سعود قبيلات ▣
«بدفاعنا عن القدس نحمي الأردنّ»!
تحت
هذا الشعار «الفخم»، دعا «التحالف الوطنيّ لمجابهة صفقة القرن» إلى مسيرةٍ تنطلق
مِنْ أمام الجامع في البلد «بعد صلاة الجمعة 6/12/2019».
«بدفاعنا
عن القدس نحمي الأردن»!
كيف؟
هذا
سؤال مكوَّن مِنْ كلمة واحدة، لكنّه مركَّب ومتشعِّب مِنْ حيث معانيه وأبعاده، إذ:
كيف
ندافع عن القدس؟
هل
أصحاب هذه الدعوة مقتنعون فعلاً بأنَّ مسيرة روتينيّة تنطلق كالمعتاد مِنْ أمام
الجامع لتنتهي بخطب إنشائيّة مكرَّرة عند ساحة النخيل، «ثمّ انصرفوا راشدين»
المعتادة، هي من الأفعال التي تدخل في باب الدفاع عن القدس؟
أم
أنَّ المسألة مجرّد «كفّ عتب» فقط «وكفى الله المؤمنين شرّ القتال»، لينصرف كلُّ
واحدٍ من المتظاهرين بعدها إلى شؤونه الخاصّة وهو مرتاح الضمير وهادئ البال، لأنّه
ساهم في الدفاع عن القدس، بل وحمى الأردنّ أيضاً، ولم يكلِّفه ذلك شيئاً؟
أيُّ
مراقبٍ مدقِّقٍ سيلاحظ أنَّ النظام وقسماً من القوى الحزبيّة يتنافسان بـ«فروسيّة»
في هذا الميدان.. ميدان الخطاب الإنشائيّ في نُصرة فلسطين. لكن، ما إنْ يخرج أحدٌ
عن هذا النطاق، بأيّ شكلٍ من الأشكال، وسواء أكان ذلك في خدمة القضيّة الفلسطينيّة
أم في خدمة القضيّة الأردنيّة (وهما قضيّة واحدة، بالمناسبة، أساسها وعد بلفور)،
فإنَّ الحال يختلف تماماً، وتتغيَّر نوعيّاً ردّة فعل النظام.
وفي
ما يخصّ مكان الاحتجاج على «إعلان ترامب المشؤوم»، هل توجد ممثِّليّة أو سفارة
لترامب في المسافة الواقعة ما بين الجامع وبين ساحة النخيل ليجري الاحتجاج هناك
على هذا الإعلان؟! أم أنَّ مُسيِّري المسيرة لا يعرفون موقع السفارة الأميركيّة؟!
عندما
أعلن ترامب إعلانه المشؤوم ذاك، سُيِّرتْ مسيرتان؛ واحدة سيَّرها «الإخوان
المسلمون» بين الجامع وبين النخيل، وواحدة سيَّرتها الأحزاب اليساريّة والقوميّة
وقوى سياسيّة وطنيّة أخرى (وشاركنا فيها)، وقد سارت باتّجاه السفارة الأميركيّة
واقتربت منها. الشّبّان الذين كانوا يقودون هذه المسيرة الأخيرة وينظّمون هتافها،
تمّ اعتقالهم. وهذا يكشف أيّ المسيرتين كانت هي الجدّيّة والتي أوصلت رسالتها
وأوجعت.
اختيار
«الإخوان المسلمين» - آنذاك – منطقة الجامع وساحة النخيل، بدلاً من السفارة
الأميركيّة، مكاناً لاحتجاجهم على قرار ترامب العدوانيّ، لم يكن مجرّد سوء تقدير؛
فعندما كانوا ينظِّمون احتجاجاتهم ضدّ سوريا أو مصر، كانوا يفعلون ذلك عند سفارتيْ
هذين البلدين.
مسيرة
اليوم تؤكِّد أنَّه كلّما تعلَّق الأمر بالاحتجاج على أفعالٍ عدوانيّة للولايات المتّحدة،
تتغيَّر كلّ تقاليد الاحتجاج وأصوله المعروفة، لدى «الإخوان» والمتعاونين معهم، فيختارون
أيَّ مكانٍ آخر للاحتجاج عنده سوى السفارة الأميركيّة.
وفي
إعلانٍ آخر يقول مسيّرو المسيرة: «القدس عاصمتنا.. صفقة القرن لن تمرّ».
صفقة
القرن مرَّ قسمٌ كبيرٌ منها. وعلى سبيل المثال: تشريع «يهوديّة الدولة» الصهيونيّة،
وإعلان القدس عاصمة أبديّة للكيان الصهيونيّ، واعتبار المستوطنات في الضفّة
الغربيّة شرعيّة. ومن المنتظر أنْ تقوم واشنطن بتأييد ضمّ الأغوار نهائيّاً إلى الكيان
الصهيونيّ. ولا يبقى، بعد ذلك، سوى إبرام إجراءات التوطين الدائم للّاجئين في
الأردنّ ولبنان ودول عربيّة أخرى. وهذه العمليّة ترتيباتها تجري على قدمٍ وساق.
فما
الذي فعلتموه في مواجهة هذه الخطوات العدوانيّة السافرة، لكي تقولوا بثقة: «صفقة
القرن لن تمرّ»؟!
هل
هو هذه المسيرة الموسميّة الفلكلوريّة ما بين الجامع وبين ساحة النخيل؟!
إذاً،
«أبْشِرْ بطولِ سلامةٍ يا مربع»؛ كما قال شاعرنا القديم جرير.
ونعود
إلى شعار «بدفاعنا عن القدس نحمي الأردنّ»! هذا الشعار، حتَّى لو تجاوزنا عن عدم
جدّيّته، إنَّما هو شعار مقلوب أو معكوس؛ فكيف ستخوضون معاركاً خارج الحدود إذا
كانت جبهتكم الداخليّة التي تقفون فيها منقسمة ومتهالكة ومدمَّرة ويكاد أنين الناس
فيها أنْ يبلغ السماء؟!
كيف
ستدافعون عن القدس بينما البلاد التي أنتم موجودون فيها تعاني من الإفقار
والديكتاتوريّة (ديكتاتوريّة الحكم الفرديّ المطلق) وتمادي النظام في تطبيق
الإجراءات القمعيّة العرفيّة وقوانين تكميم الأفواه التي تصادر حرّيّة التعبير وبموجبها
يوضع العديد من الوطنيين الأحرار (الذين قلوبهم على القدس أيضاً) في السجون؟
كيف
ستدافعون عن القدس والنظام الذي يحكم البلاد، التي تُسيِّرون فيها مسيرتكم، هو
نظام تابع ووظيفيّ.. وظيفته الأساسيّة منذ مئة سنة مرتبطة تحديداً بتنفيذ وعد
بلفور؟
أتذكَّر
الأديب والمسرحيّ المصريّ الكبير الراحل نجيب سرور وهو يتكلّم عن «كلام مليان كلام
فاضي».
الناس
التي خرجت إلى الشوارع في المحافظات وعند الدوّار الرابع، لم تغب عن مسيراتها
ووقفاتها شعارات الدفاع عن القدس وعن فلسطين. وكانت في فعلها النضاليّ جادّة وتذهب
إلى الأماكن الصحيحة وترفع الشعارات الدقيقة. ولكنّ معظمكم خذلها ولم يكلِّف نفسه
حتَّى عناء المشاركة الرمزيّة فيها أو إعلان تضامنه معها وتأييدها ودعمها.. ولو مِنْ
بعيد.
عشرات
الوطنيين الأحرار، الذين وقفوا في وجه الديكتاتوريّة والتبعيّة والفساد والاستبداد
وضدّ الحلول الاستسلاميّة للقضيّة الفلسطينيّة وضدّ التطبيع وضدّ علاقات النظام
بالعدوّ الصهيونيّ، موجودون الآن في السجون.. فماذا فعلتهم مِنْ أجلهم؟ أين هي
الحملات المنسَّقة والمنتظمة والمكثَّفة التي أقمتموها مِنْ أجل إطلاق سراحهم؟
هذا
هو الفعل الجدّيّ والحقيقيّ الذي يمكن أنْ ينصر القدس وقضيّة فلسطين، وما عدا ذلك
مجرّد كلام. لكنَّكم تصرّون على اجتناب الفعل الحقيقيّ وتبحثون عن فعاليّات شكليّة
باهتة تتلهّون بها وتبرِّئون أنفسكم من التقصير في الاضطلاع بمسؤوليّاتكم والقيام
بواجباتكم.
البلاد
مدمَّرة وتسير إلى الهاوية، وأنتم تقولون: «بدفاعنا عن القدس نحمي الأردنّ». أيّ
أردنّ هذا الذي تحمونه؟ اُنظُروا حولكم لتروا الصورة الحقيقيّة للأوضاع على الأرض
التي تتحرّكون عليها.
لو
فعلتم ذلك، لأصبح شعاركم هو: «بإنقاذ الأردنّ ننصر فلسطين»، ولأصبح فعلكم مختلفاً،
ولرأيناكم تحشدون محازبيكم وأنصاركم بكثافة على «الدوّار الرابع».. وفي مقدّمتهم قادتكم،
لنعمل جميعاً مِنْ أجل رصّ صفوف الشعب الأردنيّ، ونعبِّر عن مطالب القطاعات
الشعبيّة المظلومة والمقهورة فيه.. كلّها، ونعمل مِنْ أجل إنهاء التبعيّة والدور
الوظيفيّ للنظام، وتخليص الأردنّ من الهيمنة الصهيونيّة، وإجراء تحوّلات
ديمقراطيّة عميقة في البلاد، وإطلاق عجلة التنمية الوطنيّة، وتحقيق العدالة
الاجتماعيّة.. إلى آخر الأهداف والمطالب الوطنيّة التي تعرفونها وتقفزون عنها.
عندئذٍ،
نسير في الطريق الصحيح؛ وعندئذٍ، يكون صوتنا قويّاً في الدفاع عن فلسطين كلّها
(وليس القدس وحدها) ولا يستطيع أحد أنْ يستهين بفعلنا أو يتجاهله.
يجب
أنْ نكفّ عن مجاملة بعضنا البعض؛ فبلادنا (الأردنّ وفلسطين) تضيع، ونحن لا نفعل
شيئاً جدّيّاً للدفاع عنها. وإذا ما ظلّ فعلنا يراوح عند هذا المستوى البائس،
فسنخسر جميعاً، وبعدها لن ينفع الندم.
في
الختام،
وما
دام الأمر مجرّد كلام في كلام..
أقول
قولي هذا وأستغفرُ الله لي ولكم، و«انصرفوا راشدين».