سعود قبيلات ▣
قليلون هم الَّذين يعرفون أنَّ عالم الاجتماع والتَّاريخ
العربيّ المسلم الشَّهير، ابن خلدون، قد دوَّن سيرته الخاصّة بنفسه. الكتاب الَّذي حوى
هذه السِّيرة بين دفَّتيه اسمه «التَّعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً»، وقد ألحقه
كاتبه بآخِرِ كتابه الموسوم بـ«العِبَر»، ليُقرأ معه إضافة إلى المقدِّمة الشَّهيرة
بـ«مقدّمة ابن خلدون».
بيد أنَّ هذه السِّيرة أقلّ شهرةً من «العِبَر» ومن
«المقدِّمة»؛ ربَّما لأنَّها لم تصدر في كتاب مستقلّ إلَّا ابتداء من العام 1951،
على يد الباحث المغربيّ محمَّد بن تاويت الطَّنجيّ الَّذي أمضى سنواتٍ عديدةً في تحقيقها
بالاستناد إلى مخطوطاتها المتعدِّدة والمصادر المختلفة ذات الصِّلة بهذا الموضوع.
وأريد أنْ أتوقَّف هنا عند عددٍ من المسائل الَّتي لفتتْ
نظري في هذه السِّيرة وأثارتْ في خاطري بعض التَّداعيات والانطباعات:
أوَّلاً؛ لفتَ نظري هذا الحرص الواضح لدى العالِم العربيّ
المسلم الَّذي عاش خلال القرن الرابع عشر (732ه – 808ه) (1311م – 1387م) على تدوين
مذكّراته؛ ما يعني أنَّه كان يدرك بوضوح ضرورة اطلاع المهتمّين والعلماء من
الأجيال اللاحقة على طبيعة الظُّروف العامَّة والشَّخصيَّة الَّتي واكبتْ عمله العلميّ واحتضنتْه.
كما يعني أيضاً عمق إدراكه لأهميَّة إنجازه العلميّ، وأهميَّته هو كعالِم، وأهميَّة
حياته الشَّخصيَّة مِنْ هذه الزَّاوية. إنَّه أيضاً تعبيرٌ عن شعوره القويّ
بالمسؤوليَّة تجاه العِلم وتجاه الأجيال اللاحقة.
وفي العادة، نجد أنَّ مَنْ يعرِّف بالعلماء والأدباء والمفكِّرين
من الزَّمان القديم هم علماء أو مؤرِّخون أو كتَّاب آخرون، سواء أكانوا مِنْ زمنهم
أو من الأزمان اللاحقة لأزمانهم. أمَّا في هذه الحالة، فإنَّنا نجد أنَّ ابن خلدون
قد اضطلع هو نفسه بمهمَّة التَّعريف بنفسه وبحياته ولم يتركها لغيره. بيد أنَّ هذا
لم يمنع الكثيرين غيره مِنْ أنْ يتصدّوا أيضاً للمهمَّة نفسها لاحقاً.
ولا يضير ابن خلدون، أو يقلِّل مِنْ أهميَّة سيرته
المكتوبة هذه، ما أشار إليه بعض الباحثين من اختلافٍ واضحٍ بين الصُّورة الَّتي قدَّم
هو بها نفسه وبين تلك الَّتي قدَّمه بها الآخرون الَّذين كتبوا عنه، سواءٌ أكانوا مِنْ
معاصريه أم من الأجيال اللاحقة لعصره؛ فليس المهمّ هو فقط مدى صدق تفاصيل الوقائع
المتعلِّقة بحياته، وإنَّما لا يقلّ عن ذلك أهميَّةً ما تعكسه الصُّورة الَّتي يرى
نفسَه عليها (أو الَّتي يحرص على عرضها عن نفسه للآخرين) مِنْ معانٍ عميقة. وهذا طبعاً
إضافة إلى أهميَّة ما يعكسه أسلوبُ كتابته للمذكِّرات مِنْ ظِلال شخصيّته وأحواله.
ثانياً؛ تمتلئ هذه السِّيرة، كما هو الحال بالنِّسبة لكلّ
كُتُب السِّير والتَّاريخ القديمة، بالكثير من الكلام عن حكَّام ذلك الزَّمان وقصصهم
وحكاياتهم وحروبهم ومكائدهم ومؤامراتهم الَّتي كانوا يحيكونها ضدَّ بعضهم البعض
و«الثَّورات» الَّتي كانت تندلع ضدَّهم مِنْ حينٍ لحين، لا لتبدِّلَ أحوالَ النَّاس
بالطَّبع لكن لتأتي بدلاً من الحكَّام الفاسدين والمستبدّين المطاح بهم بآخرين لا
يختلفون عنهم؛ فتلك الحركات لم تكن ثورات في الواقع، بل كانت مجرَّد حالات تمرّد
وخروج على طاعة الحاكم مِنْ دون وعي بطبيعة الحكم الَّذي تمَّت الإطاحة به ولا
بطبيعة البديل الحقيقيّ الَّذي يجب أنْ يحلّ محلّه.
ونتوقَّف، هنا، عند هذه الملاحظة لنقول: من الواضح أنَّ
ابن خلدون الَّذي كان قد اُشتُهر بمحاولته فهم قوانين التَّاريخ والاجتماع البشريّين فهماً علميَّاً،
لم يستطع – كما هو متوقّع ومفهوم – أنْ يتجاوز شروط زمانه ليدرك أنَّ التَّاريخ ليس أخبار الحكّام فقط . ذلك لأنَّ مفهوم الشَّعب، الَّذي تطوَّر في عصر الأنوار مع صعود
الرَّأسماليَّة الأوروبيَّة، لم يكن موجوداً آنذاك ولم تكن قد وُجِدتْ بعد البيئة
الاجتماعيَّة والسّياسيَّة الأوليَّة لنشوئه، وبدلاً منه كان يسود مفهوم الرَّعيَّة
والحاكم كراعٍ. وربَّما أيضاً لأنَّ السِّياسة (وليس الاقتصاد) – كما يرى سمير أمين –
كانت هي العامل الحاسم في عصر ما قبل الرَّأسماليَّة.
ثالثاً؛ تكشف السِّيرة مدى المصاعب الَّتي كان يواجهها
المثقَّف والمفكِّر والعالِم في ذلك الزَّمان؛ فهو مضطرّ للالتحاق بصورة مباشرة
ببلاط أحد الحكَّام كي يتمكَّن مِنْ تأمين مستوىً ملائم من الدَّخل والحياة، له
ولأسرته، ويُتاح له الانكباب على قراءاته وكتاباته وأبحاثه؛ وهذا طبعاً في الأوقات
الَّتي لا يكون مضطرّاً فيها لمسامرة الحاكم والتَّسرية عنه أو تنفيذ بعض المهمّات الخاصَّة
الَّتي يطلبها منه والَّتي لا تليق في الكثير من الأحيان بمكانته ولا ترقى إلى مستوى
اختصاصه؛ فأحد علماء «الحساب» في ذلك الزَّمان، على سبيل المثال، أُضطرّ لأنْ يعمل
محاسباً لدى أحد الحكّام إلى أنْ واتته الفرصة فهرب إلى كنف حاكمٍ آخر. وابن خلدون
نفسه عمل لدى الكثير مِنْ أولئك الحكّام في وظائف لا شأن لها بعلمه واختصاصه؛
ومِنْ ذلك مثلاً أنَّه أشرف على قمع بعض القبائل البربريَّة الَّتي امتنعتْ عن تمويل
خزينة أحد الحكّام بعدما فرغتْ مِنْ جرَّاء بذخ ذلك الحاكم وإسرافه. وقد تمكَّن ابن
خلدون في نهاية تلك العمليَّة التَّأديبيَّة الصَّارمة مِنْ ملء خزائن وليّ أمره ذاك
بالأموال ليتيح له أنْ يواصل مِنْ جديد بذخه وإسرافه. كما أنَّه تولَّى مناصب
إداريَّة عديدة لدى حكَّام مختلفين في المغرب العربيّ وفي الأندلس وفي مصر، ومِنْ
بينها منصب رئيس الوزراء لدى أحد أولئك الحكَّام.
وبطبيعة الحال لم يكن العالِم والمفكِّر، سواءٌ أكان ابن
خلدون أو سواه، يستطيع الاستقرار في بلدٍ واحدٍ إلى ما لا نهاية؛ إذ سرعان ما كانت تلاحقه
الوشايات ويتكالب عليه الحاسدون، وهذا عدا عن أنَّه لم يكن بمنجاة مِنْ آثار تقلّب
مزاج وليّ نعمته، الأمر الَّذي كان ينعكس عليه حتماً في النِّهاية بأسوأ العواقب ويضطرّه
للفرار – إن استطاع – في ليلةٍ ظلماء، إلى كنف حاكمٍ آخر بالطَّبع، لكن أيضاً إلى حين.
وفي بعض الأحيان، لم يكن العالِم يتمكّن من النَّجاة؛ إذ يقبض عليه الحاكم ويزجّ به في
السِّجن لمجرَّد سماعه وشاية تافهة همس بها في أذنه أحد المغرضين؛ ليبقى بعد ذلك
رهين المحبس إلى أنْ يموت الحاكم الَّذي حبسه ويأتي سواه أو أنْ يحنّ قلب الحاكم
القاسي عليه في لحظة صفاء فيطلق سراحه. ولقد زُجَّ بابن خلدون نفسه مراراً في
السُّجون، ومراراً هبطتْ مكانته مِنْ علياء حظوة الحاكم إلى درك سخطه وغضبه.
ومِنْ سخريات التَّاريخ، أنَّ جميع أولئك الَّذين تحكَّموا،
في ذلك الزَّمن البعيد، بحياة ومصير ذلك العالم الكبير وأمثاله من المفكِّرين
والمثقَّفين والأدباء، أصبحوا الآن غفلاً من الذِّكر تقريباً؛ اللهمَّ إلا إذا كانت
قد تمَّتْ الإشارة إليهم على هامش سيرة ابن خلدون وأمثاله. ولذلك فقد تعمَّدتُ هنا
أنْ لا أذكر اسم أيٍّ منهم.
رابعاً؛ الأمر اللافت جِدّاً هنا هو تجنّب ابن خلدون، في
سيرته هذه، الحديث عن حياته الشَّخصيَّة وعن مشاعره؛ وحتَّى عندما يأتي على ذكر المحن
والمآسي الكبيرة الَّتي مرَّ بها في حياته فإنَّه يكتفي بالإشارة إليها بشكلٍ عابر
وبكلامٍ حياديّ كما لو كانت قد وقعت لغيره، أو أنَّها لم تكن ذات أهميَّة بالنِّسبة
له؛ ومِنْ ذلك، مثلاً، حديثه عمَّا تعرَّض له مراراً مِنْ تجارب السِّجن القاسية
واضطراره للفرار في معظم الأحيان مِنْ كنف حاكمٍ إلى كنف آخر، بل وحتَّى مأساة
وفاة والديه بمرض الطَّاعون ثمَّ مأساة غرق زوجته وأولاده جميعاً وهم في طريقهم
للالتحاق به، بناء على طلبه، في مصر حيث كان قد استقرّ هناك فترةً من الزَّمن.
وقد تداعتْ إلى
ذهني في أثناء قراءتي لسيرة ابن خلدون، تلك، مشاهد وتفاصيل كثيرة من اعترافات جان
جاك روسّو؛ حيث نجد تلك الاعترافات، على النَّقيض مِنْ سيرة ابن خلدون، تزخر بوصف
مشاعر صاحبها في المواقف المختلفة، رغم أنَّه عاش أيضاً في كنف حكَّامٍ مستبدِّين
وعانى الكثير مِنْ سوء معاملتهم، لكنَّ عصر كلٍّ من المفكِّرين (ابن خلدون
وروسّو) كان مختلفاً عن الآخر، وظروف مجتمع كلٌّ منهما كانت أيضاً مختلفة؛ فابن
خلدون عاش في أواخر الفترة التَّاريخيَّة الممتدّة للنِّظام الخراجيّ العربيّ المركزيّ
القديم في حين أنَّ روسّو عاش في مرحلة تداعي النِّظام الإقطاعيّ الأوروبيّ الطَّرفيّ
وحلول الرَّأسماليَّة الأوروبيَّة المركزيَّة شيئاً فشيئاً محلّه. وآنذاك، مع بدء الحديث
عن المبادرة الخاصَّة، بدأ ينتشر أيضاً الحديث عن الخصوصيَّة الإنسانيَّة وضرورة
تحرير المجتمع مِنْ ربقة العلاقات الإقطاعيَّة.. لا ليحصل على الحريَّة الحقيقيَّة
بالطَّبع وإنَّما ليندرج مِنْ دون عوائق ومثبِّطات في دائرة الاستغلال الرَّأسماليّ
الأوسع نطاقاً والأشدّ مضاضةً.
هذه كانت بعض الملاحظات الأوليَّة الَّتي خرجتُ بها مِنْ
قراءة سيرة ابن خلدون. أمَّا النّسخة الَّتي قرأتُها مِنْ السِّيرة فهي تلك الَّتي
حقَّقها محمَّد بن تاويت الطَّنجيّ في العام 1951، وبالذَّات، الطَّبعة الصَّادرة منها في
العام 2004 عن دار الكتب العلميَّة في بيروت.