سعود قبيلات ▣
«إذا أصبح البلد غابة، ليس شرطاً أنْ تصبح حيواناً». (فيكتور هوغو).
«ليس ثمّة ثورة إلا إلى الأمام، وكلّ تمرّدٍ آخر هو شرّ، وكلّ خطوة عنيفة إلى الوراء هي فتنة». (فيكتور هوغو).
«أيها الشعب الغارق في سباته، متى تصحو؟
إنَّ الرقاد المتّصل لا يليق بمَنْ قصمته القواصم،
أنت نائم، ودمك على يديك، والندبة على جسدك
الندبة التي خلَّفها الخندق الخشن واللعين
وأثر الحبل الذي كان ملفوفاً حول رسغيك،
ماذا فعلت بروحك، أنت يا من اضطرمتَ غيظاً؟»
«وتنام ناسياً كلّ شيء: مجدك، والدسائس
والحريّة، والحقّ، والأنوار العلويّة.
وتغلق عينيك متثاقلاً، مستلقيّاً تحت أغطية بشعة،
لا تبالي بالإهانة التي تلقيها للنجوم!
هيّا، تحرّك، هيّا انهض واجلس.
ولنشهد أخيراً جذع المارد يتحرّك.
أصبحت الهجعة الطويلة خزياً وعاراً».
أمضى فيكتور هوغو السنين وراء السنين في منفاه المنعزل في جزيرة جيرسي، وراحت شعراته «تتحوَّل في العزلة مِنْ سوداء إلى شهباء، ومِنْ شهباء إلى بيضاء»، وكان الانتهازيّون يذهبون إليه ويتقرَّبون منه الواحد تلو الآخر ثمّ يبيعون ذلك بالمناصب والألقاب والأعطيات من السلطة الحاكمة؛ لكنّه رغم ذلك لم ييأس، ولم ينطفِ، ولم يستسلم، ولم تثبط عزيمته، ولم يحصر رؤاه بنطاق منفاه وظروفه البائسة؛ بل كان يمدّ بصره بعيداً ويتجاوز الزمان والمكان المحدودين بالرؤى والأحلام الكبيرة الطموحة.. فكان يحلم بأنْ تنهزم الديكتاتوريّة في بلاده وتقوم بدلاً منها ديمقراطيّة حقيقيّة راسخة، ويحلم بقيام «الولايات المتّحدة الأوروبيّة» قبل قيام «الاتّحاد الأوروبيّ» بزمنٍ طويل؛ بل يحلم بما هو أبعد مِنْ ذلك بكثير، قائلاً: «إنني أمضي إلى أبعد ما تحلم بعد كل الدبلوماسيات، فنحن لا نريد اتّحاد فرنسا مع انجلترا، بل أوروبا مع نفسها، واتّحاد أوروبا مع أميركا، واتّحاد العالم مع العالم». أي ما أسماه، هو نفسه، «الجمهوريّة العالميّة».
على أيّة حال، كثيرة هي الكتُب التي كان المنفى موضوعها، وكثيرة هي الكتابات التي تناولت المنفى، وقد قرأتُ العديد من الكتُب والكتابات في هذا المجال. بيد أنَّ أقربها إلى نفسي هو كتاب الأديب الفرنسيّ الشهير فيكتور هوغو الموسوم «رسائل وأحاديث من المنفى». وذلك لما يتَّسم به مِنْ عمق ودقَّة وشمول وحساسيَّة وجمال، في معالجته لمختلف أبعاد حياة الإنسان المنفيّ، وظروف مكان النفيّ الاجتماعيَّة والنفسيَّة والسياسيَّة والطبيعيَّة، والأبعاد العميقة لموقف المنفيّ ولموقف السلطة التي تسبَّتْ بالنفي.
العنوان الأوَّل في كتاب هوغو، هذا، هو «ماهيَّة المنفى»، ويتحدَّث تحته عن رؤيته وفهمه للقانون، استناداً إلى واقعة انقلاب «نابليون الصغير» والظلم والجور اللذين أحاقا به هو نفسه في أعقاب ذلك الانقلاب وبسببه، فيقول: «القانون المجسَّد، هو المواطن، أمَّا القانون المتوَّج فهو المشرع». ويرى أنَّ «القانون قوَّة..». ثمَّ يتساءل: «ماذا هناك خارج القانون؟». فيجيب: «العنف». ويضيف: «وليس هناك سوى ضرورة واحدة، تلك هي الحقيقة. ومِنْ ثَمَّ فليس هناك غير قوَّة واحدة، هي قوَّة القانون. والنجاح خارج الحقيقة والقانون إنَّما هو نجاح ظاهريّ، ينخدع فيه الطغاة بنظرهم القصير، فيخالون الكمين الناجح نصراً، ولكنَّه نصرٌ ملؤه الرماد والأجداث».
ومع تحفّظنا على الطابع المطلق لحديث هوغو هذا عن «الحقيقة» و«القانون»، إلا أنَّنا نفهم ذلك ونتفهَّمه في سياقه التاريخيّ الخاصّ؛ إذ، عندئذٍ، يصبح الإطلاق محكوماً بظروف المرحلة التاريخيَّة التي قيل خلالها هذا الكلام.
ويخلص هوغو، بعد ذلك، إلى أنَّ «النفي هو تجريد القانون؛ وليس ثمَّة شيء أفظع منه. ولكن بالنسبة لمن هو فظيع؟ بالنسبة للمحكوم عليه؟ كلاّ، إنَّه فظيع بالنسبة إلى مَنْ قضى به. فالقصاص ينقلب على الجلاّد فينهشه».
وهذا كلام طوباويّ، إذا نظرنا إليه مِنْ خلال الحوادث والمصائر الفرديَّة، ولكن إذا نظرنا إليه بمنظار التاريخ فهو صحيح تماماً.
ومِنْ هذا المدخل نفسه، يدخل هوغو إلى قلب حالة المنفى ليكشف عن جدليَّة العلاقة المعقَّدة بين الإنسان المنفيّ وبين الحاكم الذي تسبَّب في نفيه. يقول: «وليس ثمَّة ما هو أشدّ إرهاباً لنفوس الأشرار المتوَّجين مِنْ رجلٍ حالم يتجوَّل وحيداً على ساحل رمليّ، ومِنْ صحراء تحيط بمفكِّر، ورأس هرم هادئ تحوم حوله طيور العواصف دهشة حائرة، ومثابرة فيلسوف على مشاهدة بزوغ الفجر المهدِّئ للنفوس، والإله الذي يستشهد الناس به مِنْ وقتٍ لآخر أمام الصخور أو الأشجار، ورجل هزيل لا يفكِّر حسب، بل أيضاً يتأمَّل، وشعرات تتحوَّل في العزلة مِنْ سوداء إلى شهباء، ومِنْ شهباء إلى بيضاء، ورجل يشعر بأنَّه يتحوَّل إلى شبح بمرور الأيَّام، وكرِّ السنوات الطوال على ذلك الغائب الذي لم يزل مع ذلك على قيد الحياة، وهيبة ذلك الإنسان المحروم، وحنين ذلك البريء إلى الأوطان».
وأودّ أنْ أتوقَّف، هنا، عند بعض المعاني والأفكار المهمَّة التي اشتمل عليها هذا النصّ؛ أوّلها هو هذا الشعور بالقوَّة والثقة بالذات لدى هذا الإنسان الذي يُفترض أنَّه هو الضحيَّة، خصوصاً وأنَّ سنوات نفيه قد طالتْ كثيراً، ولكنَّه رغم ذلك كلّه يسبر أغوار لحظة منفاه ويتجاوز المظاهر الآنيَّة السطحيَّة لمعادلة القوَّة والضعف بينه وبين الحاكم المستبدّ الذي نفاه، ليصبح الحاكم الذي تسبَّب بالنفيّ هو المرعوب وهو الضحيَّة المتوقَّعة بينما المنفيّ هو مصدر الرعب والموعود بالانتصار في النهاية استناداً إلى صلابته المعنويَّة وقوَّته الأخلاقيَّة.
وفي هذا النصّ تقييمٌ عالٍ لأهميَّة الكلمة والفكرة؛ فيكفي أنَّهما مصدر قلق وتحسُّب مِن الطغاة رغم الجبروت الظاهر لهؤلاء. وهو موقف لا أملك إلا أنْ أقارنه بأسى مع ما شاع في السنوات الأخيرة على ألسنة بعض المثقَّفين العرب مِنْ كلامٍ سطحيّ يشكِّك في أهميَّة الكلمة وجدواها. ينسى هؤلاء أنَّ يسألوا أنفسهم عن السبب الذي يجعل الحكومات المستبدَّة تلاحق أصحاب الكلمة الشريفة الصادقة بكلّ ما لديها مِنْ أسباب البطش والقوَّة.
الفكرة الثانية، في هذا النصّ، التي أريد أنْ أتوقَّف عندها، هنا أيضاً، تتعلَّق بتأثير الزمن على الإنسان المنفيّ؛ ليس فقط على جانبه الجسديّ حيث «شعراتـ(ـه) تتحوَّل في العزلة مِنْ سوداء إلى شهباء، ومِنْ شهباء إلى بيضاء»، بل على ما هو أبعد وأعمق مِنْ ذلك بكثير، أي على جانبه النفسيّ، ولا أقصد هنا جانبه النفسيّ الفرديّ فقط، بل ذاك الذي يشمله ويشمل الآخرين مِنْ حوله، بل ويشمل حتَّى أولئك البعيدين عنه الموجودين في المكان الذي نُفي منه. إنَّه جانب يمتدّ ويتَّسع ليشمل المكان والزمان أيضاً، بحيث يتحوَّل الإنسان «إلى شبح بمرور الأيَّام، وكرّ السنوات الطوال على ذلك الغائب الذي لم يزل مع ذلك على قيد الحياة، وهيبة ذلك الإنسان المحروم، وحنين ذلك البريء إلى الأوطان».
لقد أصبح ذلك الإنسان شبحاً لأنَّه أصبح مع الأيَّام مربوطاً بوثاقٍ متين إلى لحظة تاريخيَّة خاصَّة تقادمتْ عليها السنون، لحظة تاريخيَّة ممطوطة ومجمَّدة، لحظة تاريخيَّة تنتظر النقطة الضروريَّة التي يجب أنْ تستقرّ في نهاية سطرها الذي طال أكثر ممَّا يجب. لذلك، تختلط الحقيقة بالوهم ويتحوَّل الإنسان الذي هو مِنْ لحمٍ ودم إلى شبح.
بيد أنَّ هذا الإنسان الشبحيّ الشفَّاف لا يلبث أنْ يصبح فجأة كثيفاً جِدّاً، بل أكثر كثافة ممَّا هو حقيقيّ؛ أي أنَّه في الواقع يصبح شبحاً شديد الحضور ما إنْ تجد النقطة الضروريَّة مكانها الطبيعيّ في آخر ذلك السطر الطويل.
وهذا ما حدث مع فيكتور هوغو عند انهيار نظام «نابليون الصغير»، وعودته على إثر ذلك مِنْ منفاه الطويل إلى وطنه الذي أضناه الحنين إليه. كان، عندئذٍ، قد أصبح تجسيداً لفكرة وموقف جمعيّين أكثر ممَّا هو إنسان حقيقيّ؛ فاستقبلته جموع شعبه الحاشدة استقبال الأبطال، ثمَّ بعد ذلك بخمسة عشر عاماً ودَّعته الجماهير نفسها إلى مثواه الأخير بحشودٍ هائلة لم تشهد فرنسا لها مثيلاً مِنْ قبل حتَّى ذلك التاريخ.
والحالة الشبحيَّة هذه ليست مقترنة فقط بالمنفى أو السجن بصورتيهما المعتادتين؛ ذلك لأنَّ هناك حالات أخرى كثيرة ومتنوِّعة للمنفى والسجن قد لا تشبه هاتين الحالتين في تفاصيلهما الخاصَّة وإنَّما تلتقي معهما في آثارهما النفسيَّة النهائيَّة. فالفقر بهذا المعنى منفى وسجن، والبؤس والشقاء أيضاً منفى وسجن، والخوف منفى وسجن، والضعف والحرمان والشعور بالظلم والاضطهاد والقهر.. هذه كلّها أيضاً تنويعاتٌ مِنْ حالة المنفى والسجن.
عندما قرأتُ نصّ هوغو هذا، تذكَّرتُ فوراً مشهداً مِنْ رواية «شارع السردين المعلَّب» لجون شتاينبك. وهي رواية جميلة تتحدَّث عن فترة الأزمة الرأسماليَّة الكبرى في أوائل ثلاثينيَّات القرن الماضي.
في تلك الرواية ثمّة رجل عجوز كان يواظب، كلّ صباح.. في التوقيت نفسه تقريباً، على عبور الشارع الذي تدور فيه أحداث الرواية، وقد وجدتني أتفاعل نفسيّاً بقوّة مع تلك الشخصيَّة التي كانت تقريباً بلا أيّ ملامح.
لقد كان ذاك إنساناً حقيقيّاً.. بلحمٍ ودمّ، لكنَّه، مع ذلك، أقرب إلى كونه شبحاً منه إلى إنسانٍ حيّ. إذ أنَّ الرواية لا تقول الكثير عن ذلك العجوز الغامض، ويبدو في الظاهر كما لو أنَّه شخصيَّة هامشيَّة مِنْ شخصيَّات الرواية.. لا أهميَّة لها فنيّاً، وليس لها أيّ مغزىً فكريّ. ولكنَّني، مع ذلك، تفاعلتُ، بقوَّة، كما سبق أنْ أشرتُ، مع تلك الشخصيَّة الشبحيَّة الغامضة، وانطبعتْ صورتها الباهتة بقوَّة في وجداني، وبقيتْ هناك (ولا تزال). الأمر الذي لم تفعله شخصيَّاتٌ أخرى عديدة خُصِّصتْ لها مساحاتٌ كبيرة في الرواية وقدر أكبر مِنْ أحداثها.
كنتُ، آنذاك، قد خرجتُ من السجن منذ مدَّة قريبة.