سعود قبيلات ▣
تناول كثير من النقَّاد والباحثين العرب ما رأوا أنَّه
موقف سلبيّ لبعض الأدباء ذوي الأصول الريفيَّة من المدينة، ولكنَّهم قلَّما ناقشوا
موقف هؤلاء الأدباء من الريف الذي جاءوا منه (ونشأوا فيه) وما هو الأسلوب الفنيّ
الذي تناولوا بوساطته موطن حياتهم الأولى. وهذا ناهيكم عن الكيفيَّة التي نظر بها
الأدباء ذوو الأصول المدينيَّة إلى الريف، والتي قلَّما التفت إليها أو ناقشها
أحد.
لقد عانى معظم أدباء الريف من استلاب وعيهم في ما يخصّ
ريفهم؛ فنظروا إليه، سلباً وإيجاباً، بعيون المدينة، وليس مِنْ زاوية واقعه
الفعليّ وظروفه الحقيقيَّة. وبعضهم الآخر اختار، تحت تأثير هذا الاستلاب نفسه، أنْ
يردَّ الصاع صاعين للمدينة؛ فيعبِّر عن عدائه لها، ويشوِّه صورتها ما استطاع إلى
ذلك سبيلا. الأمر الذي أنتج في معظم الأحيان صورة نمطيَّة كاريكاتيريَّة عن الريف
(وعن المدينة أيضاً)، بدلاً مِنْ الصورة الحقيقيَّة المطلوبة.
أستثني مِنْ هذا عدداً قليلاً من الأدباء الذين تمكَّنوا
بعمق تجربتهم وعمق وعيهم مِنْ مقاومة هذا النوع من الاستلاب الذي فرضته سطوة
النظرة المدينيَّة النمطيَّة إلى الريف.
مِنْ أبرز هؤلاء، الذين تخطّوا حاجز الوعي الزائف نحو
وعيٍ حقيقيّ لهذه المسألة، الأديب الأردنيّ الراحل غالب هلسا (ابن
بلدة ماعين/ محافظة مادبا). لقد تمكَّن غالب هلسا،
بعمق وعيه، ورهافة حسّه، وغنى تجربته الحياتيَّة والأدبيَّة، وبفكره العلميّ
النقديّ، من الانتباه إلى زيف الصورة النمطيَّة هذه، ورفْضِها، وتلمُّسِ ملامح
صورة أخرى بديلة؛ غير نمطيّة، وأقرب إلى الواقع.. بسلبيَّاته وإيجابيَّاته. فجاءت
كتابته (عن الريف وعن المدينة) معبِّرةً عن موقفه المختلف ذاك.
وسأحاول، هنا، أنْ أستعرض بعض ما كتبه غالب، نفسه، عن
قصَّة استعادته لوعيه الحقيقيّ بالريف الذي احتضن طفولته ومطالع شبابه. يتحدَّث
غالب، في هذا السياق، بشجاعة، عن أديب «ريفيّ» آخر كبير كان له أثرٌ حاسمٌ عليه،
في هذا المجال، وساعده في تعزيز بنيان الوعي المتقدِّم الذي كان قد بدأ يتشكَّل
لديه منذ فترة مبكِّرة مِنْ حياته.
الأديب «الريفيّ» الكبير، هذا، هو وليم
فوكنر الذي رسم صورة فاتنة للريف في جنوب الولايات المتَّحدة
الأميركيَّة خلال النصف الأوَّل من القرن الماضي، وكشف غنى الحياة فيه
وعمق الشخصيَّات الإنسانيَّة المنبثقة مِنْ واقعه.
وتأثير فوكنر في غالب هلسا معروف،
وبالإمكان ملاحظته بسهولة، سواءٌ أكان ذلك في ما يتعلَّق بلغته أم بأسلوبه أم
بطريقة رسمه لشخصيَّاته الروائيّة أو القصصيّة. بيد أنَّ هذا ليس هو موضوعنا هنا،
بل إنَّ موضوعنا هو الكيفيَّة التي أثَّر فيها فوكنر في أسلوب
نظر غالب هلسا إلى الريف، تحديداً، كما يعرضها غالب هلسا نفسه.
يقول «هلسا» في موضوعٍ كَتَبَه عن فوكنر:
«أتذكَّر الأثر الذي كانت تخلِّفه زيارة أقربائي مِنْ
سكَّان عمَّان للقرية التي ولدتُ وعشتُ طفولتي الأولى فيها. كانت عمَّان آنذاك
بلدة صغيرة، لم يكن عدد سكَّانها يزيد على ثلاثين ألفاً. كانت بداية مدينة. ولكن
أهلها كانوا يعيشون أسلوباً في الحياة يختلف جذريّاً عن أسلوب الحياة في القرية.
أتذكَّر الغثيان الذي كان يحدثه هؤلاء الزوَّار في نفسي.
فهم كأبناء مدينة تشكَّلت لديهم رؤية مخالفة لرؤيتي كقرويّ، كانوا يرون القرية
كوضع ثابت، بلا عمق تاريخيّ، وبلا مفاهيم وقيم مخالفة للمدينة. ولهذا تصبح نساء
القرية وبناتها قبيحات، ورجالها مضحكين، وماؤها غير نقيّ، وطعامها مفتقد للنظافة
والإتقان».
ثمَّ يصف كيف انعكستْ عليه تصوّرات أقربائه المدينيين
السلبيَّة، هذه، عن القرية، فيقول:
«كان عالم كامل من الجمال والفروسيَّة والشعر يتهشَّم
أمامي. إنَّ ذلك التوقير الذي كنتُ أحمله للمدينة – الحلم كان يدعوني لتبنِّي تلك
الرؤية الوضعيَّة لقريتي. كانت عمَّان والمدن الأخرى الكبيرة (دمشق، القاهرة)
بالنسبة لي هي مجرَّد إعادة إنتاج لقريتي، إعادة إنتاج تضيف إلى القرية تحقُّق
أحلام يقظتي فيها.
لم يكن ذلك الغثيان نتيجة، فقط، لتوقيري للمدينة (حيث
تقف متجسِّدة، مترقِّبة أحلام يقظتي)، بل لأنَّني لم أكن أعرف كيف أشرح قريتي،
وبالتالي، كيف أبرهن على خطأ تلك النظرة الوضعيَّة».
ثمَّ يتحدَّث، بعد ذلك، عن الكيفيَّة التي انعكس فيها،
على أدبه، ذلك الصراع ما بين الصورة التي يحملها هو عن قريته وبين الصورة التي
يحملها عنها أقرباؤه العمّانيّون:
«في روايتي القصيرة (وديع والقدّيسة ميلادة وآخرون) التي
كتبتها قبل أنْ أبلغ سنَّ العشرين، وقبل أنْ أقرأ (فوكنر)، كانت تسود رؤيتي للقرية
تلك الرؤية الوضعيَّة: أهل القرية وقد اجتذبهم حلم الشفاء مِنْ كلّ الأمراض،
فأسرعوا إلى الطفلة، التي ظهرتْ لها أمّ المسيح مريم، ولكنَّهم عادوا بخيبة أمل،
وقد قام التجَّار منهم بمزج الزيت المقدَّس بزيت زيتون عاديّ ليزيدوا مكاسبهم.
ولكنَّني، في الوقت ذاته، مارستُ انتقامي – انتقاماً لخيبة أملي – مِنْ عمَّان؛ إذ
بدا أهلها ضيِّقي الأفق، مفجوعين بأحلام لا تتحقَّق».
وينتقل، بعد ذلك، للحديث عن تأثير قراءته لبعض
أعمال فوكنر على أدبه، وكيف أنَّها غيَّرتْ أسلوب معالجته لموضوع
القرية ونظرته إليها:
«بعد ذلك (أي بعد رواية «وديع والقدّيسة ميلادة وآخرون»)
بسنة كتبتُ روايتي القصيرة الثانية (زنوج وبدو وفلاَّحون)، وكنتُ قد قرأتُ بعض
أعمال (فوكنر). أدركت، آنذاك، بشكل غامض، أنَّ عليَّ حتَّى أكتب عن القرية أنْ
أستعيد إحساسي الأصيل بها، وأنْ أتخلَّى عن تلك النظرة الوضعيَّة، التي غَرَسَتْها
فيَّ المدينة. إنَّ عالم الزنوج والبدو والفلاَّحين لا يُرى كقطاع عرضيّ مبتوت
الجذور بماضيه وبمفاهيمه الخاصَّة. إنَّ تلك اللحظة الوضعيَّة لقطاع عرضيّ هي لحظة
موضوعة في سياق تاريخيّ، في التاريخ الذي لا يتكشَّف بكلّ أبعاده إلا لمن يعيش في
داخله».
ويتابع هلسا حديثه عن الأثر العميق
الذي تركه أدب فوكنر على رؤيته للقرية:
«شيءٌ آخر كنتُ أعيشه وأرى العالم مِنْ خلاله، ولكنَّني
كنتُ عاجزاً عن إيضاحه لأقاربي مِنْ أبناء المدينة، قبل أنْ أقرأ فوكنر. كنتُ أرى
البشر مِنْ حولي أناساً لهم تاريخ، وأنَّ هذا التاريخ حاضر فيهم، سبق وأنْ تحدثتُ
عن تلك المرأة، التي لم يكن جمالها من النوع الذي يبهر المدينة. ولكن رؤيتي لتلك
المرأة كانت عبر أسطورتها أو تاريخها، حسب المفهوم الفوكنريّ: صراع العشَّاق على
الزواج بها، استسلامها للحبّ، الذي لم يكن يتضمَّن صياغة مصيرها بيدها، الحكايات
التي تكوَّنتْ حولها الخ...
فكيف أُفسِّرها لأبناء المدينة الذين رأوها منفصلة عن
تاريخها – أسطورتها واكتفوا بالرؤية العابرة؟».
ولذلك لم يكن تأثير فوكنر عليه سطحيّاً
وعابراً:
«لقد كان أثر (فوكنر) قويّاً عليَّ إلى حدّ أنَّه تسلَّل
إلى لاوعيي». «لم أكن، بالطبع، أتقصَّد ذلك. ولكنَّني لو أعدتُ قراءة رواياتي
بدقَّة لاكتشفتُ الكثير من المعطيات الفوكنريَّة وقد استقرَّتْ في داخلي، آخذة شكل
اللاوعي الفاعل».
وبشكلٍ عامّ، فقد كان فوكنر أحد قلَّة
من الأدباء الذين تركوا بصماتٍ قويَّة وواسعة على أساليب الكتابة الأدبيَّة في
القرن العشرين. ومِنْ أبرز هؤلاء الذين لا يزال تأثيرهم مستمرّاً حتَّى الآن:
1. كافكا، بغرائبيَّته التي سعى مِنْ خلالها إلى الغوص عميقاً في العقل الباطن
للإنسان، بحثاً عن أسئلة الوجود الحقيقيَّة، وعن سؤال الحريَّة، وعن الشرط
الإنسانيّ، في ظلّ الإمبراطوريَّة النمساويَّة الهنغاريَّة التي
كانت آخذةً في الأفول والتلاشي آنذاك؛
2. جيمس جويس، الذي مزج بين الاستخدام المركَّب للّغة وبين توظيف تيَّار الوعي،
لكشف مجاهل ومكنونات اللاوعي، مستفيداً بمعطيات «التحليل النفسيّ»،
الذي كان حقلاً علميّاً جديداً آنذاك؛
3. أرنست هيمنجواي، صاحب تكنيك «جبل الجليد العائم»، الذي أنجز
ثورةً مهمَّة في الكتابة الخالية من الابتذال والميلودراميَّة، وأجاد توظيف تفاصيل
الحياة اليوميَّة البسيطة التي قد تبدو تافهة وبليدة في التعبير عن معاني
إنسانيَّة وحياتيَّة عميقة، كما أنَّه اعتمد في رسم ملامح شخصيَّاته على تتبُّع
حركاتها العاديَّة وردود أفعالها الخارجيَّة البسيطة، متجنِّباً إقحام صوت الراوي
عليها أو جعله كليّ القدرة والاطِّلاع مثلما كان شائعا في الرواية والقصَّة قبل
ذلك؛
4. وليم فوكنر، بلغته المكثَّفة والمنقَّحة جيّداً، الذي يحيل إلى
أجواء (ومحمولات) شعريَّة فاتنة مِنْ دون أنْ يقع أسيراً للّغة الشعريَّة
وزخارفها. وكما هو الأمر في الحياة الحقيقيَّة، يتميَّز سرده (ولغته) بالكثير من
الثغرات والثقوب والانقطاعات، التي تدفع المتلقِّي إلى تعبئتها بنفسه مِنْ دون
أيِّ عونٍ من الكاتب. وهذه الثقوب والثغرات ليست عيوباً، بل هي مقصودة وجانب مهمّ
ومثير من البناء الفنيّ المدروس والمتقن للرواية، غايته مخاطبة لاوعي المتلقِّي
بصورة عميقة ومباشرة وتحفيزه للتفاعل بقوّة مع أحداث الرواية وشخصيّاتها والصور
المبثوثة فيها.
وفوكنر يعبِّر عن الحياة الريفيَّة مِنْ داخلها وبمفاهيمها وبرؤيتها
وتفاعلاتها الحقيقيَّة، ثمَّ يترك للمتلقِّي أنْ يراها ويتفاعل معها مِنْ زاويته
الخاصَّة المستندة إلى نوعيَّة خبراته الحياتيَّة وبيئته وتكوينه النفسيّ ورؤيته
الفكريَّة وثقافته.
والأهمّ مِنْ ذلك هو أنَّ فوكنر قدَّم
صورة فاتنة للريف مِنْ دون أنْ يزيِّف واقعه الصعب والقاسي والمليء بالعيوب
والتناقضات، وأحال الحياة العاديَّة فيه إلى محمولاتها الشعريَّة مِنْ دون أنْ يستسلم
لإغراء اللغة الشعريَّة أو يقع في الابتذال والميلودراميَّة.
وبرأي غالب هلسا فإنَّ كثيرين ممَّن
كتبوا عن فوكنر لم يفهموه جيَّداً لأنَّهم لم يدركوا المأزق
الحقيقيّ للجنوب الأميركيّ الذي عبَّر عنه. ويسمِّي هلسا مِنْ
بين هؤلاء: جوزيف وارن بيتشي، فردريك هوفمان، ويندهام
لويس، ف. ر. ليفس، ماكسويل جيمار، سين
أوفالين، غراهام غرين، جان بول سارتر، وروجيه
غارودي.
وهو يعيد هذا الالتباس في الفهم إلى كون «هؤلاء
كلّهم أبناء مدن صناعيَّة كبرى: نيويورك، واشنطن، سان فرانسيسكو، لندن، باريس..
وغيرها. وعندما يفسِّر هؤلاء فوكنر قد يقولون أشياء مهمَّة، ولكنَّهم يفسِّرونه
انطلاقاً من معطياتهم الاجتماعيَّة والثقافيَّة».
وهم لذلك – برأي غالب – يتجاهلون المأزق الذي عبَّر عنه
فوكنر «المأزق الاجتماعيّ للجنوب؛ إذ يتحوَّل مِنْ مجتمع نصف بدويّ ونصف
زراعيّ إلى مجتمع صناعيّ متقدِّم. فلم يكن أمراً مثيراً للتفاؤل أنْ يندمج هذا
الجنوب في ذلك النمط الأميركيّ للحياة، المفرغ من الروح. إنَّه لقاء بين روح
الجنوب السائرة إلى الانحلال وبين الشمال العنّين..».
وهذا، برأي هلسا أيضاً، هو السبب الذي
يجعلنا «نحن، أبناء العالم الثالث، نستطيع أنْ نقول الجديد والمتميِّز عن
فوكنر».
وهنا، يخطر في بالي (كمثال مِنْ أبناء العالم الثالث،
هؤلاء) غابرييل غارسيا ماركيز، الذي لم يكتفِ بأنْ بنى عالمه الروائيّ
على غرار عالم فوكنر الروائيّ؛ حيث ابتكر منطقة خياليَّة وأجرى
أحداث بعض رواياته فيها، وسرد تاريخ سلالة معيَّنة نشأت وعاشت وتناسلت وتحدَّدتْ
مصائرها هناك، كما استفاد مِنْ لغة فوكنر المميَّزة وتكنيكه، بل
إنَّه أيضاً قام في مطلع شبابه بزيارة الجنوب الأميركيّ وتجوَّل
فيه ليطَّلع على نوعيَّة الحياة التي استند إليها فوكنر في بناء
عالمه الروائيّ الساحر.
وهذا ليس غريباً؛ فالعالم الثالث (ومنه أميركا
اللاتينيَّة ونحن) هو أيضاً، على نحوٍ ما، جنوب أميركا وجنوب
الغرب كلَّه، كما أنَّه ريفهما.
ويقارب غالب هلسا، بصورة غير مباشرة، ما بين
البيئة التي نشأ فيها فوكنر وبين البيئة التي نشأ فيها هو؛
فيقول:
«لقد وُلِدتُ ونشأتُ في مجتمعٍ يتحوَّل من البداوة إلى
الزراعة، ومن الزراعة إلى التجارة».
وربَّما كان مضمون هذه
المقاربة بالذات هو السبب الذي جعل ثلاثة مِنْ أبرز الأدباء الأردنيين يتأثَّرون
بصورة حاسمة بأسلوب فوكنر وتقنياته وأجوائه؛ وهم: غالب
هلسا، نفسه؛ وتيسير سبول، في «أنت منذ اليوم»
(خصوصاً)؛ ومؤنس الرزَّاز، في العديد مِنْ رواياته.