غائبة تماماً عن تفكيرهم وفوق مستوى إدراكهم.
وهكذا،
فإنَّنا حين نتحدَّث عن السَّاعة لا نستطيع أنْ نحصر كلامنا في تلك الأداة الَّتي
نسوِّر بها معاصمنا أو نعلِّقها على جدران بيوتنا ومكاتبنا. كما أنَّنا لا نستطيع أن
نتوقَّف عند عدّ السَّاعات في الفراغ وفي الوهم. بل، لكي يكون لكلامنا معنىً
حقيقيّاً، يجب أنْ نبحث عن معنى الزَّمن ومضمونه في عمل الإنسان وفي شروط معيشته.