سعود قبيلات ▣
قال
أبو تمَّام:
السَيفُ
أَصدَقُ إنباءً مِنَ الكُتُبِ في
حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ
بيضُ
الصَفائِحِ لا سودُ الصَحائِفِ في
مُتونِهِنَّ جَلاءُ الشَكِّ وَالرِيَبِ
ومن
الغريب أنْ يقول هذا الكلام شاعرٌ حرفته الكلام الذي يؤول في النهاية إلى بطون
الكتب. لكن إذا عرفنا السبب، بَطُلَ العجب؛ فالشاعر، هنا، لا يهمّه شيء مثلما
يهمّه رضا صاحب السيف والصفائح البيض (أي الحاكم).. حتَّى لو كان ذلك على حساب
نفسه وحرفته؛ لا لأنَّ الحاكم يملك السلطة المطلقة فقط؛ بل لأنَّه يملك الدراهم أيضاً
ويملك أنْ يقول في لحظة مزاجٍ رائق: يا غلام! أعطه درهم (أو ربَّما ألف أو ألف
ألف.. الخ).
ومع
الأسف، فمثل كلّ جدلٍ آخر في تاريخنا الثقافيّ والسياسيّ، استمرّ جدل السيف
والكتاب منذ قديم الزمان وحتَّى عصرنا الحاليّ؛ مع فارق أنَّه في عصرنا الحاليّ
أصبح يُسمَّى جدل الرصاصة والقلم. حيث يقوم العديد من المثقَّفين والأدباء بتمجيد
الرصاصة على حساب القلم؛ مع أنَّ الرصاصة مِنْ دون الكلمة التي يخطّها القلم..
مِنْ دون الفكرة التي تُبنى بالكلمات، تكون عمياء وعابثة، ويكون مطلقها رجل مافيا
أو مجرماً عاديّاً.
المستهينون
بالكلمة، أو الذين يتعمَّدون التقليل مِنْ شأنها، يفصلون، في العادة، بصورة
تعسّفيَّة، بينها وبين الفعل؛ لأنَّهم يجهلون (أو يتجاهلون) أنَّ الكلمة فعل.
ولذلك، يُجرون دائماً تلك المقارنة التقليديَّة البائسة المصطنعة بينها وبين
الفعل. حيث الفعل، هنا، هو فقط ما يقوم به السيف أو الرصاصة؛ أمَّا الكلمة، فهي لا
شيء، ولا حتَّى مجرَّد خلخلة بسيطة في الهواء.
وممَّا
يثير الانتباه هنا أنَّ بعض المدافعين عن الكلمة يضعونها، هم أيضاً، في مقارنة
خاسرة مع الرصاصة؛ بل إنَّهم لا يجدون ما يكرِّمون به الكلمة ويدافعون به عنها،
سوى وصفها بأنَّها كالرصاصة، أو أنَّها – مع بعض صيغ المبالغة الأدبيَّة – هي
الرصاصة نفسها.
والكلمة
التي أعنيها هنا تتعدَّد وتتنوَّع في أشكالها وأصنافها ووسائل عملها وتأثيرها؛
فالقصَّة كلمة، والقصيدة كلمة، والبيان كلمة، والشعار كلمة، والتحليل كلمة، والتنظير
كلمة، والبرنامج السياسيّ كلمة، والخطاب التحريضيّ كلمة. والمهمّ هو معرفة ما هي
الكلمة المناسبة، وما هو الوقت المناسب لاستخدامها، وبأيّ كيفيَّة يجب أنْ
تُستخدَم.
وممَّا
يؤكِّد عِظَم أهميَّة الكلمة ومدى خطورتها هو أنَّ الحكومات المستبدَّة تبالغ في
العادة في إظهار خشيتها منها، فتتعامل مع أصحابها بمنتهى الشدَّة التي قد تصل
أحياناً إلى حدّ الحكم بالإعدام، أو على الأقل بالسجن لمددٍ طويلة، على قائليها أو
كاتبيها. وهذا بحدّ ذاته يُعتبر شهادة قويَّة لصالح الكلمة.
ولدينا،
الآن، العديد من الوطنيين الشجعان في السجون يدفعون مِنْ أعمارهم أثمان كلماتٍ
حرّةٍ قالوها: علي الدماني، وصبري المشاعلة، ونعيم أبو ردنيّة، وطه الدقامسة، وعلاء
ملكاويّ وآخرون... فهل ثمن كلمات هؤلاء قليل؟ ولو كانت كلماتهم بلا تأثير، فهل
كانت السلطة الحاكمة ستتعامل معهم بكلّ هذه الغلظة؟
ونذكِّر،
هنا، أيضاً، بالشاعر الإسباني العظيم فريدريكو غارسيا لوركا، الذي أعدمه الفاشيّون
إبَّان الحرب الأهليّة في ثلاثينيّات القرن الماضي وهو في أوج شبابه، رغم أنَّه لم
يكن يملك سلاحاً سوى الكلمة. وحتَّى هذه اللحظة لم يعثر أحدٌ على جثمانه أو لحده،
رغم أنَّه أصبح أيقونة إسبانيّة وإنسانيّة.
ونذكِّر،
كذلك، بالحلّاج وابن المقفّع اللذين أُعدما بأبشع الطرق الممكنة على كلمة. مات
جلّادوهما وشبعوا موتاً منذ زمنٍ بعيد. أمَّا هما، فتكتسب كلماتهما، وتكتسب
ذكراهما، حياةً جديةً متألِّقةً على مرّ الزمان.
فلو
كانت الكلمة غير مهمَّة، كما يقال في العادة مِن البعض، لما كان أعداؤها قد خافوا
منها إلى هذا الحدّ واستهدفوا أصحابها بكلّ هذا الحزم وبكلّ هذه الشدَّة.
لكنّ
الكلمة لا تؤتي أُكُلُها مباشرة، على الأغلب، وإنَّما يكون فعلها مشابهاً لفعل عوامل
الطبيعة؛ غير ملحوظ في أثناء أدائه لعمله، ولكنّ أثره، الذي يتراكم مع مرور الزمن،
يكون كبيراً في النهاية، ولا يمكن تجاهله.
وبرأيي،
فرغم ما هو شائع في عالمنا العربيّ مِنْ شكوى نمطيَّة مِنْ كثرة الكلام، فإنَّ دور
الكلمة لدينا لا يزال غائباً تقريباً.. مع الأسف. فهذا الكلام الذي تكثر الشكوى
مِنْه إنَّما هو مِنْ ذلك النمط الذي قال عنه نجيب سرور «كلام مليان كلام فاضي»؛
أكثره ثرثرة وغثاء، وهو في أحسن الأحوال يعبِّر عن انفعالات أوَّليَّة ولا يرتقي
إلى مستوى النظر العميق والوظيفة التنويريَّة.
والطريف،
مع ذلك، أنَّ كثيرين لدينا يردِّدون، باستمرار وبصورة نمطيّة، قائلين: لا نريد
كلاماً، لا نريد تنظيراً، لا نريد شعارات.. بل نريد أفعالاً فقط!
وهؤلاء
هم، عادةً، أكثر الناس اقترافاً للثرثرة؛ بل ليس لديهم ما يفعلونه سواها.
إنَّهم
يريدون أنْ تكون أفعالنا مرتجلة (سبهللة، كما يُقال)؛ فالفعل الذي لا يسبقه نظر
عميق هو فعل ارتجاليّ.. يعتمد على التقديرات السطحيّة والميول الشخصيّة. وهذا، مع
الأسف، هو واقع الحال لدينا. ومع ذلك، يتواصل صياح دعاة الارتجال (سواء وعوا ذلك
أم لم يعوه) قائلين: «بدناش شعارات.. بدناش تنظير».
يغيب
عن هؤلاء أنَّنا حين ننتقل – كما يطلبون – إلى ما يسمّونه «الفعل»، فإنَّ أوَّل ما
نواجهه هو السؤال عن ماهيَّة الفعل المناسب والمطلوب موضوعيّاً في تلك اللحظة
وكيفيّة القيام به والظروف التي يجب أنْ تتهيّأ له. ودور التنظير هو محاولة الإجابة
على تلك الأسئلة الضروريّة.
وهذا
يعني أنَّنا في الواقع إذا ما أردنا أنْ نكون جديّين في مسعانا للعمل، فإنَّنا
سنجد أنفسنا، مباشرة وبشكل ملحّ، أمام الحاجة إلى الكلمة والتنظير والشعار،
لنتمكَّن مِنْ تحديد العمل المطلوب ووضع الخطَّة الملائمة التي تضمن أداءه على
النحو الأنسب وتُوصِلنا في النهاية إلى تحقيق أهدافنا الوطنيَّة والقوميَّة المنشودة.
ولكم
رأينا أنَّه عندما تتضافر الكلمة الصحيحة، المستنيرة، والمعبِّرة عن الواقع
بدقَّة، مع باقي أوجه «الفعل» المقاوم الشجاع، فإنَّ هذا كفيل بتحقيق أعظم
المعجزات.
ولقد
كانت الكلمة دائماً تسبق الثورات وتمهِّد لها وترافقها (الثورة الفرنسيّة والثورة
الروسيّة والثورة الصينيّة والكوبيّة.. الخ). والأمر نفسه ينطبق على حالات التغيير
الجذريّ والنهوض.. على اختلافها.
في
الختام،
آمل أنْ لا يكون كلامي هذا، مِنْ نمط الكلام
الـ«مليان كلام فاضي».