سعود قبيلات ▣
«تفيقُ
الغداةَ وتنسى»..
في قصيدته الأخيرة، التي تمَّ العثور عليها معه بعد
انتحاره، قال تيسير السبول:
«أنا يا صديقي
أسيرُ مع الوهم، أدري.
أُيمِّمُ نحو تخوم النهاية
نبيّاً غريبَ الملامح أمضي إلى غير غاية
سأسقط، لا بدَّ يملأ جوفي الظلام
نبيّاً قتيلاً وما فاه بعد بآية.
وأنت صديقي..
وأعلمُ، لكن قد اختلفتْ بي طريقي
سأسقط، لا بدَّ
أسقط يملأ جوفي الظلام
عذيرك بعد
إذا ما التقينا بذات منام
لكم أنت تنسى..
عليك السلام».
فهل هو حقاً لم يَفُه بآيته؟ أم أنَّه كان يشعر في قرارة
نفسه باللاجدوى بعدما فاه بها وانتهى منها؟
«لقد انتهى
أمرٌ تافه»..
فلاديمير ماياكوفسكي، الشاعر السوفييتيّ المرهف والنموذج الأقرب إلى تيسير
السبول[1]، فاه بآيته وهو في الثانية والعشرين مِنْ عمره، فكانت «غيمة في بنطال[2]»!
بعد ذلك، توالت عليه السنون حتَّى بلغ السابعة والثلاثين
مِنْ عمره، فوضع طلقة في رأسه (في العام 1930) وأنهى الأمر، تاركاً وراءه الرسالة
التالية:
«إلى الجميع،
إنَّني أموت الآن. ولا أتَّهم أحداً.. ولا أريد أدنى ضجَّة، فالموتى يبغضون ذلك. يا
أمِّي، يا إخواني، يا رفاقي، سامحوني إنَّ ما فعلته ليس مخرَجاً ولا أنصح به
أحداً، ولكنَّه كان مناسباً لي، ولا حلّ آخر غيره كان يلائمني.
يا لِيلِي.. أعطني حبَّكِ..
إلى رفاقي في الحكومة.. إنَّ أسرتي هي لِيلِي بريك، وأمِّي وأختاي. فإذا
كنتم تستطيعون تسهيل حياتهم ولو قليلاً، فالشكر لكم..
لقد ابتدأت الأشعار، فأعطوها إلى آل بريك، فسيجدون أنفسهم فيها..
وكما يقال
وقارِب الحب
قد تحطَّم على صخرة الحياة اليوميَّة.
وعجزتُ عن
أن أعبِّر عن أحزانها
وعثراتها،
وأخطائها المشتركة.
ولتنعموا
بالسعادة».
«ولتنعموا
بالسعادة».. ربَّما كانت هذه العبارة «اللئيمة» هي الأكثر إيلاماً في هذه الرسالة. أمّا قوله «رفاقي في الحكومة»، فقصد به «الحكومة السوفييتيّة». وأمَّا لِيلِي بريك (1891 – 1978)، فكانت المرأة التي
ارتبط معها بعلاقة حبّ جامحة. ويجدر بنا هنا أنْ نشير إلى أنَّ لِيلِي
وشقيقتها إلزا (1896 – 1970) كانتا قصّةً بحدِّ ذاتها في الثقافة الروسيّة والسوفييتيّة
والعالميّة.
في مقالٍ عن لِيلِي، ترجمه الشاعر والمترجم المصريّ عماد أبو صالح
ونُشِرَ في مجلّة «الفيصل» السعوديّة (31 آب/أغسطس 2017) جاء إنَّها (أي لِيلِي) [«كانت
أينما تسير، يتبعها طوابير من المعجبين والعشّاق والمجانين. حين تراها لن يكفي أن تقول:
«جميلة»، لا بدّ أن
تصرخ عاليًا: «منتهى الجمال!»].
وصفها الشاعر التشيلي العظيم بابلو نيرودا بـ«ملهمة الطليعة الروسيّة»[3]. وكانت امرأةً عالية
الثقافة ومقبلة على الحياة جدّاً، امتدّ بها العمر حتَّى بلغ سبعة وثمانين عاماً. في
عيد ميلادها الخامس والثمانين أهداها مصمِّم الأزياء الفرنسيّ الشهير إيف سان لوران فستاناً
جميلاً مِنْ تصميمه[4]، وفي السابعة والثمانين مِنْ عمرها وضعتْ حدّاً لحياتها بنفسها. وأمّا شقيقتها إلزا، فتزوَّجت من شاعر المقاومة
الفرنسيّة الكبير لويس أراغون. ولأراغون – كما هو
معروف – كتابٌ ملحميّ جميل باسم «مجنون إلزا» استلهم فيه شخصيّة «مجنون ليلى» وكرَّسه للحديث عن آخر أيّام العرب في الأندلس مِنْ
زاوية نظرهم هم وليس مِنْ زاوية نظر من انتصروا عليهم، كما حاول فيه أنْ يُنصف أبا
عبد الله الصغير مِنْ ظلم التاريخ الذي لحق به.. حسب رأيه.
ونعود إلى انتحار ماياكوفسكي..
لقد اجتهد مثقَّفو العالم وباحثوه كثيراً في تفسير سبب
هذه المأساة، وكُتِبَ عن ذلك مقالات ودراسات وكُتُب؛ لكنّني أعتقد أنَّ السبب الحقيقيّ
هو أنَّه قال آيته وانتهى منها! وهذا واضح مِنْ قوله في رسالة انتحاره:
«لقد زهدتُ
الحياة.
وعجزتُ عن أن أعبِّر عن أحزانها
وعثراتها، وأخطائها المشتركة.».
فعندما يكون، لدى الإنسان، ما يقوله وما يفعله، لا يمكن
أنْ يفكِّر بإنهاء حياته.
في
العام 1935، كتبت لِيلِي إلى الزعيم السوفييتيّ يوسف[5]
ستالين
تشكو مِنْ أنَّ ذكرى ماياكوفسكي وأعماله الأدبيّة تتعرّض للتجاهل والإهمال،
فأصدر ستالين أمراً بحلّ هذه المشكلة فوراً، وقال: «ماياكوفسكي
كان ولا يزال الأفضل، الشاعر الأكثر موهبة في عصرنا السوفييتي. تجاهل ذكراه
وأعماله الإبداعية جريمة»[6].
لقد كان ماياكوفسكي (ومثله تيسير السبول)
مِنْ ذلك النوع من الناس الذي يومض في فضاء الحياة كالشهاب، فيغوص بريقه عميقاً في
النفوس ولا يبرحها أبداً. وبعد ذلك، يصبح عيشه فائضاً عن الحاجة، وضرباً مِنْ يومٍ
واحدٍ طويل، أو خاتمة ممطوطة لقصَّةٍ انتهت.
«فصل في الجحيم»
آرثر رامبو (20 تشرين الأوَّل/أكتوبر 1854 - 10 تشرين الثاني/نوفمبر
1891)، شاعر فرنسا الخالد، الذي كانت آيته الشهابيّة «فصل في الجحيم»[7]، عالج الأمر بطريقة مختلفة ظاهريّاً؛ فقد قال هو الآخر كلَّ ما لديه قبل
بلوغه سنّ الحادية والعشرين، ثمَّ توقَّف نهائيّاً عن الكتابة.. «لا كلمات بعد الآن، إنّني أدفن الميّت في بطنيْ».
وفي «فائض العمر» الذي تبقَّى لديه، التهى بأمورٍ لا علاقة لها بالشعر
بينما هو يتشكَّى قائلاً: «لقدّ بدَّدتُ حياتي عبر كَوني مُرهَف الحَسّ»؛ فغادر باريس وجال في ثلاث قارّات، وزار القاهرة والاسكندريّة والحبشة، ثمّ
ذهب إلى عدن وأمضى هناك حوالي عشر سنوات (1880 – 1890)، خاض خلالها في تجاراتٍ بائسة[8]، وما لبث أنْ صاح بغضب: «أوقفوا هذا العالم، أريد النّزول»، ومات قبل أنْ يُتِمَّ السابعة والثلاثين مِنْ عمره، متأسِّياً على زمنٍ
لم تكن السماء فيه «محجوبةً بالغيوم، بل كانت تتلألأ بنور الوثنيّة المجيد»، ومضى قُدُماً نحو الأبديّة التي هي «البحر مختلطاً بالشمس».
وكان، في مطلع حياته، وفي فصل جحيمه البركانيّ ذاك، قد
قال:
«أعتقد نفسي في الجحيم إذاً أنا فيه».
وقال أيضاً:
«.... أليس باستطاعتنا أنْ نتمتَّع لبضع سنوات بالراحة الحقيقيَّة في هذه
الحياة؟ إنَّ هذه الحياة هي لحسن الحظّ الوحيدة وإنَّ ذلك لا ريب فيه، لأنَّنا لا
نستطيع أنْ نتصوَّر حياةً أخرى أكثر مِنْ هذه سأماً وأشدّ منها سقماً....».
هوايات خطرة
أرنست هيمنجواي كان أشطر، بعض الشيء؛ فقد قسَّطَ آيته على بضع رواياتٍ
وعددٍ من الكتب القصصيَّة، وانهمك في أثناء ذلك في ممارسة الكثير من الهوايات
العنيفة والخطيرة.
ومنها: خوض الحروب؛ حيث أنَّه تطوَّع في الحرب
العالميَّة الأولى إلى جانب الحلفاء، وفي الحرب الأهليَّة الإسبانيَّة إلى جانب
الجمهوريين اليساريين، وفي الحرب العالميَّة الثانية إلى جانب الحلفاء.
ومنها أيضاً: ممارسة الصيد، بأنواعه المختلفة
(البرَّيَّة والبحريّة).
ومنها كذلك: ارتياد حلبات مصارعة الثيران.
ومنها: الجلوس الطويل في الحانات، والمشاركة في شجاراتها.
وطبعاً، قبل هذا وبعده، كانت مصاحبة العديد من النساء.
ولكنّه، في النهاية، وضع حدّاً لحياته ببندقيَّة صيد قديمة
وهو في مطلع الستينيَّات مِنْ عمره.
أُردنيّون خمسينيّون..
عرار 25)أيّار/مايو
1899 - 24 أيّار/مايو 1949)، وقد كان سبَّاقاً لعصره.. في فكره، وقيمه، وسلوكه، وفي لغته وشكل
قصيدته.. حيث كان مِنْ أوائل الذين كتبوا قصيدة التفعيلة في العالم العربيّ؛ ففي
العام 1942، نُشِرَتْ له ثلاث قصائد مِنْ هذا النمط، هي: «متى»، و«أعن الهوى»، و«يا حلوة النظرة». وكان ذلك قبل نشر قصيدة نازك الملائكة «الكوليرا» (في العام 1947)، بخمس سنوات. ويُشار عادةً إلى تلك القصيدة باعتبارها القصيدة التي دشَّنت شعر التفعيلة. ونازك الملائكة نفسها أكَّدت أنَّ عرار كان واحداً من الذين سبقوها في كتابة قصيدة التفعيلة. جاء ذلك في المقدِّمة التي وضعتها للطبعة السادسة
مِنْ كتابها «قضايا الشعر المعاصر»[9].
وكان عرار حسّاساً جدّاً في مواجهة التمييز الذي
مارسته ضدّ شعبه سلطة وافدة فرضها الانتداب البريطانيّ على بلاده. ومِنْ هنا كان
تغنِّيه بالمساواة التي يعيشها مجتمع النَّوَر (الغجر، كما يُسمّون في بعض البلاد العربيّة) وتفضيله العيش معهم في الكثير من
الأوقات. ولقد عاش خمسين عاماً، ورحل قبل ذكرى ميلاده بيومٍ واحد. وكانت وصيّته:
«يا
أردنيّات، إن أَودَيْتُ مغتربًا
فاْنسِجنَها
–
بأبي أنتنَّ –
أكفاني
وقُلنَ
للصَّحبِ: وارُوا بعضَ أعظُمِهِ
في
تَلِّ إربدَ.. أو في سَفحِ شيحانِ
عَسَى
وعلَّ بِهِ –
يوماً –
مُكَحّلةً
تَمُرُّ..
تَتْلُو عَليْهِ حِزبَ قرآنِ».
غالب هلسا (18 كانون الأوّل/ديسمبر 1932 – 18 كانون الأوّل/ديسمبر 1989)، اضطرّ لمغادرة البلاد
بعد إعلان الأحكام العرفيّة في أواسط خمسينيّات القرن الماضي ليتنقَّل بين المنافي
العربيّة.. عاش مُدَّةً طويلةً في مصر، وكان يُعدُّ مِنْ أبرز الكُتّاب والمثقّفين
فيها. وكان له أثرٌ كبير في إطلاق موجة الحساسيّة الجديدة هناك. وترك
انطباعاً قويّاً لدى كبار الكُتّاب والمثقّفين المصريين. ثمّ أبعده نظام الرئيس
أنور السادات بعد «كامب ديفيد» إلى بغداد. وعاش هناك فترةً من الزمن، وقد كتب عن تلك الفترة روايته «ثلاثة وجوه لبغداد». بعد ذلك ذهب إلى بيروت وأقام فيها حتَّى وقوعها تحت
الاحتلال الإسرائيليّ في العام 1982. ثمّ ذهب إلى دمشق. وبينما هو يستعدّ للعودة
إلى عمّان بعد بدء الانفراج السياسيّ في الأردنّ في أواخر العام 1989، توعَّك فجأة
وتوفِّي في دمشق في 18 كانون الأوَّل/ديسمبر 1989. وكان ذلك هو يوم ميلاده أيضاً؛
حيث أكمل العام السابع والخمسين مِنْ عمره.
وهذه مفارَقة مِنْ مفارَقات كثيرة حفلت بها حياة غالب
هلسا. ومن المفارقات الأخرى، أنَّه غادر البلاد متسلِّلاً، وعندما عاد إليها محمولاً
في تابوت كان في استقباله عند الحدود في الرمثا حشدٌ كبيرٌ من الكُتّاب والمثقّفين
والنشطاء السياسيّين والأشخاص العامّين.. وخصوصاً وزير الثقافة الأردنيّ – آنذاك – الدكتور خالد الكركيّ.
والمفارقة الأخرى، كانت بعد سنين طويلة مِنْ رحيله؛ حيث
عدَّل وزير الثقافة الأردنيّ – آنذاك – الدكتور عادل الطويسيّ (في العام 2007) نظام
جائزة الدولة التقديريّة ليسمح بمنح الجائزة إلى أدباء راحلين، وكان ذلك مِنْ أجل
منحها إلى اسم غالب هلسا تحديداً. وفي خطاب منح الجائزة تمَّتْ الإشارة إلى أنَّ غالب
هلسا كان عضواً في الحزب الشيوعيّ الأردنيّ. وهنا تكمن مفارقة أخرى؛
فعضويّة غالب في الحزب الشيوعيّ الأردنيّ هي بالتحديد ما كان قد اضطرّ
بسببها إلى مغادرة البلاد في خمسينيّات القرن الماضي. تجدر الإشارة، هنا أيضاً،
إلى أنَّه في تلك الفترة نفسها، صدرتْ في عمّان لأوَّل مرّة (ولآخر مرَّة، مع
الأسف!) تسعة مِنْ كُتُب غالب هلسا، تحمَّلت وزارة الثقافة كلفة إصدارها
كاملةً وتعاونت في عمليّة الإصدار مع رابطة الكتّاب الأردنيّين.
مؤنس الرزَّاز (3 كانون الأوّل/ديسمبر 1951 – 8 شباط/فبراير 2002). استطاع مؤنس، بصعوبة، أنْ يقسّط آيته
(وحياته) على واحدٍ وخمسين عاماً. وكان مندهشاً جدّاً عندما بلغ سنَّ الخمسين. وفي
آخر مؤلَّفاته («السيرة الجوّانيّة») الذي لم يُنشَر بعد – مع الأسف – ابتكر شخصيّة ملاكة الموت «إزرا» وراح يتغزَّل بها راجياً إيّاها أنْ تأخذه أخذ عزيزٍ
مقتدر. فرحل وكان عمره عندها واحداً وخمسين عاماً، أمضاها في «مَدّ اللسان الصغير
في وجه العالم الكبير»[10]. وكان يظلُّ يقول: الكُتّاب الأردنيّون يرحلون غالباً
وهم في خمسينيّات أعمارهم.
محمّد طُمَّليه (1957 – 2008)، جلس على جاعد[11]، وذرَّب لسانه وراح يسوط به كلّ الظواهر البليدة الغبيّة وعسف السلطة
وتجبّرها. ومِنْ كثرة ما استخدم لسانه لهذا الغرض، تسلّل إليه الموتُ منه.
وطُمَّليه بالكاد غادر الأردنّ عندما كان فتىً ليدرس في بغداد. لم يتحمَّل الابتعاد
عن بلاده، فترك الدراسة هناك وعاد بعد حوالي عام ونصف ليلتحق بالدراسة في الجامعة
الأردنيّة. وفي قصّة له عن هذا الموضوع، كان الشخص الرئيس في القصّة يذهب كلّ
يوم إلى موقف سيّارات النقل العاملة بين عمّان وبغداد ليرى والحنين يعذِّبه الناس
القادمين مِنْ عمّان والذاهبين إليها. وفي النهاية يركب إحدى تلك السيّارات، ويعود
إلى عمّان وقد راحت تتردَّد في أذنيه أغنية فيروز: رُدَّني إلى بلادي.
عاش طمّليه حوالي 51 وخمسين عاماً دأب خلالها على
كتابة «نصوص خادشة للحياد العامّ»[12]. ورحل
في تاريخ 15 تشرين الأوَّل/أكتوبر 2008، وكان في أكثر من نصٍّ
له، قد «استعار فكرة كتبها
دوستويفسكي تقول إنّه لا يليق برجلٍ يحترم نفسه أن يعيش أكثر مِنْ خمسين عامًاً»[13].
حبيب الزيوديّ (1963 – 2012) وقد كرَّس قصائده الفصيحة، المنشورة في دواوينه
(ولا أقول المغنَّاة.. فتلك لها قصّة أخرى)، للتغنِّي بالأردن والشعب الأردنيّ
ورموزهما الوطنيّة الحقيقيّة. وحبيب شاعر سلس وعميق ومرهف وصوره مبتكرة
ومدهشة. ولقد سار على طريق عرار وخطا خطواتٍ بعيدةً إلى الأمام. ما أهَّله
لأنْ يقول في مئويّة عرار:
«أبعد ظلالك عن
كلامي......إنّي عبدتك ألف عامِ
ما
مسَّ برقك حين فَجْفَجَ في السماء سوى عظامي
أبعد
غمامك عن حقولي فهي تستسقي غمامي
اليومَ
لي لغتي وترعى في مفاليها رئامي
واليوم
لي باعي وإيقاعي يفيض على كلامي
واليوم
لي قمحي وحوراني وعمّاني وشآمي
واليومَ
لي وشمي وباديتي وقطعاني أمامي
خلّفتني
وحدي أجوس الأرض والبيد الظوامي».
في
مقالٍ[14]
للشهيد ناهض حتَّر رثا به حبيب، قال: «أراه
الآن وهو يقتحم مكتبي ويبدأ بالإنشاد، واقفاً منفعلاً فخوراً، قصيدته عن الشهيد وصفي
التل. كان يبتعد ويبتعد في ممارسات يعرف أنّني أبغضها، لكنّه ظلّ مخلصاً
للمهمّات الشعريّة التي انزرعت في وجدانه منذ سروات الجامعة وظلالها الغامضة. كان
العهد السريّ غير المكتوب بيننا أن يكون أجمل ما في موهبته خالصاً للأردن ورجاله
وناسه وأرضه: نمر العدوان وصايل الشهوان وعرار ووصفي وحابس وتيسير
السبول والشهيد الشيوعيّ حمدان الهواري والشيوعيين الأحياء والسنديان والكروم
والتين والجنود والحرّاثين والصبايا السمر. وكان حرّاً بما يفضل مِنْ بقايا موهبة
أن يتصرّف بها كما يشاء».
ويضيف
الشهيد ناهض قائلاً: «أراد
الفتى حبيب أن يكون شيوعيّاً؛ فلم يستطع أن يتقيّد بنظاميّة الفكر ولا أن
يتحمّل الأعباء، لكنّه ظلّ مخلصاً للروح الوهّاجة للأحمر في العلم الأردنيّ حتّى
الرمق الأخير. وكانت آخر مشاريعه الاحتفال بسنديانة الأردن، الزعيم يعقوب
زيّادين. عشرون مرة هاتفني أو زارني لكي يتخيّل معي احتفالاً عظيماً في العالوك
بالرجل الكبير».
حيثما
مرَّ يعقوب زيَّادين..
في
إحدى قصائده الأخيرة، وهي بعنوان «الغيوم
على السفح عالية والسماء قريبة»،
قال حبيب:
«الغيوم
على السفح عالية والسماء قريبة هنا:
قرب
تمتمة السنديان، على النبعِ
باغتني
أوّل العمرِ
أوّل
حبٍّ
تصدّع
قلبي له حين باغتني البرق،
برق
التي وعدتني ولم تأت،
لم
تأت، حتّى أمرّن قلبي على الحبّ والطيران،
...
فلوّح لي القلب وهو يودّعني ويطير وراء الحبيبة
وما
الحبّ إلا الغيوم على السفح عالية والسماء القريبة
يا
سدوم الغريبة
يا
سدوم التي عقرت ناقة الله
ما
أنت أغنيتي يا جحود ولا لغتي
ولا
أنت قافيتي يا جحود ولا وطني
وطني
حيثما مرَّ يعقوب زيَّادين يحمل ألواحه وصليبه».
وأنا
أؤكِّد ما كتبه الشهيد ناهض حتَّر عن رغبة حبيب الزيودي في مطلع
شبابه في أنْ يكون شيوعيّاً؛ حيث بناء على هذه الرغبة كلَّفني الحزب الشيوعيّ
الأردنيّ – في نطاق مسؤوليّتي
فيه عن قطاع الطلّاب آنذاك –
بأنْ أُتابع علاقة حبيب مع الحزب.
وفي
ديوانه الأخير «غيمٌ على
العالوك»، الصادر في شهر
تشرين الأوّل/أكتوبر 2012 (الشهر نفسه الذي رحل فيه عن هذه الفانية) قصيدة بعنوان «صايل»
أهداها «إلى رمز الوطنيّة
الأردنيّة الشهيد صايل الشهوان»،
وقد استهلَّها قائلاً:
«جَادَت
بِه شهقات الغيمِ فانسكبا
على
الفيافي رهاماً راهشاً عَذِبا
فتىً
به سمرة تغوي البنات إذا
ما
سرَّج المهرةَ الشهباء أو ركبا»
وفي
ختامها يقول:
«أولئك
الصيد آبائي وما عرفت
قصائدي
بعدهم أهلاً ولا نسبا
هوى
على الرمل فالدنيا لمن كتبت
دماؤه
الحقَّ، ما الدنيا لمن غَلبَا
سبعون
عاماً وما زلنا نعاتبه
على
الجنون فلم يسمع لنا عتبا».
نعم، «... الدنيا لمن كتبت دماؤه الحقّ، ما الدنيا لمن غَلبَا». ورحل حبيب في 27 تشرين الأوَّل/أكتوبر 2012 وهو في التاسعة والأربعين
مِنْ عمره. وفي قصيدة له بعنوان «إنَّ الحياة جميلة» (مِنْ ديوانه الأخير أيضاً)، قال متنبِّئاً بقرب
النهاية:
«عشتُ الحياة كما يليق بمرّها وبمرّها
وكما يمرّ السهم مِنْ جسد الغزال مررت
وحدي كنت في برّيّة الدنيا،
ولكن الرّماة بلا عددْ
كن راضياً يا قلب
إنَّ الرحلة اقتربت
فلا تجزع على أحدٍ
فقد عشت الحياة جميلة
فيها بيوتٌ،
والبيوت بها نوافذٌ،
والنوافذ لا تطلّ على أحدْ».
مهنيّون محترفون
نجيب محفوظ وغابرييل غارسيا ماركيز، على سبيل المثال، تعاملا
مع الكتابة كمهنة (مثل أيّ مهنة أخرى)، فكانا صارمين في تخصيص وقتٍ محدَّدٍ للعمل
فيها (دوام يبدأ من الساعة كذا وينتهي الساعة كذا)، وما قبل ذلك «الدوام» وما بعده، كانا يخصِّصانه لشؤون حياتيهما الأخرى.
لقد فَصَلا، بحزم، بين حياتيهما وبين كتابتهما، وتعاملا
مع الكتابة كحرفة.. مثل أيّ حرفة أخرى؛ ولهذا ظلّتْ حروف آيتيهما تترى وتتصاعد
حتَّى أواخر أيَّام حياتيهما المديدتين.
«كؤوس الخمر عند الفجر»..
أمّا أسد محمّد قاسم، فهو أيضاً اضطرّ لمغادرة البلاد
على إثر الأحكام العرفيّة. وبعد حياة طويلة قضاها في المنفى في بودابست وتزوَّج خلالها
بامرأة هنغاريّة وأنجب منها عدداً من الأبناء، قرَّر العودة منفرداً إلى مدينته
القديمة إربد (في العام 1992)، ليموت على أرض وطنه، على طريقة الهنود الحمر.
وذلك – بحسب قصيدة له - لأنَّ:
«السنين الباقيات
فارغات
ككؤوس الخمر عند الفجر في رأس السنة
صامتاتٍ متعبات
بعيونٍ جاحظات
وثغورٍ باسمات
مثل قبر
الندامى غادروا والليل مات»
وعلى أيّة حال، كما قال عمر الخيّام في رباعيّاته
(ترجمة أحمد رامي):
«فقد تساوى في الثرى راحلٌ غداً وماضٍ مِنْ الوف السنين!»
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سبق أنْ كتبتُ موضوعاً طويلاً أقارنُ فيه بين تيسير
السبول وبين فلاديمير ماياكوفسكي، وهو منشور في هذه المدوّنة بعنوان «غيمة ماياكوفسكي في بنطال تيسير السبول».
[2] اسم ألمع
قصيدة مِنْ قصائد ماياكوفسكي، وقد كتبها وهو في الثانية والعشرين مِنْ عمره.
[3] مقال عن لِيلِي بريك، ترجمه الشاعر والمترجم المصريّ
عماد أبو صالح، ونُشِرَ في مجلّة «الفيصل» تاريخ 31 آب/أغسطس 2017.
[4] الموضوع
السابق نفسه.
[5] سبق أنْ
عرفتُ مِنْ بعض الذين يتقنون اللغة الروسيّة أنَّ الروس يلفظون اسمه هكذا بما يقرب
مِنْ لفظه بالعربيّة، وليس «جوزف» كما تسرّب إلينا من اللغة الإنجليزيّة. ولا يقتصر الأمر على لفظ الاسم. ففي
بلادنا، ينظر كثيرون – مع الأسف – إلى ستالين والسوفييت بعيون غربيّة، بل بعيون أنجلو سكسونيّة تحديداً.
[6] مقال عن لِيلِي بريك، ترجمه الشاعر والمترجم المصريّ
عماد أبو صالح، ونُشِرَ في مجلّة «الفيصل» تاريخ 31 آب/أغسطس 2017.
[7] «فصل في الجحيم» هو اسم ديوان شعريّ لآثر رامبو.
[8] مِن التجارات البائسة، التي خاض فيها آرثر رامبو،
تجارة الرقيق.. بما يخالف انحيازه للحرّيّة في أشعاره.
[9] مقال لجهاد فاضل، بعنوان «مَنْ بدأ الشعر الحرّ»، نُشِرَ في صحيفة «الرياض» - 15
يناير 2013م - العدد 16276.
[10]
«مدِّ
اللسان الصغير في وجه العالم الكبير»
اسم كتاب قصصيّ لمؤنس الرَّزَّاز.
[11]
«رجل
جالس على جاعد»
اسم زاوية صحفيّة كان محمد طمّليه يكتب مقالاته تحتها في مرحلة مِنْ مراحل عمله
الصحفيّ.
[12]
«نصوص
خادشة للحياد العامّ»
هو الوصف الذي استخدمه محمد طمّليه لأحد كتبه الذي يشتمل على قسمٍ مِنْ مقالاته.
[13] جابر جابر، مِنْ ملفّ خاصّ عن محمّد طمّليه
نُشِرَ في موقع «حبر»
يوم الأحد 24 شباط 2019.
[14]
نُشِرَ هذا المقال في موقع «عمّون»
في تاريخ 27 تشرين الأوّل/أكتوبر 2012. وكان بعنوان «حبيب
الزيوديّ شاعر الحركة الوطنيّة الأردنيّة».