سعود قبيلات ▣
طلب معلِّمٌ، في إحدى القرى، مِنْ أحد تلاميذه، أنْ يذكر
له أسماء عددٍ من العظماء؛ فما كان من التلميذ إلا أنْ ذكر أسماء بعض الرجال
المميَّزين في قريته. فوجئ المعلِّم بإجابة تلميذه ورآها دليلاً على ضيق أفقه
وبلاهة تفكيره، وراح يقرِّعه ويسخر مِنْه أمام زملائه، ثمَّ حوَّل الأمر برمَّته
إلى نكتةٍ يرويها لزملائه المعلِّمين الآخرين في المدرسة ولأصدقائه ومعارفه. وكذلك
فعل التلاميذ الآخرون مِنْ زملاء التلميذ صاحب تلك الإجابة غير المألوفة.
ولا أعرف ما إذا كانت إجابة ذلك التلميذ قد جاءت منه عن
وعيٍ وقصدٍ أم أنَّها جاءت ببساطة وعفو الخاطر. فإنْ كانت قد جاءت عن سابق وعيٍ
وقصد، فهي إنَّما تشير بوضوح إلى إنسانٍ يمتلك وعياً جنينيّاً بقيمة الإنسان بما
هو إنسان لا بما يملكه أو بما يستمدّه مِنْ خارجه.
ولا أعني هنا بالإنسان نوعاً من الإنسان المجرَّد؛ أي
الإنسان خارج شروط وجوده الاجتماعيّ؛ أي الإنسان الذي لا وجود له في الواقع؛ بل
أعني الإنسان الحقيقيّ المتعيِّن في تشكيلة اجتماعيَّة اقتصاديَّة محدَّدة، والذي
يعي، أو على الأقل يتلمَّس، شروط وجوده الاجتماعيّ ولكنَّه يتمرَّد عليها. وقد يبدو
صراعه ضدَّها دونكوشوتيّاً؛ فيه الكثير من الحنين إلى الماضي الآفل؛ إلا أنَّه في
الكثير من الأحيان يؤشِّر بشكل حقيقيّ إلى اتِّجاهات المستقبل وآفاق تطوّره
الضروريَّة نحو التحرّر مِنْ شروط المجتمع الطبقيّ ومواضعاته.
إنَّ سلوك الإنسان في مثل هذه الحالة إنَّما هو تعبير عن
أشواقه الكامنة، بل وأيضاً عن الأشواق الكامنة في باطن التشكيلة الاجتماعيَّة
ككلّ، لتجاوز اللحظة الراهنة (الفرديَّة والاجتماعيَّة) نحو طورٍ تاريخيٍّ أعلى؛
أكثر تحرّراً وأكثر إنسانيَّة؛ أعني أكثر انسجاماً مع الشرط الإنسانيّ.
وهنا، أودّ أنْ أستعير مفهوم ماركس الشهير عن الطبقة
العاملة بذاتها والطبقة العاملة لذاتها ـ حيث الانتقال من الحالة الأولى إلى
الحالة الثانية مشروط بامتلاك وعي الذات وإدراك مصالحها – لأستخدم مفهوم الإنسان
لذاته في وصف الإنسان الذي يمتلك وعياً كافياً بشرطه الإنسانيّ ويتصرَّف وفق
مقتضياته، وأستخدم مفهوم الإنسان بذاته لوصف الإنسان الذي لا يمتلك مثل هذا
الوعي ويخضع بالكامل لشروط المجتمع الطبقيّ ومواضعاته.
وبالنسبة لذلك التلميذ القرويّ، صاحب الإجابة المختلفة
على سؤال معلِّمه، فسواء أكانت إجابته قد جاءت عن وعي وقصد أو أنَّها كانت عفو
الخاطر، فهي تعني أنَّه كان يقف على مفترق طُرُق ما بين السير باتِّجاه اكتمال
وعيه لذاته وما بين السير باتِّجاه طمس بذور ذلك الوعي.
وعلى الخلاف مِنْ ذلك، فمن الواضح أنَّ المعلِّم لم يكن
يمتلك مثل تلك الأرضيَّة ولا مثل تلك الإمكانيَّة؛ لأنَّه خاضع بالكامل لشروط
التشكيلة الاجتماعيَّة الطبقيَّة التي يعيش في ظلِّها ومستَلَب لوعيها الزائف.
وهنا، يكمن أساس الاختلاف في فهم كلٍّ من التلميذ
وأستاذه لمفهوم العَظَمَة؛ فبينما يراها التلميذ نابعة منْ داخل ذات الإنسان
ومتجلِّية في صفاته وقيمه وسلوكاته، يراها المعلِّم مقترنة بالشهرة والبروز
والنفوذ والثروة.
وليس غريباً أنْ يكون وعي التلميذ متقدِّماً على وعي
المعلِّم؛ فكلَّما ابتعدنا عن دائرة الاستلاب السلعيّ وعن دائرة الاستلاب
السلطويّ وعن دائرة تزييف الوعي، كلَّما اقتربنا من الرؤية الأكثر صفاءً
لحقيقة الإنسان والأكثر صدقاً والأكثر إنسانيَّة. الأمر الذي يمكِّنها من اختراق
الكثير مِنْ طبقات الوهم والوعي الزائف والاستلاب التي تراكمتْ على مرّ العصور
وطمستْ جوهر الإنسان.
أمَّا أكثريَّة الناس، فهي ترزح تحت ركام الوهم
والاستلاب اللذين صنعتهما المصالح الطبقيَّة الأنانيَّة والمصالح السلطويَّة على
مرّ العصور.
ولطالما أُستخدِمَ الكثير من الأدباء والشعراء
والفنَّانين ورواة السِّيَر والمؤرِّخين والخطباء والمفكِّرين لتكريس تلك الأوهام
حول السلطة وشخوصها والمصالح الطبقيَّة للفئات الحاكمة، ولطالما عمل هؤلاء أيضاً
مِنْ أجل تفصيل قيم الحقّ والعدل والخير والعظمة والشرف والنبالة على مقاس الحكّام.
وفي العصر الحديث، مع تطوّر وسائل الاتِّصال والإعلام
واتِّساع دائرة انتشارها وتأثيرها بشكلٍ هائل، سارت هذه العمليَّة شيئاً فشيئاً
باتِّجاهين متضادّين:
الاتّجاه الأوَّل، يتمثَّل بازدياد مقدرة السلطات
والطبقات الحاكمة على تزييف الوعي بشكلٍ هائل، خصوصاً في المرحلة الأولى مِنْ
تطوّر وسائل الإعلام؛ أي عندما كانت السلطات المحليَّة في كلّ بلد لا تزال تملك
القدرة على التحكّم برسالة وسائل الإعلام وضبطها وتوجيهها في الوجهة التي تخدم
مصالحها، وتستطيع وضع العراقيل والعوائق في طريق أيَّة رسالة إعلاميَّة تتعارض مع
مصالحها ومصالح الطبقات الحاكمة.
ولكن – كما هو معروف – فلهذه العمليّة وجه آخر يتمثَّل
في الأثر السلبيّ الذي ينعكس على السلطة، نفسها، التي تمارسها، حيث تصبح السلطة في
النهاية أسيرة لآليَّات عمليَّة تزييف الوعي هذه؛ أي أنَّها تصبح ضحيَّة للخداع
الذي تمارسه؛ فتصدِّق أكاذيبها؛ وبالنتيجة، تضعف صلتها بالواقع.
في رواية «خريف البطريرك»، لغابرييل غارسيا ماركيز، نرى
الجنرال الحاكم، في بداية عهده، يعرف رعاياه عن كثب ويقيم معهم صلاتٍ مباشرة؛
فيتفقَّد أحوالهم وممتلكاتهم ومواشيهم.. الخ.
إنَّه يعرف مثلاً أنَّ إحدى العجائز تمتلك عنزاً
بمواصفات معيَّنة، ويعرف مقدار الحليب الذي تدرّه تلك العنز للعجوز. وعندما يمرّ
بها، يسألها عن أحوالها وأحوال عنزها. كما أنَّه يعرف كم عدد الدجاجات لدى امرأةٍ
أخرى وألوانها وأحجامها.. الخ.
ولكن، شيئاً فشيئاً، تحيط به هالة السلطة وحواشيها وما
تلبث أنْ تُحكم حصارها مِنْ حوله؛ فتبتعد المسافة بينه وبين الناس، وتختفي صورته
الحقيقيَّة لتحلّ محلّها صورة وهميَّة تدأب وسائل الإعلام الرسميَّة على نشرها
وتأكيدها. ولا يعود، هو نفسه، في النهاية، يعرف نفسه؛ بل ويغترب عن سلطته أيضاً،
ويتقلَّص دوره الحقيقيّ فيها، وتضعف معرفته بوسائل جريانها.
ويظلّ هذا الأمر يتفاقم لديه إلى أنْ يرى نفسه ذات يومٍ،
في خبرٍ رسميّ على شاشة التلفاز الحكوميّ، وقد افتتح أحد المشاريع الذي لا علم له
به ولم يزره في يومٍ من الأيَّام. بعد ذلك يُمضي الجنرال بقيَّة أيَّامه في مشاهدة
التلفاز للاطّلاع على مقابلاته التي لم يجرها، ومتابعة أخباره التي لا يعرف عنها
شيئاً، ومعرفة قراراته وإنجازاته التي لا علم له بها ولم يكن له أيّ دورٍ حقيقيّ فيها.
الاتِّجاه الثاني، نشأ في ظلّ التطوّر الهائل لوسائل
الإعلام وإشاعة استخدامها على نطاقٍ واسع؛ حيث توفّرت، لأوَّل مرَّة في التاريخ، إمكانيّة
حقيقيّة لقطاعات مختلفة من البشر للاطِّلاع على الحقيقة مِنْ زوايا مختلفة
ومتناقضة، والتعرّف على مصالحها ومصالح سواها وطبيعة التفاعل بين هذه وتلك، سلباً
أو إيجاباً، وما هي الآراء التي تخدم مصالحها وتلك التي تخدم المصالح المضادَّة
لها.. الخ.
ويزداد هذا الاتِّجاه قوَّةً وتأثيراً كلَّما ضعفتْ قدرة
السلطات المحليَّة في السيطرة على وسائل الإعلام والمعرفة، وضبطها، وتوجيهها. بيد
أنَّ هذه العمليَّة لا تزال في طور التفاعل الأوَّليّ ولم تظهر نتائجها الكاملة
بعد.
مِنْ مساهمات ماركس العلميَّة المهمَّة اكتشافه للاستلاب
السلعيّ في المجتمع الرأسماليّ؛ فالعامل ينتج السلعة ولكنَّها ليست له
ولا سلطة له عليها ولا منفعة مباشرة له بها. باختصار، إنَّها ما إنْ تخرج مِنْ بين
يديه إلى السوق حتَّى تصبح غريبة عنه تماماً. كما أنَّ الإنسان نفسه في المجتمع
الرأسماليّ يتحوَّل إلى سلعة؛ فقوَّة عمله سلعة، وهو نفسه مقدَّر بقيمة
ماليَّة هي مقدار ما يملك مِن المال. بيد أنَّ القيمة الماليَّة التي يُقدَّر بها
عمل العامل تقلّ كثيراً عن القيمة الماليَّة النهائيّة لما ينتجه مِنْ سِلَعٍ..
عندما تُعرَض في السوق. وبناء على هذه المفارقة الأساسيَّة كان الاكتشاف الآخر
المهمّ لماركس، المعروف بفائض القيمة.
وبالمختصر، فلم تعد قيمة الإنسان نابعة مِنْ ذاته؛ بل
مِنْ ما يملكه، ومِنْ ما يستطيع أنْ يشتريه مِن السلع، ومِنْ حجم نفوذه في منظومة
السلطة الطبقيَّة. أي أنَّ المال أصبح هو القيمة الأساسيَّة التي تُقدَّر بها كلّ
قيمة أخرى. الأمر الذي استوجب تبديل مجمل منظومة القيم والمعتقدات القديمة لتتواكب
مع هذا التغيّر الهائل.
وفي هذا الإطار، نشأتْ الحركة البروتستنتيَّة
كثورة على القيم المسيحيَّة التقليديَّة (المساواتيَّة والإقطاعيَّة،
على السواء)، في أوروبَّا، لتعلي مِنْ شأن قيم وأفكار وأخلاق «العهد
القديم» الربويَّة التي تتلاءم أكثر مِنْ سواها مع الطبيعة الربويَّة
للرأسماليَّة.
أي أنَّ الانتقال إلى الرأسماليَّة في أوروبَّا
(وفي أميركا في ما بعد) تطلَّب تهويد المسيحيَّة ومجمل القيم الأوروبيَّة
لتتلاءم مع الواقع الجديد.
وفي العقود الأخيرة، جرتْ محاولات حثيثة ومُلحَّة
للتأثير على الكنيسة الكاثوليكيَّة بهذا الاتِّجاه. كما أنَّ هناك، منذ عقود
أيضاً، محاولات مماثلة على مختلف الأصعدة لإجراء تغييرات «بروتستنتيَّة»
على الإسلام؛ نشهد أمثلة واضحة لها في المجال الإعلاميّ، وخصوصاً في
البرامج التلفزيونيَّة المخصَّصة للأطفال؛ حيث تتمّ إعادة إحياء «الإسرائيليَّات»،
ويتمّ تبنِّي ونشر الرواية التوراتيَّة المتجنِّية على الحضارات القديمة في
المنطقة؛ الحضارة «الفرعونيَّة»، وحضارة بلاد ما بين النهرين، والحضارات
السوريَّة: الفينيقيَّة، والمؤابيَّة، والكنعانيَّة، والعمونيّة..
الخ.
وكلّ ذلك، يُبثّ ويُنشر باسم الإسلام. وما هي إلا
طريقة ملتوية لتسييد قيم وأفكار «العهد القديم» الربويَّة على تفكير النشء
الجديد في المجتمعات العربيَّة والإسلاميَّة. ولا تقف وراء هذا بالطبع
أهداف دينيَّة، وإنَّما الهدف الحقيقيّ هو تمهيد أرض القيم والمعتقدات أمام الهجوم
الواسع لرأس المال الماليّ، المنفلت مِنْ عقال الوطنيَّة والدين والقيم
الإنسانيَّة، باسم العولمة.
وفي ظلّ عمليَّة تزييف الوعي الهائلة هذه على كلّ
المستويات، صار من الصعب على الإنسان أنْ يتمتَّع بقدر كافٍ من الصفاء ليرى نفسه
ومَنْ حوله وما حوله بوضوح. وهنا تترتَّب مسؤوليَّة مضاعفة على الأدب (والفن) لإزالة
كلّ تلك الطبقات السميكة المتراكمة من الوعي الزائف الذي يتَّخذ شكل البداهة
والروتين والألفة والاعتياد؛ وللكشف بالنتيجة عن قيم الإنسان الجميلة وعن نبل
شخصيَّته وعظمتها، كما هي موجودة حقّاً تحت كلّ هذا الركام والحطام؛ وللكشف،
بالمقابل، عن ضحالة وتفاهة وانحطاط الكثير من «الشخصيَّات البارزة»، التي تتحدَّث
عنها الكتب والصحف ومختلف وسائل الاتِّصال والإعلام، بتبجيلٍ وإجلال.
غالب هلسا استفاد بقراءته الذكيَّة والعميقة لفوكنر؛ حيث لاحظ كيف أنَّ فوكنر
صنع من الحياة العاديَّة في الريف الأميركيّ ومن الشخصيَّات الإنسانيَّة
المغمورة هناك قصصاً وروايات جميلة ومعبِّرة تدور وقائعها ضمن أجواء سحريَّة
فاتنة، مِنْ دون أنْ يضطرّ لتزييف الواقع أو أنْ يأتي إليه بتلك المسحة السحريَّة
مِنْ خارجه؛ بل إنَّ كلّ ما فعله في الحقيقة هو أنَّه أزاح عن ذلك الواقع طبقات
الروتين والبلادة والبلاهة ومختلف أشكال الوعي الزائف التي كانت تطمسه. ثمَّ إنَّه
رسم شخصيَّاته الروائيَّة في إطار تاريخها ومحيطها الاجتماعيّ والقيميّ والجماليّ.
وهنا، اكتشف غالب هلسا أنَّ النظر للشخصيَّة
الإنسانيَّة بمعزل عن تاريخها يجرِّدها مِنْ قيمتها الإنسانيَّة ويجعل الحكم عليها
أو لها سطحيّاً وبلا معنى.
ولقد تمكَّن غالب هلسا مِنْ توظيف هذا الوعي
المتقدِّم، بمهارة وعلى نحوٍ يثير الإعجاب، في رسم شخصيَّاته القصصيَّة
والروائيَّة.
وفي الختام، أعود مجدَّداً إلى ذلك الفتى الريفيّ الذي
كان يمتلك مقداراً كافياً من الصفاء الذهنيّ والشعوريّ ليرى ما حوله ومَنْ حوله
بوضوح، فيكتشف أنَّ في وسطه الاجتماعيّ الخاصّ عدداً من العظماء ممّن لم تُذكَر
أسماؤهم في الكتب أو وسائل الإعلام.
لا أعرف ما إذا كان ذلك الفتى المختلف قد صمد أمام سخرية
أستاذه وزملائه وبعض أهل قريته، وأمام وسائل تزييف الوعي الهائلة الجبروت،
واستمرَّ بالتمسّك برؤيته الثاقبة والمتقدِّمة، أم أنَّه في النهاية جرتْ تربيته
وإعادة تثقيفه ودمجه في السياق العامّ المعتاد.
ويكفي، لتوضيح مدى حجم هذا السياق العامّ المعتاد ومدى
سطوته وتأثيره، أنْ أشير إلى أنَّ حكاية ذلك الفتى قد وصلتْ إليَّ في الأصل كنكتة
وأنَّه كان يُنْتَظَر منِّي بعد سماعها أنْ أضحك وأنْ أسخر مِنْ بطلها ثمَّ أستسلم
بعد ذلك لشعوري الساذج والخادع بأنَّني أذكى منه وأكثر فطنة وحكمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
توضيح: هذا
الموضوع مِنْ كتابي «بيت قديم متعدِّد الطوابق.. نظرات نفسيّة أدبيّة» الصادر في
العام 2018.