«لقد تمكَّن العدوّ الصهيونيّ مِن احتلال فلسطين قلب الوطن العربيّ
ومهوى أفئدة العرب والمسلمين وكذلك الجولان وصحراء سيناء في حرب حزيران لا لتفوّقه
بالعدد والعدّة بل بدعم مِنْ قوى عالميّة وتواطؤ قيادات عربيّة وقد سقط العديد من
الشهداء والجرحى والأسرى والمفقودين في هذه الحرب.
لم
تكتفِ القيادات العربيّة بتواطئها مع الصهاينة في الحرب بل تجاوزت ذلك الى تجاهل
حقوق الشهداء والجرحى ومصير المفقودين الذين أصبحوا فئران تجارب في مختبر العدوّ
أو عمّالا في الاْماكن الخطرة والسريّة مثل مفاعل ديمونا وغيرها...!؟».
(عطا
إرحيّل العيسى، مِنْ أسرة الجندي حمدان إرشيد العلي العيسى الذي فُقِدَ في حرب
حزيران 1967).
أثار
فيديو1، انتشر قبل مدّة على نطاقٍ واسع، مشاعر الناس وفتح عيونهم على
بعض جوانب الأذى الذي تُلحِقُه العصابة الحاكمة حتَّى بأبسط البسطاء الذين لم
تُعرَف لهم أنشطة سياسيّة مِنْ قبل. في الفيديو امرأة في ثمانينيّات عمرها
بالملابس الأردنيّة التقليديّة القديمة تبكي وتنوح بلوعة على ابنها الذي تمّ
اعتقاله من الشارع. ومِنْ ضمن ما تقوله بلهجتها البدويّة الصافية: «...
إولِديْ وين رحتوا بو؟ إولِديْ مِريض.. رِبى يِتيم وْمِريض. ما عندي غيرو هو
وأخته، وهو معيلي الوحيد...».
ابن
تلك المرأة، التي أوجعت لوعتها عليه الكثير من الأردنيين، هو: عطا إرحيّل العيسى.
وتالياً قصَّته وقصّة والدته (وشقيقته)، وهي قصّة تختزل الكثير مِنْ أبعاد مظلمة
الأردنيين من السلطة الحاكمة.
حصلت
الأسرة، قبل سنوات، على بيت من المشروع المسمَّى «سكن كريم». وعندما استلم
عطا ووالدته وشقيقته السكن الـ«كريم»، هذا، قيل لهم: إنَّه لكم (حلال زلال).
فقالوا:
إذا بدنا نعمِّر فوقه، هل هذا مسموح لنا؟
قيل
لهم: عمِّروا زي ما بدكو.
عمَّروا
لاحقاً، فجاء مندوبو وزارة التنمية، التي أشرفت على الإسكان، وطالبوهم بإخلاء
البيت بسبب البناء فوقه!
فسألوا:
أليس البيت ملكنا ونستطيع أنْ نعمِّر فوقه زي ما بدنا؟!
قال
لهم مندوبو التنمية: كلّا؛ البيت ليس ملككم. فهو ممنوح مؤقَّتاً لوالدتكم وإذا
تُوفِّيت يعود إلى وزارة التنمية!
الناطق
الإعلامي لوزارة التنمية الاجتماعية، في حينه، الدكتور فواز الرطروط، برَّر موقف
الوزارة، قائلاً للإعلام إنَّ «بناء طابقٍ ثانٍ واتّخاذه مقرّاً لجمعيّة
خيريّة هو تعدٍّ واضح للقانون».
الجمعيّة
التي أشار إليها الدكتور الرطروط هي «جمعية مجد الشهداء»، وقد أسَّسها عطا
وترأسها وأدارها مِنْ شقَّته، ليطالب بوساطتها السلطات وكلّ المعنيين ببذل جهودٍ
جدّيّة مِنْ أجل كشف مصائر المفقودين في حرب العام 1967، ومِنْ ضمنهم ربّ أسرته.
وقضيّة
المفقودين، هذه، من الواضح أنَّ جمرها لا يزال يتَّقد تحت الرماد لدى عطا وأسرته؛
تدلّ على ذلك نشاطاتهم المتعدِّدة في هذا المجال التي سجَّلها الإعلام مراراً،
وكذلك ترخيصه جمعيّةً لهذا الغرض.
يقول
عطا: «عدوّنا يقدّر عالياً دور جنوده، حيث شاهدناه بأمّهات أعيننا كيف يبادل
رفات جنديين مع مئات الاْسرى في صفقة مع حزب الله وكيف يبادل (شاليط) مع مئات
الاْسرى مِنْ حركة حماس، هذا على سبيل المثال لا الحصر، وكيف يخوض الحروب ويستنفر
قواته واجهزته الأمنيّة على مدى بضعة عقود بحثاً عن مصير (رون اراد)...!؟».
أعرف
أسرةً أردنيّة أخرى عانت طويلاً مِنْ مثل هذه المأساة، هي أسرة الشهيد موسى منصور
القبيلات، الذي لم يُعرَف مصيره منذ قطع إجازته والتحق بكتيبته صبيحة يوم 5 حزيران
1967 وحتَّى الآن. وقد ماتت والدته وهي تتمنَّى أنْ تعرف أهو حيّ في الأسر أم
اُستُشهِدَ. وإذا كان قد اُستُشهِدَ، فأين وكيف؟
ويقول
عطا أيضاً: «أسقطت معاهدة وادي عربة قضية المفقودين مِنْ أجندتها، في حين
أصرَّ العدوّ أن يضع شرطاً في معاهدته مع مصر يقضي بالمحافظة على ثلاثة نصب
تذكارية اشادها تخليداً لقتلاه في فترة احتلاله لسينا.».
وتصرّ
أسرة الجندي حمدان ارشيد العلي العيسى على أنَّه أحد مفقودي حرب حزيران 1967 ولم يستهشد، وتقول إنَّ لديها وثائقاً تثبت ذلك.. إضافة إلى
مراسلات الصليب الأحمر وشهادات مِنْ بعض زملاء الجندي المفقود. وهم يعترضون على
تصنيفه «بجرّة قلم» شهيداً مِنْ دون تقديم معلومات مقنعة عن مصيره
والكشف عن مكان جثمانه إنْ كان قد اُستُشهِدَ فعلاً.
وهنا،
يقول عطا وهو يعبِّر عن يأسه مِنْ إمكانيَّة أنْ تحرِّك السلطات ساكناً في هذا
المجال: «نذكِّر شرفاء الامة بأنَّ قضيّة المفقودين قضيّة وطن وليست قضيّة
أسرة وأنَّ لهم (يقصد المفقودين) دين مستحقّ في عنق كلّ مَنْ يقيم للدين والوطن
وزناً أو يحفظ لفرسان الاْمّه عهداً.».
لهذا
كلّه، شرع عطا بممارسة حقّه المشروع في الاحتجاج2، فاعتصم اعتصاماً
مفتوحاً على جانب الطريق العامّ ليعبِّر بهدوء عن مطالبه العادلة التي تتلخَّص في
مطلبين رئيسين، هما:
- إعادة
فتح ملفّ المفقودين في حرب حزيران 1967؛
- تثبيت
حقّ أسرته في البيت الذي حصلوا عليه مِنْ مشروع الإسكان المسمَّى «سكن
كريم» الذي ثبتَ أنَّه ليس كريماً إلا على مَنْ حصدوا مِنْ ورائه الملايين.
والدة
عطا امرأة بسيطة تجاوز عمرها الثمانين عاماً، كانت تذهب كلّ يوم إلى ابنها في مكان
اعتصامه وتُحضر له ما تجده في بيتها من طعامٍ وماء وتعتصم معه بعض الوقت ثمّ تعود
إلى بيتها.
أمضى
عطا 19 يوماً وهو يواصل اعتصامه إلى جانب الطريق، وفي اليوم التاسع عشر حضرت
والدته إلى المكان، فلم تجده. وعندئذٍ، أطلقتْ صيحتها الموجوعة التي صوَّرها بعض
المتعاطفين وتناقلها الناس على نطاقٍ واسعٍ قبل مدّة.
عطا إرحيِّل موجود في المعتقل منذ 29 حزيران 2019، وأسرته بلا مصدر دخل ولا معيل،
ووضعه الصحيّ سيِّئ وهو كان يخضع للعلاج باستمرار. أمَّا التُّهم التي سُجِنَ
بسببها، فهي تثير الاستغراب والاستهجان حقّاً وتدعو إلى تأمل الحال المتردّي الذي
بلغته السلطة الحاكمة. وهذه التُّهم هي: 1. تقويض نظام الحكم (!)؛ 2. إطالة
اللسان (!)؛ 3. تغيير النسيج الاجتماعيّ للدولة (!).
والسؤال
الذي يتبادر إلى الذهن فوراً هو: ما هي طبيعة نظام الحكم هذا الذي يمكن أنْ
يقوِّضه عطا إرحيِّل بوقوفه السلميّ إلى جانب الطريق ومطالبته بأبسط حقوقه؟!
أمّا
قانون «إطالة اللسان» القروسطيّ، فهو عار على جبين السلطة الحاكمة،
ويكشف مدى تخلّفها عن معطيات العصر وعن مفاهيم وقيم أبسط الناس الذين تفرض
عليهم حكمها الأوتوقراطيّ وتكمِّم أفواههم بقسوة لكي يمتنعوا عن خدش مشاعرها المرهفة.
إنَّ
أبسط مفاهيم وقيم العصر الحاليّ تقول إنَّ مَنْ يضطلع بأيّ مسؤوليّة عامّة هو خادم
للشعب وليس العكس، وعليه أنْ يخضع لمساءلة الشعب مهما كانت قاسية وليس العكس. وفي
البلدان التي تحكمها سلطات متحضِّرة، يتعرّض أكبر المسؤولين للرمي بالبيض الفاسد
والبندورة المخمّجة والشتائم ولمختلف ردود الفعل القاسية فيتحمّل ذلك وينظر إليه
كردّ فعلٍ مشروعٍ على سياساته وقراراته وإجراءاته وليس كإساءة شخصيّة له.
مَنْ
لا يتحمّل محاسبة الناس له – مهما كانت فجّة وقاسية – عليه
أنْ يجلس في بيته ويتفرّغ لشؤونه الخاصّة مثله مثل سائر المواطنين. وعندئذٍ، لا
يكون مِنْ حقّ أحد أنْ يتدخّل في حياته الخاصّة أو يحاسبه على أيّ تصرّفٍ بايّ
شأنٍ مِنْ شؤونه الخاصّة.
في
البلدان التي تحكمها أنظمة متحضِّرة، لا يوجد مسؤول – مهما علا
منصبه – محصَّنٌ ضدَّ النقد ويُعتَبَرُ نقده خطّاً أحمرَ!
وإذا
كان المرء يستطيع أنْ يفهم تهمة «تقويض النظام» باعتبار أنَّ النظام
ربّما يكون قد أصبح هشّاً إلى حدِّ خشيته مِنْ أنَّ إنساناً بسيطاً مثل عطا
إرحيِّل يمكن أنْ يقوّضه، فإنَّه يصعب فهم تهمة «تغيير النسيج الاجتماعيّ
للدولة»!
النظام
يخلط كثيراً – بجهل أو بسوء نيّة – بينه وبين الدولة
الأردنيّة. وشتّان بينهما. وعلى أيَّة حال، إذا كان النظام يحصد نتائج سياساته
اللاوطنيّة المدمِّرة؛ فإنَّ الدولة لا علاقة لها بذلك، وهي باقية لشعبها، ولا
يغيِّر مِنْ هذه الحقيقة كون الدولة أسيرة الآن في قبضة سلطةٍ فاسدةٍ مستبدّة.
التُّهم
التي وُجِّهتْ إلى عطا إرحيِّل (وإلى سواه مِنْ معتقلي الرأي)، تدلّ على أنَّ
العصابة الحاكمة لا تدقِّق في الوسائل التي تستخدمها ضدّ خصومها لكي تبعدهم عن
طريقها.. طريقها الوعر الذي تسير عليه بتهوّر ورعونة، كما أنَّها تكشف أنَّ حالة
الإنكار التي تعاني منها قد أعمتها عن إدراك أنَّ الناس ليسوا أغبياء ليَسْهُل
إقناعهم بمثل هذه الذرائع الواهية التي تسجن بموجبها المحتجّين السلميين على
سياساتها الجائرة.
إنَّ
أرباب هذه السلطة يستبدّون، وينهبون ثروات البلاد، ويبيعون مواردها بأبخس الأثمان
التي يستولون عليها هي أيضاً، ويعطِّلون التنمية الوطنيّة، ويفقرون الشعب ويجوّعونه،
ويضطهدونه، ويحولون دون تمكينه مِنْ تقرير مصيره وحكم نفسه وبلاده بنفسه،
ويتصرّفون بمصيره ومصير البلاد مِنْ دون موافقته، ويرهنون قرار البلاد وسيادتها
ومصالحها للأعداء.. الإمبرياليين والصهاينة؛ وبالمقابل، لا يطيقون أنْ يسمعوا أحد
المتضرِّرين يقول: «آخ!»، أو يطلق زفرةً حرّى كردّ فعلٍ إنسانيّ طبيعيّ على
ظلمهم وجورهم.
إنَّ
حرّيّة التعبير (وخصوصاً تعبير الاحتجاج على الظلم) هي أبسط حقّ مِنْ حقوق الإنسان
المعترف بها دوليّاً. ولكن، بسبب غياب هذا الحقّ وحجبه غصباً في بلادنا، يوجد الآن
حوالي خمسين سجيناً ومعتقلاً في سجون النظام. والحبل على الجرّار.
إنَّه
على كلّ إنسان يملك الحدّ الأدنى من الضمير ويحترم كونه إنساناً ويعرف معنى
الكرامة الإنسانيّة، أنْ يرفع صوته ضدّ استهتار السلطة الحاكمة في الأردن بأبسط حقوق الإنسان
وإيقاعها مثل هذا الظلم والجور ببسطاء الناس.
وقصّة
عطا وأسرته تختزل معانٍ رمزيّة وطنيّة وطبقيّة وإنسانيّة مكثَّفة للتعبير عن مدى
الظلم والقهر والإذلال الذي يتعرَّض له الشعب الأردنيّ. فهي، أوَّلاً، قصة لأسرة
شهيد قضى في جولة مِنْ جولات مقارعة العدوّ الصهيونيّ؛ وهي، ثانياً، قصّة أسرةٍ
تعرَّضت للإفقار والتهميش بسبب سياسات هذا النظام الوظيفيّ التابع.. مثلها مثل
الغالبيّة العظمى من الشعب الأردنيّ؛ وهي، ثالثاً، قصّة اسرةٍ تعرَّضت للقمع
والتنكيل بسبب تعبيرها عن الاحتجاج على ما أصابها مِنْ ظلم. وهذا مصيرٌ يهدِّدُ
كلَّ أردنيٍّ يفتح فمه بما يمكن أنْ يزعج الممسكين فعليّاً بدفّة السلطة.
فُقِدَ
ربّ أسرة عطا في الحرب وهو يذود عن الوطن، فكوفئت أُسرتُه بهذا المستوى البائس من
العيش والقهر؛ في حين أنَّ البعض، ممَن لم تغزّهم حتَّى لو شوكة في سبيل الوطن،
يعيشون في مستوياتٍ خياليّة من الثراء والبذخ والرفاهيّة على حساب الشعب والبلاد،
ويتصرّفون كما لو أنَّ البلاد مزرعة خاصّة لهم والشعب مجرّد جموع وافرة من الأقنان
مسخَّرة لخدمتهم.
وهنا،
أتذكَّر كتاب الطاهر وطَّار القصصيّ البديع: «الشهداء يعودون هذا الأسبوع».
وأستغرب
كيف نواصل عيش حياتنا ببساطة، ويثرثر كثيرون منّا عن الحكومات الصوريّة وتشكيلاتها
وتعديلاتها، بينما نحن نرى كلَّ هذا الظلم الفادح يقع حولنا.. بل وعلينا وعلى
بلادنا؟!
كيف؟!
أخيراً،
يقول عطا، في معرض نشاطه الدائم للكشف عن مصير ربّ أسرته المفقود: «إنَّ
المعاهدات الدوليّة الجائرة لا تلغي الحقوق المشروعة، ودائما تكون سبباً للحروب
بين الدول، كما أنَّ الدساتير والقوانين الظالمة تكون سبباً لثورات الشعوب. لذا
فإنَّ الرهان على قمع الشعوب ورهن مستقبل الأجيال هو رهان خاسر. وفي التاريخ قديمة
وحديثه عبرة لمن يعتبر.».
نعم،
في التاريخ عِبرَة لمَنْ يعتبر..
هذا
إنْ كان يقرأ ويستوعب العِبَر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ