حقَّقتْ
نقابة المعلِّمين، حتّى الآن، بإضرابها غير المسبوق في مدَّته وشموله، عدداً من
المكاسب الأساسيّة المهمّة، لها وللمعلِّمين وللشعب الأردنيّ. وهذه المكاسب لا
تقلّ أهمّيّةً عن مطلب علاوة الخمسين بالمئة الذي تطالب به النقابة إنْ لم تزد عنه
بكثير. وهي على النحو التالي:
أوّلاً،
أعاد اَلإضراب صياغة قطاع المعلِّمين كجسمٍ واحد متعاضد متضامن، مع أنَّ ميدان
عملهم مشتَّتٌ جدّاً في منشآت تعليميّة كثيرة موزَّعة على مختلف أنحاء الديار
الأردنيّة؛
ثانياً،
كسبت النقابة وكسب المعلّمون التفافاً غير مسبوق حولهم لأوسع طيفٍ من الشعب
الأردنيّ. وهم، بهذا، أصبحوا يحظون بقوّةٍ اجتماعيّة هائلة غير مسبوقة أيضاً. بالمقابل،
النظام بلا أيّ قاعدة اجتماعيّة.. إلى حدّ أنَّه أصبح –
كما أشار كاتب هذه السطور مراراً –
يعيش على الأجهزة وحدها تقريباً (بالمعنى المباشر لكلمة أجهزة وبإيحاءاتها الطبّيّة
أيضاً). وما مِنْ نظام يستطيع العيش على «الأجهزة»
وحدها إلى ما لا نهاية. بل إنَّ النقابة، بامتداداتها الشعبيّة الواسعة، تخترق حتَّى
أجهزة النظام نفسه؛ فلجميع الأردنيّين أقرباء بهذه الدرجة أو تلك من المعلّمين؛
ثالثاً،
الإضراب نجح في تظهير النقابة والمعلِّمين كقوّة اجتماعيّة (وسياسيّة بالضرورة) أساسيّة؛
بحيث أنَّهم أصبحوا الآن –
بالتزامهم الصارم بقرارات مجلس نقابتهم والتفافهم حولها –
أهمّ القطاعات الاجتماعيّة (المهنيّة والعمّاليّة)؛
رابعاً،
الإضراب رفع مكانة المعلّمين الاجتماعيّة والسياسيّة وعزَّز ثقتهم بأنفسهم بعدما
كانت قد انحدرت إلى الحضيض خلال العقود الماضية؛
خامساً،
النقابة، بإضرابها، قرعت الجرس وضربت المثل والقدوة للشعب الأردنيّ كلّه وأرشدته
إلى السبيل الذي يكفل له تحقيق حقوقه وفرض إرادته؛
سادساً،
هذا الإضراب إنَّما هو عصيان مدنيّ جزئيّ. ما يعني أنَّه ارتقى بمستوى احتجاجات
الشعب الأردنيّ وعزَّز حراكه الوطنيّ. ولذلك، تبذل السلطة الحاكمة كلّ ما في وسعها
لكي تصمد في وجهه وتتجنَّب الرضوخ له وتحبطه وتحدّ من التفاف الناس حوله. وإنَّ
رضوخ السلطة للإضراب سيكسبه قوّة المثال ويمنحه صدقيّةً كبيرة ويجعل قطاعاتٍ
شعبيّة واسعة تكتشف في ما في نفسها مِنْ قوّةٍ كامنة هائلة للاحتجاجات الجماهيريّة
التي يفرض بها الشعب إرادته؛ لذلك، من المهمّ مساندة النقابة وإضرابها وتعزيز
ثقتها بنفسها إلى أنْ تتمكّن مِنْ تحقيق مطلبها؛
سابعاً،
نجحتْ النقابة في تسليط الضوء على مفاعيل الاختلال الكبير في عدالة توزيع الدخل
والثروة وتوزيع المكاسب الاقتصادية والمعيشيّة المختلفة؛ فهذا الصراع في جوهره
يدخل ضمن إطار الصراع مِنْ أجل العدل الاجتماعيّ؛
ثامناً،
سلّط الإضراب الضوء على الضرر الكبير الذي ألحقته بالشعب وبالبلاد وتلحقه بهما
الهيئات الموازية (الحكوميّة منها والخاصّة) التي تتغوّل على المؤسَّسات الرسميّة
الأصليّة المنصوص عليها في الدستور وتصادر أدوارها وتمتصّ إمكاناتها كالعلق.. بلا
أيّ وجه حقّ. وقد دار حديث كثير في الفترة الأخيرة عن ما يُسمّى «أكاديميّة
الملكة رانيا لتدريب المعلّمين»،
ورأت الناس بالملموس ما لهذه الهيئات الموازية مِنْ فعلٍ مدمِّر. وقبل ذلك، كان الحديث
عن الدور السلبيّ للهيئات الموازية مقصوراً على المهتمّين والمتابعين وحدهم.. من المعارضين
السياسيين خصوصاً.
أدارت
النقابة إضرابها، حتَّى الآن، بنجاح؛ فنظَّمت فروعُها اعتصاماتٍ دوريّةً حاشدة في
المحافظات ولم تقصر عملها على عمّان وحدها. وقد تابع الأردنيّون، في كلّ اعتصامٍ
من هذه الاعتصاماتٍ، قصصاً لمواقف مجيدة للمعلّمين والمعلّمات ومؤيِّديهم وأخرى
معيبة لخصومهم ومعارضيهم.
وإذا
ما صمدت النقابة، وواصل الشعب تضامنه معها ومع إضرابها، فإنَّه ما مِنْ مخرج أمام
السلطة الحاكمة إلا الاستجابة لمطلبها. أمّا التجييش الإعلاميّ المحموم ضدّها
الآن، والايحاء بأنَّ السلطات ستواصل صمّ أذانها عن مطلب النقابة، فليس دليل قوّة،
بل هو دليل ضعف، وهو جزء مِنْ أدوات الصراع الذي يتّخذ الآن شكل عضّ الأصابع. وفي عمليّة
عضّ الأصابع هذه تريدنا السلطات أنْ نكون –
ربّما مِنْ دون أنْ نفطن –
عوناً لها على النقابة لكي تقول آخ أوّلاً وتخسر ونخسر معها.
وأمّا
التلويح بحلّ النقابة، فإنَّما هو جزء مِنْ أعمال الضغط هذه. ولكن إذا ما تبيّن
أنَّ هذا يعبِّر عن توجّهٍ حقيقيّ وجدّيّ، فسيكون حماقةً كبرى؛ فالمعلّمون لا
يلتفّون حول نقابتهم بسبب امتلاكها الترخيص، بل لأنَّها تدافع عن حقوقهم ومطالبهم
وتحقّق وحدتهم وتماسكهم.
أُذكِّر،
هنا، بأنَّ التفاف المعلّمين حول المطالبين بحقوقهم قد سبق قيام النقابة، بل إنَّه
كان هو السبب الحقيقيّ لقيامها؛ حيث التفّ المعلّمون –
آنذاك –
حول نشطاء حِراكهم الذين كانوا يطالبون بقيام النقابة. ولذلك، فإنَّ حلّ النقابة الآن
لن يوقف الإضراب.. خصوصاً إذا ما ظلّ مجلس إدارتها صامداً حتّى في حال حلّها.
في
العام 1989، أصدرت حكومة زيد الرفاعيّ قراراً عرفيّاً بإغلاق رابطة الكتّاب الأردنيين
نهائيّاً بالشمع الأحمر، وأقامت بقرارٍ عرفيّ آخر صدر في الوقت نفسه هيئةً بديلةً للرابطة
بمسمَّى «اتّحاد الكتّاب
الأردنيين». ولكن الهيئة الإداريّة
للرابطة لم تعترف بهذين القرارين، وظلّت تقوم بدورها كممثّل شرعيّ وحيد للكتّاب الأردنيين،
والتفّ حولها أهمّ الكتّاب والمثقّفين الأردنيين، وظلّت تقوم بعملها وتجتمع بانتظام،
وقد رفضت النقابات المهنيّة الأردنيّة واتّحادات الكتّاب العربيّة والأجنبيّة أنْ
تعترف بقرار الحلّ وظلّت تتعامل مع الرابطة على أنَّها لا تزال قائمة وشرعيّة
وتحفظ لها مقاعدها التمثيليّة لديها. وبعد حوالي سنة، تمّ التراجع عن قرار حلّ
الرابطة وأُعيدت إليها جميع ممتلكاتها وحقوقها. حدث ذلك بفضل صمود إدارتها ومعظم
أعضائها وبوهج انتفاضة نيسان المجيدة.
وبالنسبة
للذين يتحدّثون عن العصيان المدنيّ كوسيلة سلميّة فعَّالة مِنْ أجل استرداد البلاد
وتحصيل جميع الحقوق السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة المشروعة للشعب، فالإضراب
هو تمرين واسع وبـ«الذخيرة
الحيّة» للوصول إلى هذه
المرحلة. ولا يقلِّل مِنْ أهمّيَّته كونه يسعى إلى تحقيق قضيّة مطلبيّة فئويّة؛
فأهمّ حركات التغيير في التاريخ انطلقت شرارتها مِنْ قضايا مطلبيّة فئويّة.
البلاد
الآن في أسوأ أحوالها، والنظام في وضعٍ لا يُحسَد عليه، وهو المسؤول الأوَّل
والأخير عن تردّي أحوال البلاد والشعب وليس في وضعٍ يسمح له بهذا العناد المكابِر
الذي يحاول أنْ يبديه حتّى الآن. إنَّه يخسر ويسير حثيثاً وباطِّراد في طريق
الخسران، في حين لم يعد لدى النقابة ولا لدى الشعب ما يخسرونه سوى الذل والعبوديّة
والجوع والخنوع والقهر والاستغلال وخوفهم وقلقهم على مستقبلهم ومستقبل بلادهم التي
يأخذها النظام (ويأخذهم معها) إلى الهاوية.
بالمختَصَر،
ما
النصر إلا صبر ساعة.