أنطون كاساتكين ▣
الولايات
المتّحدة، أو بالأحرى
رئيسها دونالد ترامب، قام بقفزته الكبيرة. والعالم يحبس أنفاسه بانتظار ردّ
الفعل الإيرانيّ، الذي يوصف مِنْ مسؤولين إيرانيين وأميركيين وسواهم
بـ«الانتقام» و«الثأر».
هل
الأمر بهذه البساطة، فعلاً، مجرّد «ثأر» و«انتقام»..!؟
من
المؤكَّد أنَّ الأميركيين يريدون لردَّة الفعل الإيرانيّة أن تأتي في
هذا السياق، وبهذه الحدود، وتحت هذا السقف بالذات: «ثأر» و«انتقام». وهذا ما حثَّتْ
عليه صراحة الرسالة الأميركيّة، المعدّة مسبقاً، التي وصلت إلى طهران
صباح يوم الجمعة بيد السفير السويسريّ، رئيس البعثة الدبلوماسيّة التي ترعى
مصالح واشنطن في طهران.
ولكن
ماذا عن الإيرانيين وحلفائهم..!؟
من
المرجَّح جدّاً أنَّ الإيرانيين وحلفاءهم، في فورة الغضب التي تجتاحهم، يغيب
عنهم استخدام المفردات الدقيقة التي تعبِّر عن واقع الموقف. أو هم يدركون الموقف
جيداً، ولكنّهم غير معنيين بإعطاء فكرة واضحة عن المدى الذي يمكن أن يذهبوا إليه.
وسواء
علم الإيرانيون أم لم يعلموا، فالموقف تجاوز كثيراً حالة «الثأر» و«الانتقام».
أي، لم يعد متعلّقاً بتثبيت قواعد الاشتباك، كما سبق أن فعلوا في الموقف الذي تمَّ
فيه احتجاز ناقلة النفط الإيرانية في محميّة «جبل طارق» البريطانيّة،
وقابلوه باحتجاز ناقلة نفط تعود ملكيّتها للمملكة المتّحدة.
وبعبارة
أخرى، فإنَّ ما يجب أن يكون قد فهمه الإيرانيّون وحلفاؤهم أنَّ اللاعب الأميركيّ
المتهوِّر قد أقدم على خطوته المتهوِّرة، وليس بوسعهم عدم الردّ بحزم، وقسوة، ومِنْ
دون التقيّد بالسقوف المأمونة التي تبقي اللعب في منطقة حافّة الهاوية وتلتزم بـ«الاقتصاد»
في الردّ.
وعلى
أيّة حال، الردّ الإيرانيّ المُحتَمَل، إذا جاء متناسباً فعلاً مع خطوة الأميركيين
اغتيال الجنرال الإيرانيّ الأشهر والأكثر فاعليّة، لن يكون سهلاً على الأميركيين،
ولن يكون بوسعهم ابتلاعه. ما يعني أنَّ الأمور ستتدحرج إلى أسوأ أنواع المواجهة.
ذلك
هو.. ردّ الفعل الإيرانيّ المكافئ لا يمكن أن يكون مجرد «انتقام» و«ثأر»؛
بل استجابة لتحوّل نوعيّ ودراماتيكيّ في مستوى المواجهة مع الأميركيين. فالموقف
لا يتعلَّق بردّة فعل وردّة فعل مضادة. بل بمواجهة قاسية مستمرّة يبدو أنَّه لا مهرب
منها.
وعلى
كلّ الأحوال، هذه ليست مجرّد معركة إشفاء غليل..!
وفي
الواقع، باغتيال سليماني، رفع الأميركيّون مستوى المواجهة فعلاً،
ولم يبق أمام الإيرانيين إلا أن يقولوا كلمتهم، وأن يختاروا: المواجهة أم
التراجع و«تسييل» الموقف. «تسييل» الموقف، يعني عمليّاً أنَّ الولايات المتّحدة
ورئيسها المتهوّر قد كسبا الجولة، وضمنا الحرب الباردة المديدة الدائرة بين واشنطن
وطهران منذ أربعين عاماً.
وهنا،
يفترض أنَّ اغتيال سليماني، بحد ذاته، قد أعطى الإيرانيين إشارةً
واضحة إلى أنَّ فُرَصَ التفاوض على الملف النوويّ قد انتهت عمليّاً وموضوعيّاً،
وأنَّ محاولات العودة إلى الاتّفاق النوويّ لم تعد مكسباً؛ فالمواجهة التي
أصبحت قدراً، باتت تقتضي منهم الالتفات بجرأة إلى الخيارات القصوويّة، ومنها تلك
التي يوفّرها الملفّ النوويّ.
وفي
هذا السياق، يبرز معنى رمزيّ بالغ الدلالة للنهاية المفاجئة التي انتهى بها الجنرال
الإيرانيّ الأكثر فاعلية؛ فقاسم سليماني، الذي أخذ على عاتقه طوال أكثر من
عقدين تجهيز «معسكر المقاومة» وتأهيله وتوطيد أركانه ورفع جاهزيّته وقدراته،
قُتل في هذه الأيّام التي يعتقد فيها كثيرون، ومنهم أنصار له وبينهم خصومه، أنَّ هذا
الجهد قد بلغ مستويات غير مسبوقة في الإعداد والجهوزية.
ووصل
الأمر اليوم إلى درجة أنَّ المناصرين يتذمّرون مِنْ تأجيل المعركة المنتظرة بذريعة
استعداد يرون أنه اكتمل وبلغ أوجه. في حين يتخوّف الخصوم مِنْ أنَّ هذه الجهوزيّة قد
بلغت مستوىً يجعل أية معركة محتملة على درجةٍ كبيرة من الخطورة.
المعنى
الرمزيّ، هنا، هو أنَّ الجنرال الذي يمثِّل مرحلة الإعداد والاستعداد.. انتهى. وقد
تكون نهايته كناية عن أنَّ هذه المرحلة، مرحلة الإعداد والاستعداد، اكتملت، وأنَّ المعركة
التي تمّ الإعداد لها قد فُتِحَتْ.
قد
يكون مقتل سليماني فعلاً، إيذاناً باندلاع معركة، كانت مؤجّلة!
ومن
اللافت أنَّ هذا المغزى يأخذ معناه القويّ مِنْ حقيقة أنَّ إيران وحلفاءها
لا يملكون رفاهيّة عدم الردّ على الخطوة الأميركيّة، وأنَّ هذا الردّ، الذي
لا بدّ أن يأتي مكافئاً للفعل الذي استدعاه على أقلّ تقدير، ليس بالوسع جعله «حادثة»
منعزلة منفصلة ومحدودة؛ بل يُتوقّع أن تكون له تداعيات خطيرة كثيرة، وأن يقلب
المعادلات في المنطقة برمتها رأساً على عقب، ليؤذن بانهيار كلّيّ لموازين القوى
الشكليّة التي يرسمها الكلام الإنشائيّ عن الالتزام بالقانون الدوليّ.
الجنرال
قاسم سليماني لم يكن، بحال من الأحوال، أسامة بن لادن. فهو لم يكن
مختبئاً، ولا متخفيّاً. كان طوال الوقت يتحرّك في وضح النهار، أمام أعين الأميركيين،
ويعمل على مقربة أمتار منهم في كثير من الجبهات. وكان محميّاً طوال الوقت بخطوطٍ
حمراء وقواعد اشتباك ملزمة للطرفين. وحقيقة أنَّ الأميركيين قاموا
باغتياله، في فعلٍ غادر، تثير أسئلة كثيرة حول دوافعهم الحقيقيّة من اغتياله، وحول
حرصهم على اغتياله في العراق بالذات.. في حين أنَّهم كانوا يستطيعون النيل
منه في سوريا. ثمّ لماذا الآن؟
الحقيقة
أنَّ دولاً في الإقليم كانت تطمح إلى تفجير العراق في وجه الإيرانيين،
وسعت إلى استمالة الحراك الشبابيّ في العراق إلى منطقة التجاذبات الإقليميّة،
وتوظيفه في معركتها الخاصة مع طهران. وهذه الدول كانت تعتقد أنَّ مقتل الجنرال
سليماني في العراق يمكنه أن يثير المكوّنات العراقيّة بعضها على
بعض، إن لم يزرع بذور الشقاق بين طهران وبين حلفائها العراقيين
الذين سيكونون موضع شكٍّ وريبة.
ويبدو
أنَّ مقتل أبو مهدي المهندس مع سليماني أضاع مثل هذه الفرصة. بينما
محاولات ترويج فرح شعبيّ عراقيّ بمقتل الجنرال الإيرانيّ باءت كذلك
بالفشل، رغم محاولات تسويقها أميركيّاً ومِنْ بعض دول المنطقة. ولم تنجح أيضاً
محاولة ترويج البهجة في أوساط «الحراك الشبابيّ» على نحوٍ يؤدّي إلى
التفجير المطلوب.
الأمر
المؤكّد هو أنَّ الرئيس الأميركيّ المأزوم داخليّاً قد وضع مصيره بيد الإيرانيين،
فإعادة انتخابه باتت رهن ردّة فعلهم المتوقّعة التي على الأغلب ستحرجه وتضعه أمام
خيارين أحلاهما مرّ. وأكثر مِنْ ذلك، لقد وضع ترامب مصير المنطقة برمّتها،
وقرار الحرب أو السلام، بيد قادة تلك الدولة التي تصفها إدارته بـ«الدولة المارقة».
بلى،
من الجنون البحث عن أيّة حكمة في خيارات ترامب وفريقه، أو تخيّل أنّها خيارات
«المؤسّسة» والعقل الأميركيّ، كما لا يمكن تصوّر أن يظنّ الإيرانيّون
فعلاً أنَّ الأمر متعلّق، كما يردِّدون، بمجرّد «الانتقام» و«الثأر» وإشفاء الغليل.