سعود قبيلات ▣
كفِّي
الملام وعلِّليني.. فالشكّ أودى باليـقينِ
وتناهبت
كبدي الشجونِ.. فمَنْ مجيري مِنْ شجوني
وأمَـضَّني
الدّاءُ العـياءُ.. فمَـنْ مغيثي مَنْ معيني
هذه
الأبيات مِنْ أغنية شادي الخليج «كُفِّي الملام»(1). وكانت أغنيةً
مشهورة جدّاً في ستينيّات القرن الماضي. وآنذاك، لم أكن أعرف مَنْ هو كاتبها. كما
أنَّني لم أكن أعرف قصَّتها الحزينة، وكنتُ أظنُّها أغنية عاطفيَّة عاديَّة
وخطابها موجّه إلى امرأةٍ معشوقة. لكنَّني كنتُ أستغرب بعض التعابير الواردة فيها
التي كانت تبدو على غير مألوف قصائد الحب الشائعة.
ولم
ألبث أنْ عرفتُ أنَّ كلمات هذه الأغنية مقتطفة مِنْ قصيدة طويلة حزينة للشاعر
الكويتيّ فهد العسكر، وأنَّها لم تكن تتحدَّث عن قصّة حبّ عاديّة؛ بل لم تكن
تتحدَّث عن قصّة حبٍّ على الإطلاق. الأصحّ أنَّها تتحدَّث عن قصّة كُره؛ لكن ليس
مِنْ طرف الشاعر.
عبد
الله زكريا الأنصاريّ، وكان أحد أصدقاء «العسكر» المقربين، وأحد القلة المتعلِّمة
التي استمرّت بالتردُّد عليه بعدما عزله المجتمع بقسوة، نشر كتاباً عن صديقه
الشاعر بعد رحيله في ريعان شبابه. الكتاب منشور في العام 1956، وقد طُبِّع في
«مطبعة نهضة مصر بالفجالة» في القاهرة، وجاء فيه أنَّ أغنية شادي الخليج «كُفِّي
الملام» مأخوذة مِنْ قصيدة بعنوان «شهيق وزفير» كان فهد العسكر قد نظمها في العام
1946، مخاطباً فيها والدته التي جاءت إليه، بعدما أقصته أسرته، وراحت ترجوه أن
يرأف بحاله ويغيِّر سلوكه الغريب بالنسبة لمجتمعه، ويكفّ عن بثّ أفكاره
التحرُّريَّة التي كان ذلك المجتمع يرفضها، لكي يتوقَّف الناس عن معاداته،
ويتمكَّن من العودة إلى أسرته ويعيش بينها حياة عاديَّة مثل بقيَّة الناس. فيردُّ
الشاعر على أمّه، قائلاً:
أُمّاهُ
قد غَلَبَ الأسى كُفّي
الملامَ وعلّليني
اللَه
يا أمّاهُ فيَّ ترَفّقي لا تعذُليني
أرهَقتِ
روحي بالعتابِ فأَمسِكيه أو
ذَريني
أنا
شاعرٌ أنا بائسٌ أنا مستهامٌ فاعذُريني
أنا
مِن حنيني في جحيمٍ آهِ من حرّ الحنينِ
أنا
تائه في غيهَبٍ شبحُ الردى فيه قريني
ضاقَت
بيَ الدنيا دَعيني أندبُ الماضي دَعيني
وأنا
السجينُ بعقرِ داري فاسمَعي شكوى السجينِ
بهزالِ
جسمي باصفراري بالتجعّدِ بالغُضونِ
وكانت
أمّه هي الشخص الوحيد مِنْ أفراد أسرته الذي لم يقطع صلته به، وقد زادها عطفاً
عليه أنَّه في تلك الفترة أصيب بمرضٍ في عيونه وما لبث أن فقد بصره.
ولم
يكن فهد العسكر قد فعل شيئاً يستحقّ عليه أنْ يتمّ الدفع به إلى هذا المصير
البائس؛ كلّ ما فعله هو أنَّه حاول طرح بعض الأفكار التحرُّريَّة والتنويريَّة
متوخِّياً بها النهوض بمجتمعه؛ لكنّ وقع أفكاره تلك على حياة الناس الراكدة مِنْ
حوله كان كوقع الصاعقة، فما كان منهم إلا أن تحفَّزوا وتوثَّبوا للدفاع عن سكينتهم
وطمأنينتهم الخادعة، وحاولوا بشتَّى الطرق أن يثنوا هذا العضو النافر بينهم عن
سلوكه الذي صدمهم وأفكاره الخارجة على مألوفهم.
على
أيَّة حال، رغم المعاناة الشديدة، ورغم الخسارات الكثيرة، والعسف، ومرارة العزلة،
إلا أنَّ فهد العسكر لم يتراجع عن مواقفه، بل بقي متمسِّكاً بها حتَّى النهاية،
واستمرّ الأذى باللحاق به حتَّى النهاية.. بل حتَّى بعد وفاته؛ حيث قام بعض أفراد
أسرته بحرق أشعاره وأوراقه الخاصَّة ولم يبق مِنْ هذه وتلك إلا ما كان موزَّعاً
بين أصدقائه، ومن ضمن ذلك ما احتواه كتاب عبد الله زكريّا الأنصاريّ مِنْ قصائد
الشاعر. ومِنْ هذا الكتاب نفسه، نخرجُ ببعض المعلومات التي تضيء بعض جوانب حياة
فهد العسكر وشخصيَّته وأسباب محنته، فنوجزها على النحو التالي:
- نشأ فهد العسكر في
عائلة محافظة، وتعلَّم في مدارس الكويت، وفق أسلوب التعليم القديم الأشبه
بأسلوب الكتاتيب، وكان شديد الشغف بتعلُّم اللغة العربيَّة وقواعدها، وقراءة
الشعر والأدب؛ قديمه وحديثه؛
- كان في بداية حياته
متديِّناً، شديد التعصُّب، يؤدِّي فروضه الدينيَّة على أكمل وجه. وبحسب
الأنصاريّ، كانت بداية التحوُّل في مساره الفكريّ وفي سلوكه وحياته، هي عندما
«رغب في قراءة الكتب الحديثة ذات النـزعة التحريريَّة، وبدأ ينظم الشعر الذي
صوَّر فيه في بادئ الأمر تديُّنه ونسكه الموروث، ثمَّ صوَّر تحرُّره الفكريّ،
وانطلاق ذهنه».
ويضيف
الأنصاريّ، قائلاً، إنَّ شعر فهد العسكر، قد أخذ بعد ذلك «يتطوَّر بتطوُّره
الفكري، فتضمَّن بعض آرائه في الدين والحياة بحريَّة وانطلاق فكري عجيب»؛
- بعد ذلك، كما يقول
الأنصاريّ أيضاً: «رماه الناس بالكفر والجحود، وملَّه أهله واعتزلوه، وأصبح
يعيش في وحدة تامَّة، مع خياله حيناً، ومع كتبه حيناً آخر.. وأصبحت حياته
سلسلة من الآلام والأحزان انعكست على شعره، وهرب من ضيق الحياة إلى الراح،
فصار يحتسيها وينفِّس بها عن أحزانه وآلامه وهمومه»؛
- ويبدو أنَّ بعض
الأدباء والمتعلِّمين الكويتيّين، ومِنْ ضمنهم الأنصاريّ نفسه، استمرّوا في
التردّد على الشاعر بعد نبذه وعزله، وكانوا يُطلعونه على كتاباتهم، ويطلبون
رأيه فيها، ويستفيدون بنصائحه. وقد حفظ بعضهم بعض قصائد الشاعر، أو دوَّنها
واحتفظ بما دوَّنه. وهذه القصائد هي ما سلم من المحرقة التي أتت على كلّ
أوراق فهد العسكر بعد وفاته؛
- أصيب الشاعر، قبل
وفاته بمدَّة، بمرضٍ في عينيه. ولم يكن في الكويت أطبّاء عيون آنذاك، كما لم
يكن لدى الشاعر ما يكفي من المال ليتمكَّن بوساطته من الرحيل إلى بغداد
ليعالج عينيه هناك كما كان يأمل. وهكذا ظلَّ مرضه يتفاقم إلى أن أودى ببصره
تماماً في نهاية المطاف.
مقارنة:
كثيراً
ما ذكَّرني فهد العسكر بـ«عرار» شاعر الأردنّ الكبير؛ وذلك لأوجه الشبه العديدة
بين حياتيهما وظروفهما وبعض جوانب شخصيَّتيهما. وأودُّ، هنا، تلخيص بعض أوجه
الشبه، هذه، على النحو التالي:
- كلاهما نشأ في
مجتمعٍ كان يتعرَّض لمرحلة تحوُّلٍ هائلة. فقد كان المجتمع الكويتيّ، في
الفترة التي عاش فيها فهد العسكر، في طريقه إلى التحوّل من مجتمع فقير يعتمد
على الصيد البحريّ إلى مجتمعٍ واسع الثراء، يعتمد على النفط كمصدر أوَّل
للدخل بدلاً من الصيد البحريّ؛
وفي
تلك الفترة نفسها (النصف الأوَّل من القرن العشرين)، كان «عرار» هو الآخر يعيش في
مجتمعٍ يشهد تحوّلاتٍ كبيرةً أيضاً؛ حيث كان الانتداب البريطاني قد أخذ يبسط
سيطرته على الأردن، كما أنَّ النظام الذي جاء به هذا الانتداب ونصَّبه على البلاد
قد بدأ يرسِّخ أقدامه بفضل قوّة الانتداب وأعوانه؛
- كلاهما (عرار وفهد
العسكر) تمرَّد على الواقع السائد في بلاده، ووظَّف شعره لهذا الغرض، وكان
جريئاً في تناوله لمختلف جوانب الواقع، مهما كانت حساسيَّتها، وتحمَّلا كلَّ
التبعات التي ترتَّبت على ذلك؛
- كلاهما تطابقت
حياته مع شعره، وتطابق سلوكه مع مبادئه؛
- كلاهما صدرت أشعاره
في ديوان مطبوع بعد وفاته وليس في أثناء حياته، وإن كان معظم شعر العسكر
التهمه الحريق الذي أشرنا إليه؛
- أضطرَّ فهد العسكر
لاعتزال مجتمعه، بينما كان عرار يلجأ إلى «النَّوَر» (الغجر، كما يُسمّون في
بعض البلاد العربيَّة)، كنوعٍ من الاحتجاج على واقع مجتمعه الراكد والمشوب
بالزيف والخداع والظلم والاستغلال والقهر؛
- كلاهما أدمن الشراب
وتغنَّى في قصائده بالكأس؛
- كلاهما كان يتمسَّك
بالصدق كقيمة إنسانيَّة عليا، ويعلن ضيقه بالمظاهر الكاذبة من حوله، وازدرائه
للتفاهة وضيق الأفق.
وفي
ما يلي، شهقات وزفرات منتقاة مِنْ «شهيق وزفير» فهد العسكر:
«وطَني
وما أقسى الحياة بهِ على الحُرّ الأمين
وَأَلَذُّ
بينَ رُبوعهِ من عيشتي كاسُ المنونِ
قد
كنتَ فردوسَ الدخيل وجنّةَ النّذلِ الخؤون
لَهَفي
على الأحرارِ فيك وهم بأعماقِ السجون
ودُموعُهُم
مُهَج وأكبادٌ تَرَقرَقُ في
العيونِ
ما
راعَ مثلُ الليثِ يُؤسَرُ وابنُ آوى في العرينِ
والبُلبُلُ
الغرّيدُ يهوي والغُرابُ
على الغُصونِ
وطَني
وأدتُ بكَ الشباب وكلَّ ما ملَكَت يَميني
وقَبَرتُ
فيكَ
مواهبي واستَنزَفَت
غُللي شُؤوني
ودَفَنتُ
شتّى الذكرياتِ بِغورِ خافِقيَ
الطعينِ»
(...)
«وَرجعتُ
صفرَ الكفِّ مُنطَوِياً على سرٍّ دَفينِ
فلأنتَ
يا وَطني المدينُ وما هزارُكَ بالمدينِ
وَطَني
وما ساءَت بِغَير بنيكَ يا وَطني ظُنوني»
(...)
«رقَصوا
على نوحي وإعوالي واطرَبَهُم أنيني
وتَحامَلوا
ظُلماً وعدواناً عليّ وأرهقوني
فعرفتهُم
ونَبَذتُهُم لكنّهم لم يعرفوني»
(...)
«وأنا
الأبيُّ النفسِ ذو الوجدانِ والشرفِ المصونِ
اللَهُ
يشهدُ لي وما أنا بالذليلِ المستكينِ
لا
درّ درهمُ فلَو حُزتُ النضارَ لأكرموني
أو
بعتُ وجداني بأسواقِ النفاقِ لأكرموني
أو
رحتُ أحرقُ في الدواوينِ البخورَ لأنصفوني
فعرفتُ
ذنبي أنَّ كبشي ليسَ بالكبش السمين
يا
قومُ كُفّوا.. دينُكُم لكمُ ولي يا قَومُ ديني
ليلايَ
يا حُلمَ الفؤادِ الحلوَ يا دنيا الفُنونِ
يا
ربَّةَ الشرفِ الرفيعِ البكرِ
والخُلُقِ الرصينِ
يا
خمرةَ القلبِ الشجي وحجّةَ العقلِ
الرزينِ
صُنتُ
العهودَ ولَم أحِد عنها فيا
ليلايَ صوني
عودي
لقَيسِك بالهوى العُذريِّ بالقلبِ
الرهينِ
عودي
إليه وشاطريهِ الحبَّ بالدمعِ
السخينِ
عودي
إليه واسمعي نجواهُ في ظلّ
السكون
فهو
الذي لهواكِ ضحّى بالرخيصِ وبالثمينِ
ليلى
تعالَي زوّديني قبلَ المماتِ ووَدّعيني
ليلايَ
لا تتمَنّعي رُحماكِ بي لا تخذُليني
ليلى
تعالَي واسمعي وحيَ الضميرِ
وحدّثيني
ودعي
العتابَ إذا التقَينا أو فَفي رفقٍ ولينِ
لم
لا وَعُمرُ فتاكِ أطوَلُ منهُ عُمرُ
الياسَمينِ
لِلَهِ
آلامي وأوصابي إذا لم تُسعِفيني
هيمانَ
كالمجنونِ أخبِطُ في الظلامِ فأخرجيني
مُتَعَثِّراً
نهبَ الوساوِسِ والمخاوِفِ والظنونِ
حَفَّت
بيَ الأشباحُ صارخةً بربِّكِ أنقِذيني
واشفي
غليلي وابعثي ميتَ اليَقينِ
ودَلّليني
ليلى
إذا حُمَّ الرحيلُ وغَصَّ قَيسُكِ بالأنينِ
ورَأيتِ
أحلامَ الصَبا والحُبّ
صرعى في جُفوني
ولَفَظتُ
روحي فاطبعي قُبَلَ الوداعِ على جَبيني
وإذا
مشَوا بجنازَتي بِبَناتِ فكري شَيّعيني
وإذا
دُفِنتُ فَبلّلي بالدمعِ قَبري واذكُريني»
وفي
قصيدةٍ أخرى، قال:
«أوّاهُ
من داءٍ قد استشرى وَجُرْحٍ في الصّميمْ
رَبّاهُ
رِفقاً بالجديدِ، فكمْ شكا جَوْرَ القديمْ
وطَغَتْ
أبالِسةُ الجحِيمِ على ملائكةِ النعيم»
وكما
توقَّع هو، كان عُمرُهُ أقصر مِنْ عُمرِ الياسمين؛ إذ مات وهو في الرابعة
والثلاثين، ولم يحضر دفنه ويصلِّي عليه سوى أربعة أشخاص، هم الإمام الشيخ عثمان
العصفور وثلاثة يمنيين. وحتَّى صديقه عبد الله الأنصاريّ، الذي كتب عنه في ما بعد
ذلك الكتاب الذي أشرنا إليه، لم يجرؤ على حضور جنازته. وقد نقل الأنصاريّ، في ما
بعد، عن صديقه الشاعر الراحل، قوله له مراراً: لو كنتُ صاحب جاه أو مال فسيأتون
إلى جنازتي بالطوابير، ولكنَّني لستُ كذلك، فلا أعتقد أنَّ أحداً سيحضر جنازتي،
وأنتَ منهم يا عبد الله!
بالخلاصة..
أفكِّر
في نموذجيْ فهد العسكر وعرار على النحو التالي: في كلّ المجتمعات، وفي مفاصل
تاريخيَّة خاصَّة، تظهر شخصيَّات إبداعيَّة «إشكاليَّة» (إذا جاز لنا أنْ نستخدم
هذا المصطلح الرديء)، فتبدو كما لو أنَّها تمثِّل نوعاً من الشذوذ عن القاعدة؛ حيث
تطرح أفكاراً صادمة، في جرأتها وفي اختلافها، فتُحدِثُ هزَّةً جليَّةً في الواقع
الراكد، كما أنَّ ممارساتها تكون، على الأغلب، من النوع الذي يتعارض بحدَّة مع ما
تعارف عليه المجتمع من ممارسات رسخ في وجدانه ووعيه أنَّها هي وحدها الممارسات
الطبيعيَّة الصحيحة والمقبولة. الأمر الذي كثيراً ما يقود فئاتٍ واسعةً من المجتمع
إلى رفض هذه الشخصيَّات «الشاذَّة»، ورفض أفكارها وممارساتها، وربَّما عزلها
وإلحاق الأذى بها.
غير
أنَّ هذه الصورة خادعة تماماً؛ فغالباً ما تكون هذه الشخصيَّات «الشاذَّة»،
بإنتاجها الإبداعيّ والفكريّ الغريب، هي التعبير الأصدق والأعمق عن «قاعدةٍ» جديدة
تتشكَّل في رحم الواقع القديم. ذلك أنَّ الإنسان المبدع، المرهف، والذكيّ، والمحبّ
للمعرفة، والتوَّاق للحقّ والحقيقة، والمنتمي لمجتمعه وإنسانيَّته بعمق، يستشعر،
قبل سواه وأكثر مِنْ سواه، أشواق الناس من حوله وطموحاتهم وانفعالاتهم وتفاعلاتهم
التي تنمو داخلهم وتتفاعل مع واقعهم ومع همومهم ومطالبهم وتطلُّعاتهم، فيتمثّلها
ويعكسها من خلال سلوكاته وإبداعاته.
وسرعان
ما يصبح «الشذوذ» المرفوض والذي يُواجَه بالصدود والمقاومة هو الوضع الطبيعيّ الذي
ينضوي الجميع في إطاره لاحقاً. ولا تلبث الأجيال اللاحقة، مدفوعةً بتيَّارات
التغيير الكاسحة التي تنتجها الضرورات التاريخيَّة، أن تُخرِج تلك الصورة القديمة
«الإشكاليَّة» من تحت ركام اللعنات والتشويهات والافتراءات التي كانت قد استهدفتها
لسببً وحيد، يبدو غير وجيه لهؤلاء، وهو أنَّها كانت قد سبقت زمانها بقليل (أو
حتَّى بكثير).
وهكذا،
لا تلبث أنْ تتشكَّل مفارقة شائعة جدّاً من مفارقات الزمان؛ إذ يتبيَّن أنَّ
البذرة التي ظنَّ جيلٌ سابق أنَّه قد عزلها وجفَّف نسغها وحال دون نموّها، قد
تغلَّبتْ على كلّ الظروف الصعبة التي واجهتها، وغيَّرت تركيبة التراب والمناخ
المحيطين بها.. ليصبحا ملائمين لها، ثمَّ نمتْ وترعرعت، وأصبحتْ هي الأصل، بعدما
نفتْ نقيضها. بل إنَّ جيل الأبناء والأحفاد الذي عمل الآباء والأجداد على تحصينه
ضدَّها، يكون هو الحاضن لها والراعي لنموَّها والعامل مِنْ أجل ازدهارها.
وبينما
نحن نتلفَّتُ الآن إلى الواقع البائس حولنا، نستعير مِنْ فهد العسكر قوله في إحدى
قصائده:
«يا
قاتَلَ اللهُ التعصّبَ، كم تمخَّضّ عن جريمهْ».
ونفعل
ذلك بينما نحن نتطلّع إلى الأمام إلى الغد لنرى حتميّة بزوغ شمس الحرّيّة
والديمقراطيّة والتحرّر الوطنيّ والعدل الاجتماعيّ والتنوير والتقدّم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تالياً،
فيديو لأغنية شادي الخليج «كُفِّي الملام»، في حفلة له في سينما الأندلس في الكويت
في العام 1963. راجياً الانتباه إلى نمط لبس الفنّان والفرقة الموسيقيَّة كيف كان
في ستينيّات القرن الماضي. وهذا، في حدّ ذاته، يكشف مدى التحوّلات الاجتماعيّة
والثقافيّة المهولة التي طرأت على الحياة العربيّة بعد ذلك بعقود: