أتناول، في هذا الموضوع، قصَّة* ذات إيحاءات مهمّة ومحفِّزة
للتفكير عن الريف المغربيّ، وهي للكاتب والموسيقيّ الأميركيّ بول بولز الذي
أمضى معظم حياته (ما يُقارب 52 عاماً) في المغرب العربيّ إلى أنْ توفِّي هناك في
العام 1999.
وُلِدَ بولز في مدينة نيويورك في العام 1910. وفي
العام 1931 زار مدينة طنجة للمرَّة الأولى بتوصية من الأديبة الأميركيّة جيرترود شتاين التي كانت مقيمة في فرنسا. بيد أنَّه لم يتَّخذ المغرب
مكاناً نهائيّاً للعيش إلا ابتداءً من العام 1947.
ولبولز العديد من الأعمال التي
اكتسبتْ شهرة، وبعضها حُوِّل إلى فيلم سينمائيّ؛ مثل روايته «شاي الصحراء»، التي
أخرجها سينمائيّاً المخرج الإيطاليّ برنارد برتولوتشي، وكذلك روايته «السماء
الواقية». ومِنْ أعماله الأخرى «بيت العنكبوت»، ومجموعته القصصيَّة «حادث بعيد»
التي تضمّ القصَّة التي نحن بصددها. ومعظم أعمال بولز تدور أحداثها في
المغرب العربيّ. ولكنّه، رغم إقامته الطويلة في المغرب، لم يتعلّم اللغة العربيّة
وظلّ يكتب بالإنجليزيّة للناس الذين هجرهم وليس للناس الذين اختار أنْ يمضي حياته
بينهم.
وتُصوِّر قصّة «حادث بعيد» ما رأى كاتبها أنَّه تصادم
ثقافيّ شديد القسوة لاحتكاك الإنسان الغربيّ المتحضِّر بالثقافة البدائيَّة التقليديَّة
للشرق؛ فتتحدَّث عن باحث أجنبيّ في اللغات (تسمِّيه القصَّة «الأستاذ»)، عاد
لزيارة قرية عين تادورت في الريف المغربيّ. ونفهم مِن السياق أنَّه كان قد زار تلك
المنطقة للمرَّة الأولى قبل عشر سنوات وأمضى فيها آنذاك ثلاثة أيَّام تعرَّف خلالها
على صاحب مقهى هناك اسمه «حسان راماني» وأنشأ معه «صداقة وطيدة بعض الشيء»!
عندما يصل «الأستاذ» بالحافلة إلى القرية في زيارته
الثانية، يضع حقائبه في فندق صغير اسمه «جراند أوتيل ساهريان»، يغتسل ويتناول
عشاءه، ثمَّ ينطلق باتِّجاه مقهى حسان راماني. ومنذ دخوله المقهى تتكشَّف لنا
شخصيَّته عن نوعٍ مِنْ حبّ المغامرة وركوب الخطر: «كانت الحجرة الخلفيَّة
بالمقهى تتدلَّى فوق النهر على نحوٍ خطير. كان المدخل شديد الانخفاض فاضطرَّ إلى
الانحناء قليلاً كي يدخل منه. أبصر رجلاً يتولَّى إشعال النار وزبوناً يرشف الشاي.
حاول القهوجيّ أنْ يُجلِسه إلى مائدة قائمة بالحجرة الأماميَّة، غير أنَّ الأستاذ
سار قدماً بخطوات غير عابئة صوب الحجرة الخلفيَّة واتَّخذ مجلسه».
وسرعان ما يكتشف، بعد محادثة قصيرة مع القهوجيّ، أنَّ
صديقه القديم حسان راماني، صاحب القهوة، قد توفِّي. بعد ذلك يكشف «الأستاذ» عن نوع
غريب من الشغف؛ إذ يسأل القهوجيّ عن ما إذا كان لا يزال بالإمكان «الحصول على تلك
العلب المصنوعة من ضروع الجمال؟»!
وهنا، تكتسي ملامح القهوجيّ تعبيراً غاضباً، ولا نعرف
لماذا، ثمَّ لا يلبث أنْ يقول بلغة فرنسيَّة مكسَّرة: «أحياناً ما يُحضر أفراد
قبيلة الرقيبات تلك الأشياء. نحن لا نبتاعها هنا».
بعد ذلك، يدخل الاثنان في نوع من المساومة التجاريَّة
البحتة؛ إذ يقول «الأستاذ» إنَّه سوف يدفع مقابل كلّ علبة يأتيه بها القهوجيّ عشرة
فرنكات، بينما يطلب القهوجيّ خمسة عشر فرنكاً. وفي النهاية يستسلم القهوجيّ،
قائلاً: «لا يمكن. لكن اِنتظرْ حتَّى وقت لاحق وتعال معي. تستطيع أنْ تعطيني ما
تشاء. وستحصل على علب ضروع الجِمال إنْ وجدناها».
لقد أفَضْتُ قليلاً في إعادة سرد هذا الجزء من القصَّة،
لأنَّ كلَّ ما سيحدث فيها لاحقاً مبنيّ عليه؛ وأيضاً لأوضِّح كيف أنَّ المغامرة
الصعبة اللاحقة لـ«الأستاذ» قد تمَّ تبريرها بسببٍ غير مقنع. إنَّ البحث عن هذه
العلب الغريبة إنَّما هو ذريعة فنّيّة للوصول إلى تلك الحالة المتطرِّفة من
الاحتكاك «الثقافيَّ»، التي سنراها لاحقاً. ولكنَّها ذريعة ضعيفة فنيّاً ومنطقيّاً،
والكاتب يدرك ذلك في ما يبدو؛ حيث نجد «الأستاذ» يسأل نفسه، بينما هو يشرع في
المغامرة، «عن سبب إقدامه على هذا العمل اللاعقلاني لكنَّه كان من الذكاء أنْ
يعلم أنَّه طالما يقوم به بالفعل فليس من المهمّ تحرِّي التفسيرات في ذلك الحين».
المسافة المكانيَّة التي يقطعها «الأستاذ» بعد ذلك قصيرة
جداً بكلّ المقاييس؛ إذ قاده القهوجيّ بعد انتهاء عمله، تحت ضوء القمر، حتَّى
أطراف القريَّة، حيث تبدأ الصحراء. وكان «الأستاذ»، خلال تلك الرحلة القصيرة،
مشتَّت الذهن، تسيطر عليه مشاعر الخوف والقلق والشكّ بنوايا مرافقه والتردّد والتفكير
بالعودة مِنْ حيث أتى؛ لكنَّه، رغم ذلك كلِّه، اختار مواصلة الرحلة.. لماذا؟ مِنْ
أجل العلب المصنوعة مِنْ ضروع الجِمال!
أمَّا المسافة الزمنية لهذا الانتقال ما بين هذين المكانين
المتقاربين فهي كبيرة جدّاً، رغم قصر الوقت الذي استغرقته الرحلة فعليّاً. فقد ترك
القهوجيّ «الأستاذ» على حافَّة جرفٍ عميق عند أطراف القرية، وعاد راضياً بما حصل
عليه مِنْ أجر. ولكن، بعد ذلك، سرعان ما انتقل حساب الرحلة من القياس المكانيّ إلى
القياس الزمنيّ، وهنا ازداد البون اتِّساعاً – كما أشرنا – على نحوٍ يصعب
استيعابه.
ولقد راودته، لمرَّةٍ أخيرة، «رغبة عنيفة في أنْ يعدو
راجعاً»، بيد أنَّه، بدلاً مِنْ ذلك، اختار، «البدء في نزول الطريق نحو الهوَّة».
وكان طريقه ذاك يتَّسم بالضيق وشدَّة الانحدار.
وعندما أصبح في أسفل الجرف الضخم، خطر له أنْ يسأل نفسه
السؤال الذي سبق أنْ أشرنا إليه «عن سبب إقدامه على هذا العمل اللاعقلانيّ». ولكنَّ
الراوي يتطفَّل هنا ويقدِّم لنا حجَّةً واهية: «كان من الذكاء أنْ يعلم أنَّه
طالما يقوم به بالفعل (العمل اللاعقلانيّ) فليس من المهمّ تحرِّي التفسيرات حينذاك»!
إنَّه بكلماتٍ أخرى، شخص مسلوب الإرادة؛ يتحرَّك بضغط
دوافع لاعقلانيَّة. وبرأيي، فهذه الدوافع اللاعقلانيَّة هي نفسها في الحقيقة التي
حرَّكت الكاتب لاختلاق تلك المغامرة القصصيَّة الأنثروبولوجيّة القاسية.
يبدو الأمر كما لو أنَّ للكاتب حساباً يريد أنْ يصفِّيه،
وهو حسابٌ ثقافيّ كما هو واضح.
ولكن، مع أيّ ثقافة؟
هل هي ثقافة الكاتب الأصليَّة المنتمية إلى مراكز النظام
الرأسماليّ الدوليّ؟
أم الثقافة الأخرى التي اختار أنْ يحتكّ بها معظم حياته والتي
تنتمي إلى هوامش النظام الرأسماليّ الدوليّ؟
أم معهما كلتيهما؟
سرعان ما وجد «الأستاذ» نفسه فريسة لكلاب قبيلة الرقيبات
ورجالها. وهي، كما نفهم من القصَّة، قبيلة متخصِّصة بالسرقة وقَطْع الطرق. نهشته
الكلاب وضربه الرجال بقسوة وقيَّدوه وأخذوا ماله ثمَّ نزعوا لسانه. وبعد ذلك،
وضعوه في كيس وربطوا الكيس على جانب أحد جِمالهم. وعندما وصلوا إلى أحد مخيَّماتهم
ربطوا مجموعة مِنْ قيعان علب الصفيح بعضها ببعض ثمَّ ربطوها جميعاً بما تبقَّى عليه
مِنْ ملابسه. وراحوا ينظرون إليه، فيضحكون مِنْ منظره ويسخرون.
شُفِيتْ جروحه في ما بعد، فراحوا ينقلونه معهم بالطريقة
نفسها في ترحّلهم الدائم مِنْ منطقة إلى أخرى. ثمَّ ما لبثوا أنْ حوَّلوه إلى
مهرِّج؛ «يرقص حين يُؤمر في وثبات لا معنى لها صعوداً ونزولاً»، وكان ينام بين
الجِمال في قيظ النهار. وكانت القبيلة تتجنَّب في تنقّلها كلَّ مراكز الحضارة.
وعندما استقرَّ القوم أخيراً في إحدى الواحات، قرَّروا
بيع ملكيَّتهم (الأستاذ) للطوارق في نوجارا. ولكنَّهم لم ينفِّذوا قرارهم ذاك إلا
بعد عامٍ كامل؛ حيث أحسنوا تدريبه على الحركات البهلوانيَّة؛ فأصبح «يستطيع أنْ
يتشقلب في الهواء ويصطنع أصواتاً مزعجة هادرة مخيفة تلوَّنتْ رغم ذلك بشيءٍ من
الفكاهة»، ثمَّ أصبح أيضاً «يستطيع أنْ يلوي قسمات وجهه لوياً رائعاً وهو يرقص. علَّموه
كذلك القليل من الإيماءات البسيطة الفاحشة التي لم تخفق مرَّة في انتزاع صرخات
مبتهجة من النساء. أصبح الآن يخرج إلى الجمهور بعد الوجبات العامرة فقط خاصَّة
حينما تعلوا الموسيقى ويبدأ الاحتفال. توافق بسهولة مع إحساسهم بالطقوس فطوَّر
"برنامجاً" أوليّاً ليقدِّمه عند استدعائه: كان يرقص ويتدحرج على الأرض
ويحاكي حيوانات معيَّنة ثمَّ ينتهي به الأمر إلى أنْ يندفع صوب المجموعة متظاهراً
بالغضب ليشهد ما ينجم من اضطراب وقصف».
بعد ذلك، أخذوه إلى فوجارا لبيعه للطوارق؛ حيث اشتراه
أحد القرويّين وحبسه في حظيرة بعيدة عن فناء بيته. في اليوم التالي جاء رجال «بينهم
سيِّد جليل أحسنهم ملبساً حتَّى أنَّ أولئك الآخرين أمضوا الوقت في مداهنته طابعين
على يديه وحواشيه قبلات حارَّة». وكان هذا «السيِّد الجليل» يصرّ على التحدّث
بالفصحى، قائلاً: «ربَّما بطريق "عين صلاح"، الفرنسيّون هناك مبتلون
بالغباء. الانتقام الإلهيّ وشيك. دعونا لا نتعجّله. سبِّح باسم ربِّك الأعلى والقِ
بلعنتك على الأصنام. واروا وجهه بالألوان فيما لو رغبتْ الشرطة في التقصِّي».
ويفسِّر الراوي إصرار «السيّد الجليل» على التحدّث بالفصحى
بأنّه تعبيرٌ عن الرغبة في التأثير بقوَّة على الرجال الآخرين
يطلب المالك الجديد لـ«الأستاذ» منه أنْ يقدِّم أمام
أولئك الرجال عرضه المعتاد الذي حدَّثه عنه الباعة مِنْ عشيرة الرقيبات ولكنَّه
يرفض. وعندئذٍ ينفضّ الرجال ويغضب المالك ويضرب «ملكيَّته» بقسوة ويغلق عليه الباب
ويخرج في إثر أفراد عشيرة الرقيبات فيقتل أحدهم في فراش إحدى المومسات انتقاماً
مِنْ غشّهم له وإحراجه أمام الرجال الآخرين. تهرع المومسات إلى الشرطة الفرنسيَّة ويُبلِغن
عن الجريمة التي حدثتْ في مضاجعهن. تبحث الشرطة عن القاتل وتتمكَّن «خلال ساعة» من
القبض عليه وتجرجره إلى ثكنتها.
بعد يومين من البقاء مِنْ دون طعام، يأخذ «الأستاذ»
بالتجوّل في الفناء والغرف المطلَّة عليه، فيكتشف أنَّ لا أحد في المكان. وعندئذٍ «أحدقتْ
به رغبة في البكاء؛ رغبة في الهدير في أرجاء المنزل الصغير، ودَّ لو يقلب الأشياء
القليلة القابلة للكسر ويهشِّمها. لم تتجاوز عاطفته هذه الرغبة الوحيدة الكاسحة».
لا بدّ من التوقّف هنا: «لم تتجاوز عاطفته هذه الرغبة
الوحيدة الكاسحة»؛ فهذه العبارة مُقحمة بصورةٍ فجّة، مِنْ خارج السياق
الفنِّيّ، لتستدعي قولاً مُضمَراً هو: رغم كلّ ما جرى له مِنْ فظائع؛ ولتستدعي أيضاً
صورة نقيضة مُضمَرَة تتمثَّل بذلك القرويّ المغربيّ الذي لم تشفِ غليله إلا استباحة دم أحد رجال
قبيلة الرقيبات لأنَّه ظنَّ أنَّهم غشّوه عندما باعوه «الأستاذ» الذي بدا له
أخرقاً.. بخلاف زعمهم بأنَّه ماهر في اللعب كبهلوان!
بعد ذلك، يتَّجه «الأستاذ» إلى البوَّابة فيكسرها ويخرج
إلى الشارع قاصداً مدخل البلدة، حيث يثير منظره الغريب فضول بعض المارَّة. وحينما
يتجاوز آخر مبنىً باتِّجاه الصحراء يراه جنديّ فرنسيّ (وهذه هي المرَّة الثالثة
التي تشير فيها القصَّة إلى الوجود الفرنسيّ في المغرب)، فيقول الجنديّ لنفسه: «يا
له مِنْ درويش!»، ويسدِّد طلقةً بجانب رأس «الأستاذ» «جَلْبَاً للحظّ السعيد».
ويهرول «الأستاذ» بمحاذاة طريق «عين صلاح»، الذي سبق ذكره في كلام «السيِّد الجليل»
المتحدِّث بالفصحى، إلى أنْ يختفي.
القصَّة مكتوبة في نيويورك في العام 1945. ومعروف أنَّ بولز
بعد هذا التاريخ بسنتين تقريباً انتقل للعيش نهائيّاً في المغرب. فهل كان قراره الانتقال
إلى المغرب معادلاً، في لاوعيه، لمغامرة «الأستاذ» في قصّته؟
على أيَّة حال، تبدو صورة المغرب (الشرق)، كما رأيناها
في هذه القصَّة، صورة استشراقيَّة نمطيَّة. ولقد تمَّت التضحية – كما رأينا – حتَّى
ببعض شروط القصّ العاديَّة مِنْ أجل اختلاق مغامرة احتكاك ثقافيّ قاسية جدّاً لتخدم
هذه التصوّرات الاستشراقيّة الزائفة!
في القصّة، يشير الراوي إلى أنَّ أفراد قبيلة الرقيبات
كانوا يتحاشون المراكز الحضريّة. ولكن ليس أفراد قبيلة الرقيبات وحدهم فعلوا ذلك؛
فالكاتب نفسه أيضاً تحاشى في سرده جميع المراكز والمظاهر الحضريَّة في المغرب (سوى
بعض الإشارات الباهتة؛ مِنْ مثل وجود فندق باسم أجنبيّ في تلك القرية المغربيَّة
النائية على تخوم الصحراء؛ ما يشي بوجود اتِّصال منتظم ووثيق بالعالم الخارجيّ
وبالأمم الأخرى حتَّى في ذلك المكان النائي). وبدلاً مِنْ ذلك، وضع في صدارة الصورة
التي نقلها إلى قرائه بعض القبائل المغربيَّة البدائيَّة المترحِّلة التي تعتمد في
معيشتها على النهب والسلب والعنف.
وقد خلتْ الصورة تماماً مِنْ مشهد الاحتلال الفرنسيّ
الذي كان جاثماً على صدر الشعب المغربيّ آنذاك، ما عدا تلك الإشارات الثلاث
الباهتة للفرنسيّين التي أوردناها في سياق عرضنا للقصَّة. وهي إشارات تتعامل مع
الاحتلال كوجود عاديّ طبيعيّ؛ هذا إذا لم نقل إنَّها تمنحه بعض الملامح
الإنسانيَّة الإيجابيَّة التي تميّزه عن الوسط البدائي المتوحِّش المحيط به كما هو
في القصَّة. فنحن نرى الجنديّ الفرنسيّ في إحدى هذه الإشارات كمدافع عن القانون
والحقّ الإنسانيّ في الحياة في مواجهة النزعة البدائيَّة العنيفة للانتقام لدى ذلك
القرويّ المغربيّ.
ووجود الاحتلال في أيّ بلد من البلدان ليس بالأمر الثانويّ
أو الهيِّن الذي يمكن تجاهله عند الحديث بموضوعيَّة عن ذلك البلد أو الكتابة عنه.
فالاحتلال أمر مركزيّ لا يمكن إلا أنْ تتمحور حوله كلّ تفاصيل الحياة الاجتماعيَّة
والسياسيَّة والاقتصاديَّة (والثقافيّة أيضاً) في أيّ بلد يُبتلى به (أو حتَّى يقترفه).
وتجاهله هو بحدّ ذاته تعبير عن موقف سياسيّ وأيديولوجيّ متعاطف معه، مِنْ حيث هو
يتستَّر عليه.
ويزيد الطين بلّة، بالمقابل، أنَّ القصَّة التي
استعرضناها اعتنتْ كثيراً برسم صورة سلبيَّة للشعب المغربيّ ولم تشر ولو إشارة
عابرة إلى مقاومته المعروفة للاحتلال الفرنسيّ؛ لا بل قرأنا على لسان ذلك «السيِّد
الجليل» المغربيّ كلمات تنمّ على تعصّب دينيّ ضدّ الفرنسيّين غير مبرَّر في سياق
القصَّة. إذاً فالمشكلة هي فقط في التعصّب الدينيّ وليست في الاحتلال والتناقض
الوطنيّ (والطبقيّ) معه!
وأنا هنا لا أستطيع أنْ أجزم بنفي وجود ظواهر سلبيَّة، كتلك
التي تحدَّثتْ عنها القصَّة، في المغرب في تلك الفترة. ولكن هل كانت تلك الظواهر هي
الأمر الجوهريّ في سمات وحياة المجتمع المغربيّ آنذاك؟ أعود فأشير هنا إلى واقع
الاحتلال والمقاومة الموجّهة ضدّه باعتبارهما هما الأمر الجوهريّ بدلاً مِنْ ذلك.
الكتابة القصصيَّة (والروائيّة أيضاً) انتقائيَّة، وبهذه
الطريقة يوصل الكاتب فكرته إلى القارئ، ويُعبِّر عن مكنونات لاوعيه. ولكن هذه الانتقائيَّة
ليست بلا قوانين وضوابط فنّيّة.
وبالتالي، فإنَّ أسوأ القصص في العادة هي تلك التي
يدَّعي أصحابها بأنَّها حقيقيَّة حدثتْ بالفعل. حيث أنَّ الكاتب، في مثل هذه الحالة،
يشعر في أعماق نفسه بأنَّ قصَّته ضعيفة فنّيّاً، فيسعى إلى تعويض ضعفها بعوامل
قوَّة مفترضة يقحمها عليها مِنْ خارجها. أي بالقول الساذج بأنَّ هذا ما حدث فعلاً
وعليكم أيَّها القراء أنْ تتقبَّلوه كما هو. وهو يجهل هنا، أو يتجاهل، أنَّ
القصَّة حتَّى إنْ كانت تتناول واقعة حدثتْ فعلاً فهي تتناولها مِنْ زاوية نظر
راويها أو كاتبها الذي يقوم في أثناء روايته لها بإبراز بعض العناصر وطمس عناصر
أخرى، ويلقي ضوءاً على بعض الظروف المتَّصلة بتلك الواقعة ويتجاهل سواها، وهو
ضمناً يحاول أنْ يعبِّر مِنْ خلال هذه العمليَّة عن فكرة محدَّدة خاصَّة به، بل
إنَّ روايته للقصَّة لا تكتسب شرعيَّتها إلا بانطوائها على مثل هذه الفكرة. وهذا طبعاً
عدا عن البعد المتعلِّق باللاوعي.
ما يعني أنَّه لكلّ حادثة عدد من الروايات بعدد رواتها
وبعدد الأفكار المراد التعبير عنها وبتنوّع تجلِّيات اللاوعي مِنْ خلالها. وبالتالي
فلا وجود فعليّاً لما يسمَّى قصَّة حقيقيَّة. وعدا عن هذا فالحقيقيّ قد لا يكون
واقعيّاً، والواقعيّ قد لا يكون حقيقيّاً. بل إنَّ الصورة الفانتازيَّة في الأدب
قد تعبِّر عن حالة واقعيَّة تماماً في حين أنَّ الصورة الفوتوغرافيَّة (في الأدب وفي
الكاميرا أيضاً) قد لا تمثِّل الواقع في شيء.
إنَّ القصَّة تكون صادقة وجيِّدة بمقدار إخلاصها في
التعبير عن الواقع.. وخصوصاً عمَّا هو جوهريّ فيه، وعن عناصره ومحدِّداته
واتِّجاهاته وتناقضاته وصراعاته. وليس المقصود هنا تحديد مجرى معيَّن للكتابة، بل،
على العكس مِنْ ذلك، الحيلولة دون أنْ تكون الكتابة وسيلة للتعبير المباشر عن موقف
أو تفكير نمطيّ مُقحم عليها وعلى حركة الواقع الذي هو في الأصل شديد الغنى
والتنوّع.
اكتسب بول بولز مِنْ إقامته الممتدّة في طنجة في
المغرب، واغترابه الطويل عن محيطه وعن ناسه الذين غادرهم، مسحةً أسطوريّة خاصّة. وقد
لفتَ نظري أنَّه بعد مدّة طويله مِنْ عيشه في المغرب، قال في حوار أجرته معه جريدة
نيويورك تايمز في العام 1995 (قبل أربع سنوات مِنْ وفاته) إنَّ شخصيته خيالية تنزلق في
الحياة لكن مِنْ دون أن تلمس أيّ شيء.
وبعد..
فبينما كان «الأستاذ» (في قصّة «حادث بعيد») هو في
الظاهر مَنْ تحوَّل إلى أراجوز يتسلَّى به أفراد عشيرة الرقيبات وبعض القرويّين في
الصحراء المغربيَّة، فإنَّنا إذا أمعنَّا الفكر نكتشف، بخلاف ذلك، أنَّ الكاتب
بنظرته الاستشراقيَّة النمطيَّة قد حوَّل شعباً كاملاً إلى أراجوز يؤدِّي «حركات»
غريبة مدهشة تستثير خيال القارئ الغربيّ وتشبع نزوعه إلى المغامرة وإلى الحياة
البدائيَّة المغايرة والعنيفة والمثيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*منشورة
في نشرة «البوتقة» الأدبيَّة الإلكترونيَّة، المتخصَّصة بترجمة الأدب المكتوب
باللغة الإنجليزيَّة – العدد السادس – أيلول 2006 – ترجمة: هالة صلاح الدين حسين.