سعود قبيلات ▣
الدّول ليست جمعيّات خيريّة. هذا أمرٌ بديهيّ لا خلاف عليه.
الدّول تبني مواقفها على أساس مصالحها.. وعلى الأقلّ، بما لا يتعارض مع هذه
المصالح.
وتَمسُّك الدّول بمصالحها لا يُعيبها ولا يُعتَبَر حُجّة
ضدّها، بل يُحسب لها، ويُفتَرَض بنا أنْ نكون مثلها. لكنّنا لن نكون مثلها إذا لم
نمتلك الشّروط اللازمة لذلك، ومنها: السِّيادة، والاستقلال، والتَّمتّع بحقّ اتّخاذ
القرار المناسب وفق صيغة مؤسَّسيّة.
لذلك، كلّه أستغرب المقولة المتهافتة الَّتي يستخدمها
كثيرون – مع الأسف – بصورة ببغائيّة، قائلين: الدَّولة الفلانيّة أو العلّانيّة لم
تساندنا في الموقف الفلانيّ أو العلّانيّ لله وفي الله، بل لأنَّ لها مصلحة في ذلك!
يا سلام!
وطبعاً يقولون هذا الكلام وهم يعتقدون أنْهم «جابوا
الدِّيب مِنْ ديله»، على رأي إخواننا المصريين.
هل يعتقد هؤلاء القوم أنَّ الصَّداقة، سواء أكانت على
مستوى الدّول أم على مستوى الأفراد، تعني أنْ يتخلَّى الأصدقاء عن مصالحهم ويتفرَّغوا لخدمة مصالحنا وحدها؟!
أيّ فهم غريب هذا للصَّداقة؟!
لا يمكن لطرف (دولة أو فرد) التَّخلّي عن استخدام المصالح
كمعيار للعلاقات مع الآخرين إلا إذا كان فاقداً لإرادته ووزنه وخاضعاً لهيمنة سواه.
العلاقات السَّويّة هي الَّتي تقوم على تبادل المصالح وليس التَّركيز على مصالح طرف واحد مِنْ أطرافها دون غيره. ومعظم الأنظمة العربيّة تفضِّل أنْ تفرّط بالمصالح
الوطنيّة والقوميّة لصالح الأعداء (رعاتها) على أنْ تقيم علاقات متوازنة مع الأصدقاء تقوم
على أساس تبادل المصالح.
والمصالح لا تتعارض، بالضَّرورة، مع المبادئ، بل يمكن لها
أن تُستوفَى وفق شروط تحترم القيم والمبادئ الإنسانيّة المشتركة. وهذا يعتمد على
طبيعة الدَّولة أو الشَّخص المعبِّرين عن مصالحهما.
ولكن كيف للصَّداقة أنْ تنعقد بين الدّول إذا كانت كلٌّ
منها تنطلق مِنْ مصالحها؟
إنَّ هذا يتطلّب أنْ تُبنى الصَّداقة على الالتقاء الموضوعيّ
للمصالح الوطنيّة لكلٍّ منها. ويتطلَّب، بالمقابل، أنْ تُبنى العداوة والخصومة على التَّناقض الموضوعيّ
للمصالح الوطنيّة.
والصَّداقة السَّويّة لا تشترط التقاء المصالح جميعها؛ فهذا
مستحيل في العلاقات الدَّوليّة، وكذلك في العلاقات الإنسانيّة بين الأفراد.
المهمّ هو أنْ تلتقي المصالح الأساسيّة بين الأصدقاء،
أمّا تضارب بعض المصالح الفرعيّة أو الثَّانويّة بينهم، فيُترك للمفاوضات والحوارات والتَّسويات والتَّنازلات
المتبادلة.. هذا إذا ما كانت الأطراف عاقلة وناضجة وتعي مصالحها جيّداً وتملك زمام
أمرها كاملاً.
لا أحد يستطيع أنْ يعيش في هذا العالم متوحّداً، ولا أحد
يستطيع أنْ يضمن مصالحه وأمنه منفرداً.. بما في ذلك حتَّى الدّول الكبرى والأشخاص
الأقوياء؛ لذلك، تسعى الدّول، ويسعى الأفراد، إلى توسيع دوائر أصدقائهم وحلفائهم، وإلى
تضييق دوائر خصومهم وأعدائهم، وليس العكس.
في عالمنا العربيّ ثمّة خلل كبير في فهم هذه المسألة
المهمّة، مع الأسف. فثمّة دعوات واسعة الانتشار مِنْ شأنها أنْ تقود إلى عزلنا عن
العالم واعتبار الكلّ أعداء لنا، لمجرّد اختلافهم معنا في العرق أو الثَّقافة أو
الدِّين أو المذهب.. وأحياناً، لمجرّد اختلافهم معنا في الحزب أو الجماعة.
أنا أعتقد أنَّ هذه الأفكار مدسوسة علينا، والغرض منها
أنْ نقوم بأنفسنا بتكريس عزلتنا عن الآخرين.. وصولاً إلى إظهارنا بعيون الجميع كحالة شاذّة لا تشبه
أحداً ولا يُشبهها أحد. وفي الحقيقة فإنَّ أكثر الَّذين يروِّجون هذه الدَّعوات
الانعزاليّة يقيمون أوثق العلاقات مع أعدائنا ويخدمون مصالح هؤلاء الأعداء بدأب
وثبات، وكلّ ما يريدونه هو أنْ ندير ظهرنا لأصدقائنا ولحلفائنا الموضوعيين في
الإقليم وفي العالم لكي نصبح لقمة سائغة لأعدائنا.
إنَّها الحيلة القديمة المعروفة، نفسها، الَّتي استخدمها
عمرو بن العاص مع أبي موسى الأشعريّ، في التَّحكيم الشَّهير الَّذي جرى في أذرح جنوب الأردنّ؛
حيث في النِّهاية قال عمرو بن العاص قولته الشَّهيرة: «أمَّا أنا فلا أخلع صاحبي».
وسُجِّل أبو موسى الأشعريّ كأكبر مخدوع في التَّاريخ.
وفي هذا السِّياق نفسه، تكاد تغيب عنّا في العقود الأخيرة ثقافة التَّضامن مع
الآخرين، خصوصاً التَّضامن مع الشّعوب الَّتي تتعرَّض للقهر والاضطهاد والاستغلال من الدَّوائر الإمبرياليّة وتوابعها، رغم أنَّ الكثيرين
يتضامنون معنا في مختلف أنحاء العالم. وكذلك فإنَّ تواصلنا مع الشّعوب الأخرى
وقواها السِّياسيّة والاجتماعيّة ضعيف جدّاً، مع أنَّنا أصحاب قضيّة كبيرة وعادلة.
فكيف، إذاً، ننتظر من الآخرين أنْ يتضامنوا معنا ويقفوا إلى جانبنا ويناصروا
قضايانا؟!
في خمسينيّات القرن الماضي وستينيّاته وسبعينيّاته، كان
التَّضامن مع القضايا العربيّة، وفي مقدّمتها القضيّة الفلسطينيّة، كبيراً جدّاً في
مختلف أنحاء العالم. وبالمقابل، كانت في العالم العربيّ أحزاب وقوى سياسيّة
واجتماعيّة جماهيريّة تتضامن بصدق وحماس مع قضايا الشّعوب الأخرى.
نحتاج الآن إلى بناء مفهوم سليم للصَّداقة والعداوة. وهذا
يتطلّب:
أوَّلاً، أنْ نحرص على الظّهور للعالم كلّه باعتبارنا جزءاً من المجتمع البشريّ
ولسنا منفصمين عنه أو نقيضاً له؛
ثانياً، أنْ نحدِّد مصالحنا الأساسيّة
بدقّة، ونعرف مَنْ يلتقي معها موضوعيّاً في مصالحه ومَنْ يتعارض معها موضوعيّاً أيضاً؛
ثالثاً، أنْ نميِّز بدقّة بين الصِّراعات التَّناحريّة وبين الصِّراعات غير
التَّناحريّة؛ فالأولى تحدث بين الأعداء. أمّا الثَّانية، فيمكن أنْ تحدث بين
الأصدقاء. ولا يجوز أنْ نخلط بينهما.
إنَّ أوَّل خطوة يجب أنْ نخطوها، لكي نعرف أنفسنا ونعزِّز مكانة قضايانا، هي أنْ نعرف بدقّة مَنْ عدوّنا ومَنْ صديقنا.
يأخذ كثيرون على إيران أنَّها اختارت أنْ تدافع عن
مصالحها في العراق عندما تعرّض هذا البلد العربيّ المهمّ للاحتلال، وينسون أنَّ
القوّات الأميركيّة، الَّتي احتلّت العراق، انطلقت مِنْ أراضٍ عربيّة، وبدعمٍ مِنْ
أنظمة عربيّة، ولم تنطلق من الأراضي الإيرانيّة. وإيران، بوصفها دولة مستقلّة، تمتلك
القدرة على الانطلاق مِنْ مصالحها والعمل مِنْ أجلها، كان من الطَّبيعيّ أنْ ترسم
سياستها في العراق على هذا الأساس؛ حيث مدّت يدها إلى حلفائها هناك وتعاونت معهم
ودعمتهم وعزَّزت مكانتهم.
في المقابل، وضعت أنظمة عربيّة عديدة بيضها كلّه في ما يخصّ العراق في سلّة
الأميركيين، وحصرتْ دورها هناك في مساندة المحتلّين الأميركيين على تثبيت احتلالهم لهذا البلد الشَّقيق. وذلك لأنّها أنظمة تابعة وليس لها قرار سياديّ ولا تعبِّر عن المصالح الوطنيّة لبلدانها، بل تعبِّر عن
مصالح حكّامها الَّذين لا يهمّهم سوى البقاء في السّلطة بدعمٍ أميركيّ.
وعندما أخذت الولايات المتّحدة مصالحها عنوة من العراق،
لم تمنح شيئاً لأتباعها العرب الَّذين ساعدوها في عدوانها.. حتَّى لو كان فُتاتاً،
بل لقد خسروا جميعاً في النِّهاية. وأكثر مِنْ ذلك، سرعان ما تمَّ إهمالهم وتُرِكوا في
العراء لمصائرهم. فيا للعجب! بدلاً مِنْ أنْ يلوموا الولايات المتَّحدة ويلوموا أنفسهم، راحوا يلومون إيران
لأنَّها عملت مِنْ أجل مصالحها ولم تضع نفسها مثلهم في الجيب الضَّيِّق للمصالح
الأميركيّة!
الدَّولة العربيّة الوحيدة الَّتي عملت مِنْ أجل مصالحها في
العراق، إبّان احتلاله، كانت سوريا. وأُذكِّر، هنا، بأنَّ سوريا وإيران اتّخذتا –
آنذاك – سياستين متعارضتين في العراق، ودعمت كلٌّ منهما طرفاً عراقيّاً نقيضاً
للطَّرف الَّذي تدعمه الدَّولة الأخرى. ومع ذلك، لم تهتزّ صداقتهما ولم تنتكس. وما إنْ
تعرَّضتْ سوريا لهجمة وحشيَّة مدعومة من الغرب الإمبرياليّ (وخصوصاً من الولايات المتّحدة وأتباعها
وأدواتها في المنطقة) حتَّى هبّتْ إيران لنجدتها.
وهذا مثال مهمّ لعلاقات الصَّداقة والتَّحالف الثَّابتة الَّتي تقوم
على المصالح المشتركة وعلى رؤية بعيدة النَّظر ومبدئيّة.
المثال الآخر أقدّمه من العلاقات السّوريّة الرّوسيّة؛ حيث
بعد انهيار الاتّحاد السّوفييتيّ وتولِّي أنصار الغرب السّلطة في روسيا برئاسة بوريس
يلتسين، حاول هؤلاء بكلّ السُّبل الممكنة التَّخلّص من العلاقات مع سوريا كما فعلوا
مع كلّ إرث الاتّحاد السّوفييتيّ؛ لكن سوريا ظلّت تصرّ على التَّمسّك بالعلاقات مع
روسيا وترفض الاستجابة لاستفزازات إدارة يلتسين؛ فقد كانت تبني رهانها الأساسيّ
على الشَّعب الرّوسيّ وقواه الحيّة وعلى ميراث الصَّداقة الطَّويل والعميق بين البلدين
والشَّعبين، ورأتْ ببعد نظرٍ يثير الإعجاب أنَّ روسيا لن تستمرّ بالسَّير على طريق
الذّلّ والخنوع الَّذي أراده لها أنصار الغرب الإمبرياليّ من الأوليغارشيين الرّوس. وفي النِّهاية، نجح رهان سوريا بعيد
النَّظر.
الدَّرس الثَّالث، نأخذه من العلاقات الرّوسيّة الصّينيّة؛
فلمدّة طويلة كانت الدَّولتان متعاديتان ومتصارعتان. أمَّا الآن، فتجمع بينهما علاقات
استراتيجيّة متينة ومتنامية وتتكاملان بالقوّة العسكريّة والاقتصاد وبالمواقف
السِّياسيّة الدَّوليّة.
النَّظر إلى هذه المسألة المهمّة (مسألة الصَّداقة والعداوة)
ليس أمراً جزافيّاً؛ ففي ظلّ النِّظام الرَّأسماليّ الدَّوليّ، الَّذي يتَّسم بخاصّيّة
استقطابيّة مزمنة (ومستعصية) بين مراكز مهيمنة تستولى على النَّصيب الأعظم من الثَّروات وتصنع بها
رفاهيّتها الباذخة وبين هوامش مستضعفة تعاني مِنْ هيمنة هذه المراكز وغطرستها ونهبها
لثرواتها، فإنَّ الإطار الموضوعيّ للصَّداقات والتَّحالفات (والعداوات أيضاً) الصَّحيحة واضحٌ
تماماً. إنَّه الإطار الَّذي يضع شعوب الهوامش والأطراف، والدّول الصَّاعدة الَّتي ترفض
هيمنة المراكز، في خندقٍ واحد؛ ويضع المراكز الدَّوليّة، ودوائرها وأتباعها وأدواتها،
في الخندق المقابل.
وليست المسألة في النِّهاية هي ما تزعمه عن نفسك وعن
موقفك، بل هي أيّ خندق ذاك الَّذي تقف فيه فعليّاً؟ وعندما تنظر حولك، مَن الَّذي تراه
موجوداً معك في ذلك الخندق؟ وأيّ طرف مِنْ أطراف الصِّراع هو الَّذي تخدمه في النِّهاية بأفعالك؟
ومَنْ يقف في الخندق المقابل؟
وهذا أيضاً يحدِّد البرنامج السِّياسيّ والاقتصاديّ
الاجتماعيّ الموضوعيّ؛ فمقابل برنامج الاستيلاء على ثروات الآخرين واستغلالهم
وقهرهم الَّذي هو برنامج مراكز النِّظام الرَّأسماليّ الدَّوليّ، لا بديل لهوامش النِّظام وأطرافه
عن برنامج التَّحرّر الوطنيّ الَّذي يرسي القواعد الأساسيّة لفكّ التَّبعيّة، وهي:
التَّنمية الوطنيّة، والعدالة الاجتماعيّة، والحرّيّة، والدّيمقراطيّة.
هذا هو الإطار الصَّحيح للصِّراع المحلِّيّ والدَّوليّ. ولا
يبقى، بعد ذلك، سوى «البكش» والضَّحك على الذّقون وتعمية أبصار النَّاس وبصائرهم لإبقاء خياراتهم محصورة في نطاق وضعهم الهامشيّ التَّبعيّ البائس وإدامته إلى ما لا نهاية.