سعود قبيلات ▣
«حين تُعيق مجرى الدم في الشريان تكون
السكتة، وحين تُعيق مجرى الماء في النهر يكون الفيضان، وحين تُعيق مستقبل شعب تكون
الثورة».
«فيكتور هوغو»
«ضميري
يطاردني؛ فهو الذي يتعقَّبني، ويقبض عليَّ ويحاكمني. ومتى سقط الإنسان في قبضة
ضميره، فلا مفرَّ له».
«فيكتور
هوجو»
بالنسبة لـ«نابليون الصغير»، فهو شارل لويس
نابليون بونابارت، ابن شقيق نابليون بونابرت الشهير. أسمى نفسه «نابليون
الثالث»، وأسماه فيكتور هوغو «نابليون الصغير»، ووصفه كارل ماركس
بأنَّه شخص عاديّ ومضحك مكَّنَتْهُ الظروف التي أوجدها الصراع الطبقيّ في فرنسا
مِنْ أنْ يؤدِّي دور البطل.
وقد ساهم فيكتور هوغو وكارل ماركس وبيير جوزف برودون
بقسطٍ وافر مِنْ شهرة «هذا الشخص العاديّ المضحك».
على أيّة حال، ليس هذا موضوعنا؛ موضوعنا هو فيكتور
هوغو الأديب الفرنسيّ الشهير والمناضل السياسيّ الشجاع والصلب؛ لكنَّنا
مضطرّون إلى التطرّق لـ«نابليون الصغير» على هامش هذا المتن..
كنتُ فتىً، في سنّ المراهقة، عندما قرأتُ رواية «أحدب
نوتردام»، لفيكتور هوغو. وقد جذبتني فيها كثيراً شخصيَّة الغجريَّة
الحسناء أزميرالدا، فحفظتُ عن ظهر قلب قولها: «الحبّ هو أنْ نكون اثنين ولا نكون
في الوقت ذاته إلا واحداً».
وكنتُ قد قرأتُ قبلها رواية هوغو الأشهر «البؤساء»،
بيد أنَّ «أحدب نوتردام» تركتْ في نفسي انطباعاً أكثر عمقاً وأكبر أثراً.
تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ كثيرين لا يعرفون عن هوغو
سوى أنَّه كاتب هاتين الروايتين الشهيرتين، ولا يعرفون جوانب أخرى مهمَّة مِنْ
حياته وشخصيَّته وابداعاته. ومنها، مثلاً، أنَّه كان كاتباً مسرحيّاً أيضاً، وشاعراً
تناول في العديد مِنْ قصائده الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة وشخصيَّاتها ورموزها
بشكلٍ إيجابيّ، كما تحدَّث أيضاً عن مصر القديمة وحضارتها العظيمة.. شأنه،
في ذلك، شأن معظم المثقَّفين الديمقراطيّين في أوروبَّا الغربيَّة وفي روسيا
خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
وما هو غير معروف عن هوغو، بصورة خاصَّة، هو
انخراطه الكبير في العمل السياسيّ؛ حيث كان في البداية سياسيّاً يمينيّاً مؤيّداً للمَلَكيَّة،
بل إنَّه أُنتُخِبَ عضواً في البرلمان الفرنسيّ عندما كان يتبنَّى وجهة
النظر هذه، ثمَّ سرعان ما تحوَّل إلى اليسار، فأصبح مفكِّراً اشتراكيّاً ورئيساً للحزب
الاشتراكيّ اليساريّ الفرنسيّ.
ولم يكن انخراط هوغو في العمل السياسيّ شكليّاً
ولا انتهازيّاً؛ لذلك خاض غمار الكفاح بكلّ أشكاله في سبيل القضيَّة التي كان يؤمن
بها ودفع ثمناً باهظاً لمواقفه ومعتقداته.. ما إنْ أصبح ذلك ضروريّاً. فعندما
انقلب «نابليون الثالث» في العام 1851على الدستور وعلى الجمهوريَّة، قاد فيكتور
هوغو حزبه في الشارع في محاولة ثوريَّة لإحباط ذلك الانقلاب الرجعيّ، ودعا
الشعب للثورة عليه، ولم يكتفِ باستخدام قلمه في هذا المجال.
بعد ذلك، أصبح هوغو مطلوباً من السلطة
الانقلابيَّة الديكتاتوريّة، فهرب إلى بلجيكا، وهناك أصدر كتابه «نابليون
الصغير» الذي انتقد فيه بشدَّه «نابليون الثالث» وحقَّره.
كان «نابليون الثالث»، قبل تسلّمه السلطة، منفيّاً
خارج فرنسا ولم يعد إليها إلّا بعد إطاحة ثورة العام 1848 بالنظام
الملكيّ هناك. وفي أوَّل انتخابات رئاسيّة، رشّح نفسه وفاز برئاسة الجمهوريَّة
الفرنسيَّة الجديدة فوزاً كاسحاً بالاستناد إلى اسم عمّه الشهير. غير أنَّه،
عندما انتهتْ مدَّة رئاسته، تمسَّك بالسلطة، وانقلب على الدستور والجمهوريَّة،
وأعلن نفسه إمبراطوراً بمسمَّى «نابليون الثالث»، مقلِّداً عمّه «نابليون
الأوَّل».
وفي هذا الشأن، يقول كارل ماركس في مطلع كتابه «الثامن
عشر مِنْ برومير لويس بونابرت»، الذي وضعه ليحلِّل فيه ظروف انقلاب «نابليون
الثالث»:
«يقول هيجل في مكانٍ ما إنَّ جميع الأحداث
والشخصيَّات العظيمة في تاريخ العالم تظهر، إذا جاز القول، مرَّتين. وقد نسي أنْ
يضيف: المرَّة الأولى كمأساة والمرَّة الثانية كمسخرة....».
وفي ما يخصّ الكُتُب الأخرى التي وُضِعَتْ عن انقلاب
نابليون الصغير ذاك، يقول ماركس، في المقدِّمة التي وضعها للطبعة
الثانية مِنْ كتابه الذي سبق أنْ أشرنا إليه:
«مِنْ بين المؤلَّفات التي تناولتْ الموضوع نفسه، والتي
ظهرتْ في الوقت ذاته تقريباً مع كتابي هذا، هنالك اثنان فقط جديران بالاهتمام:
"نابليون الصغير" لفيكتور هوغو و"الانقلاب"
لبرودون».
بيد أنَّه (ماركس) أبدى، مع ذلك، عدداً من الملاحظات
الأساسيَّة على كلٍّ مِنْ ذينك الكتابين، فقال:
«أمَّا فيكتور هوغو فهو يقتصر على حملات لاذعة
وبارعة النكتة ضدّ المسؤول عن تحقيق الانقلاب. والحادث نفسه يبدو في مؤلّفه كأنَّه
صاعقة في سماء صافية. وهو لا يرى فيه سوى عمل عنيف قام به فرد واحد. إنَّه لا
يلاحظ أنَّه يعظِّم مِنْ شأن هذا الفرد، بدلاً مِنْ أنْ يصغِّره، بما نسب إليه
مِنْ قوَّة مبادرة شخصيَّة ليس لها نظير في تاريخ العالم. أمَّا برودون فهو
يسعى مِنْ جانبه إلى أنْ يصوِّر الانقلاب بأنَّه نتيجة لتطوّر تاريخيّ سابق.
ولكنَّ تفسيره التاريخيّ للانقلاب قد غدا، بصورة غير ملحوظة، تبريراً تاريخيّاً
لبطل هذا الانقلاب. وهكذا وقع في الخطأ الذي يقع فيه مَنْ نسمِّيهم بالمؤرِّخين
الموضوعيّين. أمَّا أنا فإنِّي أَثبَتُّ على النقيض، كيف أنَّ الصراع الطبقيّ
في فرنسا قد أوجد الظروف والعلاقات التي مكَّنتْ شخصاً عاديّاً ومضحكاً
مِنْ أنْ يؤدِّي دور بطل».
وبالنسبة للصراع الطبقيّ الذي طفا «نابليون
الصغير» على سطحه، فيعود بالأساس إلى ظهور البروليتاريا الفرنسيَّة لأوَّل
مرَّة كقوَّة أساسيَّة خلال ثورة 1848؛ حيث كشفتْ بوضوح عن طموحها لتوجيه
مسار الثورة باتِّجاه تحقيق مصالحها، الأمر الذي أدَّى إلى حشد الطبقات الأخرى في
مواجهتها لتصطفّ في النهاية خلف القيادة البوليسيَّة المتسلِّطة لـ«نابليون
الصغير» مِنْ أجل قطع الطريق على طموحات البروليتاريا وإبعاد خطرها.
وسرعان ما صودر كتاب هوغو («نابليون الصغير»)
مِن السلطات البلجيكيَّة، بتحريضٍ من السلطات الفرنسيَّة، وأخذ
الخناق يشتدّ على صاحبه، فغادر بلجيكا إلى جزيرة جيرسي في القنال
الإنجليزيّ في شمال أوروبّا. وبقي هناك حوالي عشرين سنة، إلى أن انهزم «نابليون
الصغير» في آخر مغامرة مِنْ مغامراته العسكريَّة العديدة، وهي معركة سيدان
التي خاضها جيشه مع جيش بروسيا في مطلع شهر أيلول من العام 1870؛ فأُسِرَ
بشكلٍ مذلّ[1]، وأُسقِطَ نظامه، وأعيد النظام الجمهوريّ. وعندئذٍ، عاد فيكتور
هوغو إلى بلاده فاستقبله الفرنسيّون استقبال الأبطال.
وفي منفاه الطويل، كابد هوغو الكثير من المرارات
والآلام، لكنّه كان دائماً يتغلّب على آلامه الشخصيّة، ليعلي قضيّة وطنه وشعبه، ويتابع
العمل مِنْ أجلها.. حتَّى وهو محاصر في منفاه البعيد. وقد كتب في المنفى عدداً
مِنْ أبرز مؤلَّفاته، ومنها: روايته «البؤساء»، إضافة إلى عددٍ من المسرحيَّات
والقصائد. كما أنَّه وضع هناك أيضاً كتاباً على درجة كبيرة من الجمال والعمق هو «رسائل
وأحاديث من المنفى»[2].
يقول فيكتور هوغو:
«سرّ
العبقرية هو أن تحمل روح الطفولة إلى الشيخوخة، ما يعني عدم فقدان الحماس أبداً».
ويقول
أيضاً:
«يقظة الضمير مِنْ سباته، هي عظمة في الروح، ومجد، وخلود».
روح الطفولة الدائمة، واشتعال الحماس المستمرّ، ويقظة
الضمير والوعي، هي مِنْ أبرز سمات شخصيّة فيكتور هوغو التي استطاع بها أنْ
يتغلَّب على عشرين سنة مِنْ أوجاع المنفى القسريّ.
وفي النهاية، كما قال هوغو نفسه:
«أفعالنا تصنعنا أو تفسدنا، فنحن أبناء أعمالنا».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] عندما بدا لـ«نابليون الثالث» أنَّ تفوَّق الجيش
البروسيّ على جيشه واضحٌ، طلب مِنْ جيشه رفع الرايات البيضاء وبعث إلى ملك
بروسيا يقول:
«بما أنّي لم أتمكّن من الموت مع جنودي أضع سيفي على
أعتاب جلالتكم».
[2] سأُلقي ضوءاً على بعض جوانب هذا الكتاب في موضوعاتٍ أخرى لاحقة.